ملخص
تشهد غزة فوضى متفاقمة وصراعاً داخلياً متصاعداً مع بروز ميليشيات فلسطينية مناهضة لـ"حماس" خلف "الخط الأصفر" الذي تسيطر عليه إسرائيل، تزعم أنها البديل المقبل لحكم القطاع وتنسّق مع إدارة ترمب ضمن خطة ما بعد الحرب. ومع تفشي المجاعة والانقسام، تتهم تقارير إسرائيلَ بدعم هذه الجماعات لإضعاف "حماس"، فيما تتعهد الحركة بملاحقة خصومها وسط انهيار أمني شامل.
يحمل أفراد الميليشيات الفلسطينية المناهضة لـ "حماس" والمتمركزين خلف خطوط الانسحاب الإسرائيلية في غزة، رسالة إلى المسلحين والعالم: "نحن أبناء غزة وشبابها ضد 'حماس' وحان الوقت لطرد 'حماس' من غزة ".
يتحدث أبو عواد، وهو أحد قادة القوات الشعبية والمتحدث باسمها، من شرق رفح في جنوب غزة، وهي منطقة تحتلها القوات الإسرائيلية قرب الحدود مع مصر، وفي منطقة تبعد أقل من 10 كيلومترات عن هذا المكان، يدير حسام الأسطل فصيلاً مسلحاً مختلفاً يسمى "القوة الضاربة لمكافحة الإرهاب"، وهي تتمركز بدورها وراء الخطوط الإسرائيلية لكن في شرق غزة، ويقول لـ "اندبندنت" إنه على اتصال بالفعل مع إدارة ترمب في شأن مرحلة ما بعد الحرب في غزة، ويريد العمل مع توني بلير، مضيفاً "اليوم نحن من نتمتع بالصدقية، إننا مصممون وقادرون، وفي المستقبل القريب سنكون نحن (الموجودين هنا) لا ’حماس’".
هاتان الميليشيتان المتحالفتان والمناهضتان لـ "حماس"، لكن المنتميتان إلى إقطاعيات منفصلة، تعدان اثنتين من فصائل عدة نشأت بعد اندلاع الحرب في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، واتهمت منذ ذلك الحين بأنها مسلحة أو ممولة أو مدعومة من إسرائيل، وهما الآن داخل ما يعرف بـ "المنطقة الصفراء"، وهي المنطقة التي انسحبت إليها القوات الإسرائيلية وتسيطر عليها ضمن صفقة هدنة برعاية دونالد ترمب، وتشكل أكثر من نصف القطاع المدمر.
وتنفي المجموعتان اتهامات التعاون مع إسرائيل، وتقولان إنهما تنسقان معها للحفاظ على وجودهما خلف الخطوط التي تتمركز فيها قواتها، ومع تصاعد العنف داخل غزة تحرصان على توجيه رسائل متشابهة بأن "حماس" التي تكافح لاستعادة السيطرة على القطاع، كما تزعمان، في طريقها إلى الزوال.
تنامي العنف الداخلي في غزة وسط المجاعة والدمار
بعد عامين من حملة قصف وحصار إسرائيلية غير مسبوقة على غزة أسفرت عن مقتل أكثر من 67 ألف شخص، وفقاً للمسؤولين المحليين، وتدمير مساحات شاسعة من الأراضي، دفعت الضغوط الهائلة على المجتمع الغزي الانقسامات الداخلية إلى نقطة الانفجار، ومع تفشي المجاعة وانتشار اليأس سادت ظواهر نهب المساعدات والسرقة والأنشطة العنيفة التي مارستها العصابات والعشائر والمجموعات المسلحة، وفي الوقت نفسه ازداد الغضب من حركة "حماس" التي قادت الهجمات الدموية في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على جنوب إسرائيل، وأسفرت عن مقتل أكثر من 1000 شخص وأدت إلى شن إسرائيل هجومها القاتل الأخير، فازدادت المعارك بين "حماس" وخصومها.
وقد تصاعد هذا العنف بعد موجة الارتياح التي أعقبت اتفاق ترمب لوقف إطلاق النار، ومنذ ذلك الحين اندلعت اشتباكات مع خروج مقاتلي "حماس" من الأنفاق لاستعادة السيطرة على المناطق التي انسحب منها الجيش الإسرائيلي، وخلال عامين لقي مئات الفلسطينيين حتفهم نتيجة ذلك.
