ملخص
أرست الحكومات المغربية المتعاقبة عديداً من البرامج والمخططات الإصلاحية لقطاع التعليم، من قبيل "الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، و"المخطط الاستعجالي"، و"الرؤية الاستراتيجية للفترة بين 2015 و2030، و"القانون الإطار 17.51" الذي يروم ردم الفجوة بين التعليم العمومي والتعليم الخصوصي، وأيضاً إقحام الرقمنة والذكاء الاصطناعي إلى المقررات والمناهج التعليمية.
عدا المطالبة بتحسين خدمات الصحة وإرساء عدالة اجتماعية وتوزيع عادل للثروة بين مناطق البلاد، تركزت شعارات شباب "جيل زد" بالمغرب منذ بداية شرارة الحراك في الـ27 من سبتمبر (أيلول) الماضي وإلى اليوم، بعد توقفات موقتة، على ضرورة الرقي بقطاع التعليم وإصلاح أعطابه العديدة. وفي وقت تعد فيه الحكومة بإيلاء عناية أكبر بقطاع التعليم الذي خصصت له 15 مليار دولار، مع قطاع الصحة، في موازنة سنة 2026، وتقر بوجود أوجه قصور في هذا القطاع الاجتماعي الحيوي، فإن تقارير مؤسسات رسمية ترصد "فجوات بين الطموح والواقع"، وتراكمات لصياغة سياسات ومبادرات من دون أن يظهر أثر الإصلاحات على أرض الميدان.
مطالب بإصلاح التعليم
صدحت حناجر شباب "جيل زد" في المغرب بشعارات تدعو إلى النهوض بأوضاع التعليم، خصوصاً إنقاذ المدرسة العمومية بسبب مشكلات عدة منها سوء التدبير والاكتظاظ وتراجع مستوى التلاميذ، فضلاً عن تغول التعليم الخصوصي، وخصخصة التعليم العالي بالبلاد. وفي جواب غير مباشر للحكومة عن مطالب "شباب زد"، من المقرر أن تعرف موازنة سنة 2026 ارتفاعاً في قطاعي التعليم والصحة على وجه الخصوص، فضلاً عن العمل على تسريع وتيرة إصلاح المنظومة التعليمية وتطوير جودة التعليم وتعزيز خدمات دعم التمدرس. وتعمل الحكومة على إعادة النظر في المثلث التربوي المشكل من الأستاذ والتلميذ والمدرسة، وتنزيل "خاطرة الطريق" الموضوعة للفترة الزمنية من عام 2022 إلى عام 2026، والقاضية بمحاربة الهدر المدرسي وتمكين التلاميذ من الكفايات التعليمية الأساسية وتوفير البيئة التربوية السليمة لتدريس التلاميذ والطلبة.
في الأثناء رصدت تقارير مؤسسات رسمية أعطاب التعليم في المغرب، من قبيل المجلس الاجتماعي والاقتصادي الذي سجل أن هذا القطاع يعرف تحسناً بوتيرة أبطأ من المأمول، وأن المطلوب توفير مهارات حقيقية للتلاميذ، وليس الذهاب والإياب من وإلى المدرسة فقط.
تقارير أخرى انتقدت وضعية المؤسسات التعليمية في المغرب، وتحدثت عن نقص في جودة التعلم، باعتبار أن الأهم هو ما يحصله التلميذ وما يكتسبه من مهارات، وليس فقط ترداده على المدرسة، كما كشفت عن الحاجة إلى تنفيذ سياسات على أرض الواقع بدل مراكمتها من حكومة إلى أخرى.
أحلام كونية في مدرسة محلية
في السياق قالت الباحثة في الشأن التربوي والتعليمي حسنية حسيب إن "جيل زد" المغربي يعيش اليوم نمطاً جديداً من التعلم لا تحده جدران المدرسة، "بل يمتد إلى فضاءات رقمية كونية، من قبيل 'تيك توك' و'يوتيوب' و'إنستغرام'، وغيرها، حيث يبني هناك وعيه بذاته وبالعالم، ويقارن بين واقع تعلمه وطرق تعلم نظرائه في بلدان متقدمة، فيرتفع منسوب طموحه وتوقعاته". وتابعت حسيب "حين يعود إلى القسم يصطدم بواقع آخر: بنية تحتية متواضعة، أساليب تدريس تقليدية، ومناهج لا تواكب العصر ولا تترجم وعود المدرسة المغربية، فتنشأ الفجوة بين التعلم الرقمي الحر والتعليم المؤسساتي المقيد، ويتحول الإحباط إلى شعور جمعي بفقدان الجدوى من المدرسة"، وبعد أن أقرت الباحثة في الشأن التربوي والتعليمي بأنه لا يمكن إنكار أن الوثائق المرجعية الكبرى لإصلاح التعليم في المغرب قد عبرت عن إرادة واضحة لإرساء مدرسة الجودة والإنصاف والكفايات، أكدت أن الواقع الميداني ظل متأخراً عن هذا الطموح، "فغابت الفعالية في التنفيذ، وبقيت الفجوة قائمة بين الخطاب الرسمي والممارسة اليومية في القسم، ومع مرور الوقت، لم يعد المجتمع يقوم الإصلاح بنصوصه، بل بأثره الملموس في المدرسة". ونبهت حسيب إلى أنه "حين لا ترى الأسر والفاعلون أثراً حقيقياً لهذه الإصلاحات، تتراجع الثقة في المدرسة كمؤسسة اجتماعية، ويضعف ما يمكن تسميته الرأسمال الرمزي للثقة في الإصلاح".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شهادات بلا معنى