ومنذ أكتوبر 2023 يقول باحثون من "مشروع بيانات مواقع الصراعات المسلحة وأحداثها" (أكليد) Acled إنهم سجلوا وقوع أكثر من 245 حادثة عنيفة بين الفلسطينيين، منفصلة عن الحرب مع إسرائيل، أسفرت عن مقتل 400 فلسطيني، وكان من بين هؤلاء ضباط شرطة وأبناء عشائر وقادة عصابات وسارقين ونشطاء مناهضين لـ "حماس"، وعملاء مزعومين وتجار متهمون بالاستغلال والتربح من الحرب، وبحسب "أكليد" الذي نشر تقريراً جديداً خلال الآونة الأخيرة، فإن ما يقارب نصف هذه الأحداث العنيفة مرتبط بقوات الشرطة التابعة لـ "حماس" والمسماة "سهم" و"رادع" التي تشكلت عام 2024، وهي مكلفة، بحسب صفحاتها على وسائل التواصل الاجتماعي، بمطاردة "المتعاونين والمجرمين" المزعومين، وتقول بيانات "أكليد" إن أحد أهدافها الرئيسة هو فصائل القوات الشعبية وحلفائها في شرق وشمال غزة.
من هي الميليشيات المناهضة لـ "حماس"؟
تشكلت القوات الشعبية على يد القيادي الغامض ياسر أبو شباب الذي تتحدر عائلته من قبيلة الترابين البدوية المعروفة، وتفيد التقارير بأنه كان مسجوناً لدى "حماس" بتهمة تهريب المخدرات عند اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، وأثناء حديثه مع "اندبندنت" من داخل رفح، يزعم المتحدث باسم القوات الشعبية أبو عواد بأن مجموعته تضم الآن 5 آلاف رجل، من دون أن يقدم أي إثبات على ذلك.
ووردت تقارير عدة، جاء بعضها في وسائل الإعلام الإسرائيلية، عن قيام قواتهم بنهب المساعدات وتلقي دعم إسرائيلي، ثم تولّي تشغيل مواقع توزيع مساعدات مثيرة للجدل تديرها إسرائيل، ويرفض أبو عوّاد هذه الاتهامات ويصفها بأنها دعاية من "حماس"، ويقول إن لهم اتصالاً غير مباشر بالإسرائيليين عبر وسطاء عرب، مضيفاً بلهجة تهديد "لدينا خمسة أضعاف عدد جنود 'حماس' ونحن مستعدون للهجوم: سنرسلهم وأفراد عائلاتهم إلى الجحيم".
شرق خان يونس، وأيضاً خلف الخط الأصفر الذي تسيطر عليه إسرائيل عسكرياً، يتمركز حسام الأسطل الذي يقول إنه على تواصل مع إدارة ترمب ويريد العمل مع بلير الذي اختاره الرئيس الأميركي للإشراف على الفترة الانتقالية داخل القطاع المدمر، وحتى عام 2015 كان الأسطل مسؤولاً أمنياً في السلطة الفلسطينية، المنافسة لحركة "حماس"، وعاش في المنفى فترات متقطعة، ويقول إنه عاد لغزة عام 2021، لكن "حماس" سجنته عامين وحكمت عليه بالإعدام بتهمة التعاون مع العدو، وهي تهمة ينفيها.
وبعد ارتباطه في البداية بعشيرة المجايدة المعارضة لـ "حماس" في خان يونس، أسس القوة الضاربة لمكافحة الإرهاب شرق المدينة، ويقول "نحن الإدارة الجديدة في غزة" فيما يشارك فيديوهات لنفسه وهو يوزع الحلوى على أطفال منطقته التي تعيش فيها 70 عائلة اليوم، بحسب زعمه، جنباً إلى جنب مع الجنود الإسرائيليين، مضيفاً "نحن على تواصل مع إدارة ترمب"، زاعماً بأنه يتواصل أيضاً مع القوات التي ستشكل "قوة الاستقرار الدولية" المزمع أن تتسلم إدارة أمن القطاع بموجب خطة ترمب، ويضيف "نحن نحب توني بلير ودونالد ترمب وأية جهة تدعو إلى السلام ونود التعاون معهم، نحن مع السلام".
وفي بيت لاهيا، شمال غزة وأيضاً ضمن الخط الأصفر، يوجد فصيل ثالث يبدو أنه تفرع عن القوات الشعبية شكله شخص يدعى أشرف المنسي، وقد نشرت محطة "سكاي نيوز" أخيراً لقطات جرى التحقق منها يقال إنها تظهر فصيل المنسي شمال غزة ينقل إمدادات من قاعدة إسرائيلية.
"حماس" وعشائر غزة والعنف المتصاعد
فيما أعلن ترمب من القدس بزوغ "فجر جديد للشرق الأوسط"، خلال وقت سابق من الشهر الجاري، بدأت مشاهد صادمة تتداولها وسائل التواصل من غزة لما يبدو أنه إعدامات ميدانية نفذتها "حماس" بحق أفراد إحدى العشائر، حيث تعيش في غزة عشرات من هذه العشائر أو "الحمائل"، وخلال العامين الماضيين سجل مشروع "أكليد" معارك بين حركة "حماس" وأفراد من عشيرة أبو سمرة في منطقة دير البلح وسط القطاع، وعشيرة حلس في أحياء الشجاعية بمدينة غزة، وشرقاً مع عشيرة المجايدة في محيط خان يونس، التي يقول الأسطل إنه كان يساعدها في الأصل.
وفي أحدث معركة دامية وغامضة الملابسات وقعت قبل أكثر من أسبوع بقليل، قالت مصادر طبية إن ما لا يقل عن 27 شخصاً، بينهم الصحافي الفلسطيني صالح الجعفراوي، قتلوا في اشتباك بين "حماس" وأفراد من عشيرة دغمش المقيمين في حي الصبرة بمدينة غزة، ولعائلة دغمش تاريخ متقلب، إذ كان بعض أفرادها جزءاً من تنظيم "جيش الإسلام" الذي اختطف مراسل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) آلان جونستون عام 2007.
وفي وقت لاحق نشرت على الإنترنت مقاطع مصورة مروعة تظهر مسلحين ملثمين يطلقون النار علناً على سبعة رجال عرف أنهم من أفراد عشيرة دغمش، وكانوا مقيدي الأيدي ومعصوبي الأعين وراكعين، بينما كانت الحشود تهتف من حولهم.
وظهرت هذه المنشورات على حسابات عبر تطبيق "تيليغرام" مرتبطة بوحدة "سهم" التابعة لـ "حماس"، واتهمت الرجال بالتعاون مع إسرائيل، وهو اتهام تنفيه عائلة دغمش بشدة.
وفي بيان قالت العائلة إن "700 من أبنائها قتلوا دفاعاً عن غزة"، وإنها "ثبتت في وجه العدوان الإسرائيلي"، داعية إلى اجتماع طارئ للعشائر الأخرى لمناقشة أعمال العنف، وفي مقطع مصور آخر تظهر عناصر شرطة "حماس" الملثمة وهي تطلق النار على رجال تتهمهم بالنهب والتعاون مع إسرائيل، مستهدفة أرجلهم وكسر أطرافهم، فيما كان الضحايا يصرخون ألماً، وجاء في أحد المنشورات "هذا مصير كل خائن للوطن والدين".
ورداً على الأحداث أصدرت إدارة ترمب بياناً قالت فيه وزارة الخارجية عبر منصة "إكس" إنها تملك "تقارير موثوقة تفيد بوقوع انتهاك وشيك لوقف إطلاق النار من جانب 'حماس' ضد سكان غزة"، وجاء التحذير الأميركي من دون أية تفاصيل إضافية، متزامناً مع انتهاء مهلة العفو التي منحتها "حماس" الأسبوع الماضي لما سمتها "العصابات الإجرامية" والمجموعات المسلحة لتسليم نفسها.
وردت "حماس" باتهام واشنطن بالاستناد إلى "دعاية إسرائيلية مضللة"، ودافعت عن حملتها الأمنية بوصفها "واجباً وطنياً"، متهمة إسرائيل بتشكيل وتسليح وتمويل "عصابات إجرامية" نفذت جرائم قتل وخطف ونهب قوافل المساعدات وسرقة ممتلكات المدنيين الفلسطينيين.
كيف وصلنا إلى هنا؟
سارعت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية إلى استغلال موجة العنف الداخلي لتصوير حركة "حماس" على أنها "تنظيم داعش الجديد"، حتى إن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي نداف شوشاني شارك على منصة "إكس" مقطع الفيديو الدموي الذي يوثق إعدام أفراد من عائلة دغمش، مصحوباً بتعليق يقول فيه: "هذه هي ’حماس’".
لكن خبراء يحذرون من أن بعض أعمال العنف هي صنيعة السياسة الإسرائيلية بصورة جزئية، إذ تستفيد تل أبيب من إضعاف "حماس" ومن حال التناحر بين الفصائل الفلسطينية، ففي مقطع مصور نشره في يونيو (حزيران) الماضي، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن إسرائيل حركت العشائر في غزة عمداً لمواجهة "حماس".