وأشارت الباحثة التربوية إلى أن أحد أبرز تحولات المشهد التعليمي المغربي اليوم، "هو تراجع القيمة الرمزية للشهادة، إذ إن الشهادة في الماضي، كانت تعني الكفاءة، وترمز إلى الجدارة والاستحقاق الاجتماعي، أما اليوم، فقد انفصلت عن معناها، وصار كثير من الشهادات لا يضمن لأصحابه عملاً ولا تقديراً اعتبارياً". ولفتت إلى أن "جيل زد" الذي خرج إلى الشارع لا يحتج فقط على المناهج أو الاكتظاظ، بل على انهيار المعنى "دراسة بلا مردود، وشهادة بلا أفق، وحين تسقط رمزية الشهادة، تتهاوى معها شرعية المدرسة كسلم للترقي الاجتماعي، لتصبح المطالبة بإصلاح التعليم صرخة أعمق من مجرد مطلب مادي". وعرَّجت حسيب على ملف تدريس اللغات ولغات التدريس كأحد أهم الوجوه الخفية للأزمة، شارحة بأنه خلف النقاشات التقنية حول المناهج والبنى التحتية، "تكمن أزمة لغوية عميقة تمس جوهر العدالة التعليمية، فالمنظومة المغربية ظلت تتأرجح بين التعريب والفرنسة من دون رؤية موحدة أو تهيئة متكافئة". وتابعت أن "تلميذاً يدرس العلوم باللغة العربية في مستويات الثانوي، يجدها بالفرنسية في الجامعة، ومتعلم في التعليم العمومي يواجه صعوبة لغوية لا يعرفها زميله في التعليم الخصوصي، وتحولت اللغة إلى خط فاصل طبقي جديد، وصار الرأسمال اللغوي (الفرنسية أو الإنجليزية) هو المحدد الحقيقي لمستقبل الأفراد أكثر من كفاءتهم العلمية". وخلصت حسيب إلى أن الخروج من أزمة التعليم لا يمر عبر إصلاح المناهج فحسب، "بل عبر استعادة الثقة والمعنى، إذ ينبغي أن تعيد المدرسة المغربية بناء علاقتها بالمتعلم بوصفه فاعلاً رقمياً كوني الوعي، وأن تصالح بين الأفق العالمي للجيل الجديد والطموح الوطني للعدالة التربوية، لأن المدرسة التي لا تنصت إلى تحولات جيلها، محكوم عليها أن تبقى خارج التاريخ".
أسباب فشل سياسات الإصلاح
وأرست الحكومات المغربية المتعاقبة عديداً من البرامج والمخططات الإصلاحية لقطاع التعليم، من قبيل "الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، و"المخطط الاستعجالي"، و"الرؤية الاستراتيجية للفترة بين 2015 و2030، و"القانون الإطار 17.51" الذي يروم ردم الفجوة بين التعليم العمومي والتعليم الخصوصي، وأيضاً إقحام الرقمنة والذكاء الاصطناعي إلى المقررات والمناهج التعليمية. وعلى رغم الجهود الحكومية المبذولة لإصلاح قطاع التعليم، ظل، باعترافات حكومية متطابقة، قطاعاً اجتماعياً عصياً على الإصلاح الحقيقي والعميق، لأسباب عدة لخصها الباحث التربوي محمد الصدوقي بأنها "أسباب سياسية تتعلق بطبيعة القرار التعليمي ومن يمتلك سلطة اتخاذه، وهنا يتعلق الأمر بعلاقة المنظومة التعليمية بالسلطات السياسية مالكة القرار التربوي التعليمي، إذ إنها متعددة بتعدد المصالح الداخلية للحكومات المتعاقبة، وبتعدد مصالح القوى والشركاء الخارجيين". وتحدث الصدوقي عن أسباب تفسر فشل سياسات إصلاح التعليم، "وهي التي تتعلق بقيادات وتدبير الإصلاح مركزياً، حيث غالباً لا يكون اختيارها على أساس الكفاءة العلمية والخبرة الميدانية والمهنية"، مضيفاً عوامل أخرى ترتبط بتمويل القطاع، "إذ لا يتم توفير الموازنة الكافية والحقيقية لتدبير القطاع والنهوض به على مستوى الموارد البشرية، والبنايات والتجهيزات والخدمات التربوية وغيرها، ما يخلف ظواهر سلبية تعوق نجاح أي إصلاح، كتنامي ظاهرة الاكتظاظ، والأقسام ذات المستويات المتعددة، والخصاص في الكوادر التربوية والإدارية، وتنامي ظاهرة الهدر المدرسي". ولم يفت الصدوقي الإشارة إلى أسباب لها علاقة مباشرة بالاختيارات البيداغوجية، "إذ غالباً ما تطغى عليها المقاربات التقليدية والأيديولوجية عوض تبنى المقاربات البيداغوجية العلمية والحديثة والفعالة"، لافتاً أيضاً إلى أسباب أخرى تتعلق بطبيعة المحيط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والنفسي والقيمي للمدرسة العمومية المغربية، "باعتباره محيطاً هشاً ومعيقاً سلبياً، لا يوفر شروط النجاح التعليمي".