ويشير تقرير مشروع "أكليد" إلى أن الانهيار الأمني في القطاع يعود في جانب منه لسعي إسرائيل إلى إضعاف الأجهزة المدنية التابعة لـ "حماس"، والمسؤولة عن إدارة شؤون الحياة اليومية، ومنذ بداية الحرب سجلت "أكليد" ما يناهز 100 غارة جوية إسرائيلية استهدفت أفراداً ومنشآت مرتبطة بحكومة "حماس"، فضلاً عن بلديات وقوات للشرطة ومنشآت قضائية، كما تقول إن الجيش واصل استهداف أفراد شرطة "حماس"، بما في ذلك أولئك المكلفون بتأمين قوافل المساعدات ومنع عمليات النهب.
في الأثناء تتزايد التقارير التي تتحدث عن قيام إسرائيل بتسليح بعض الجماعات المناهضة لـ "حماس"، فقد ذكرت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" أن زعيم المعارضة ووزير الدفاع السابق أفيغدور ليبرمان اتهم نتنياهو بذلك في يونيو الماضي، لكن الأخير رد متسائلاً "وما الخطأ في ذلك؟".
تواصلت "اندبندنت" مع الجيش والحكومة الإسرائيليين للتعليق، لكنها لم تتلق أي رد حتى الآن، كما تواصلت مع حركة "حماس" دون أن تتلقى رداً أيضاً، ويقول مساعد مدير أبحاث الشرق الأوسط في مشروع "أكليد"، ناصر خضور، إن الفريق جمع تقارير نشرت أيضاً في وسائل إعلام إسرائيلية، تزعم أن إسرائيل سمحت لجماعات مثل القوات الشعبية بالسيطرة على المساعدات والاستيلاء عليها، ثم لاحقاً بتأمين خطوط الإمداد، وقد ظهر ياسر أبو شباب في صورة التقطت في مايو (أيار) الماضي مرتدياً سترة واقية من الرصاص، ويبدو أنه كان يوجه سير قوافل المساعدات عند معبر كرم شالوم.
ويضيف خضور: "استناداً إلى تقارير أخرى صودرت أسلحة من "حماس" خلال الحرب وسلّمت إلى هذه الجماعات".
ماذا سيحدث لاحقاً؟
أوضح بنيامين نتنياهو أنه لن يقبل قيام دولة فلسطينية، وقد وجهت إليه اتهامات بانتهاج سياسة "فرق تسد"، إذ يدعم أحياناً حركة "حماس" أو يضعفها، وكذلك السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، تبعاً لما يخدم مصلحته في استثمار الانقسامات بين الجانبين، ويرى خضور أن هذا التوجه بات أكثر إلحاحاً بالنسبة إلى إسرائيل، في ظل النقاشات الدائرة حول إحياء حل الدولتين بمشاركة السلطة الفلسطينية في إدارة غزة بعد الحرب، ويقول إنه "بعد السابع من أكتوبر رأت إسرائيل في حركة 'حماس' طرفاً خطراً لا يجوز أن يبقى في السلطة داخل غزة، ولذلك بدأت تبحث عن أطراف أخرى، وكان جزء من هذا التوجه هو الاعتماد على بعض العشائر والجماعات المسلحة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي خضم ذلك تعهدت "حماس" بمطاردة كل من تشتبه في تعاونه مع خصومها، لكن هذا لا يبدو أنه يثير قلق "القوات الشعبية" التي نشرت قائمة بأسماء مقاتلين من "حماس" في أنحاء القطاع جمعتها بنفسها، وقالت إنها "تنتظر الضوء الأخضر للهجوم".
وذكر أبو عواد "ستدخل قريباً قوات دولية إلى غزة وسيجرد عناصر 'حماس' من سلاحهم بالقوة، فلقد انتهى أمرهم فعلياً".
ومن مقره في شرق غزة خلف الخط الأصفر، يقول حسام الأسطل إنه أنشأ مدينة إنسانية للنازحين، مؤكداً أن فصيله ليس عصابة ولا ميليشيات، ومضيفاً "لا السلطة الفلسطينية ستساعدنا ولا إسرائيل ستساعدنا، ولا الأميركيون سيقدمون لنا المساعدة، سيتعاونون معنا لكن يجب أن يأتي ذلك من هنا، من الداخل، وأقول لكم نحن غزة الجديدة".
© The Independent