ملخص
بينما يواجه آلاف المطاعم الصغيرة في أنحاء إيران خطر الإفلاس، يشهد قطاع آخر من سوق الأغذية اتجاهاً واضحاً نحو البذخ والتفاخر. ففي شمال طهران وبعض المناطق الأخرى، تنشط مطاعم تدرج أسعار وجباتها بالدولار، وتفوق كلفة الدخول إلى بعضها سعر أغلى وجبة في مطاعم المناطق العادية.
يواجه عدد من المطاعم في إيران خطر الإغلاق، بسبب التضخم المتكرر وارتفاع أسعار المواد الخام الغذائية وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين. ويؤكد أصحاب هذه المشاريع أن مواصلة العمل في ظل الأسعار الحالية وتزايد التكاليف لم تعد مجدية اقتصادياً، مما وضع عدداً كبيراً من الوحدات التجارية على حافة الإقفال الكامل.
وتظهر البيانات الميدانية أن طلبات الطعام من المطاعم خلال النصف الأول من عام 2025 شهدت زيادة بنسبة تقارب 25 بالمئة مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، وهو ما يعكس تغييراً في سلوك المستهلكين الذين باتوا يفضلون شراء الطعام من مراكز الإعداد الأرخص، نتيجة ارتفاع تكاليف المعيشة. وقد أدى هذا التحول إلى تراجع ملاحظ في أعداد الزبائن لدى المطاعم، التي كانت تعد سابقاً مقصداً للطبقة المتوسطة في المدن.
كما تشير مراجعة الأسعار خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى أن تضخم أسعار المواد الغذائية انعكس مباشرة على قوائم الطعام في المطاعم. فعلى سبيل المثال، ارتفع متوسط سعر "بيتزا الببروني" في طهران من 345 ألف تومان (3.2 دولار) في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي إلى 375 ألف تومان (3.47 دولار)، أي بزيادة تقارب تسعة في المئة خلال ثلاثة أسابيع فقط.
في السياق ذاته، بلغ سعر سيخ واحد من "كباب كوبيده" في مطاعم وسط العاصمة بين 180 و220 ألف تومان (نحو 2 دولار)، مسجلاً زيادة تتراوح بين 10 و12 في المئة مقارنة بشهر أغسطس (آب) الماضي. أما في قوائم الطعام الإيرانية، فقد ارتفع سعر طبق "جلو جوجهکباب" من 240 (2.52 دولار) ألف تومان في شهر أبريل (نيسان) الماضي، إلى ما بين 280 و300 ألف تومان (2.77 دولار) في معظم المطاعم حالياً.
الفقر الاقتصادي وتزايد التكاليف يدفعان المطاعم نحو الإغلاق
على رغم الارتفاع المستمر في أسعار مختلف أنواع الطعام، تؤكد نقابة أصحاب المطاعم أن هامش الربح في هذا القطاع تراجع بنسبة تصل إلى 10 في المئة خلال العام الحالي. وتقلص حجم الوجبات، مثل خفض كمية الرز من 350 غراماً إلى 280 غراماً، لم يسهم سوى بصورة محدودة في تعويض تكاليف الإنتاج المتزايدة.
وقد شكل ارتفاع أسعار سلع أساسية، مثل الرز واللحوم والبقوليات، خلال العام الماضي أحد العوامل الرئيسة وراء قفزة أسعار الوجبات في المطاعم. ووفقاً للبيانات الرسمية، فإن أسعار المواد الغذائية في إيران ارتفعت خلال العقد الأخير بأكثر من 30 ضعفاً، وهو ما انعكس بصورة مباشرة على الكلفة النهائية لتشغيل المطاعم.
إلى جانب ذلك، شهدت تكاليف أخرى مثل إيجارات المحال والخدمات الأساسية، بما فيها أجور العمال وفواتير الماء والكهرباء والغاز، زيادات ملاحظة خلال الفترة ذاتها. ودفعت هذه الضغوط كثيرين من أصحاب المطاعم إلى اعتماد أساليب تقشفية، مثل خفض الجودة وتقليل الكميات المقدمة، أو طرح قوائم جديدة تحت مسمى "القائمة الاقتصادية"، وهي قوائم تسوق على أنها خيار مناسب للمستهلك، لكنها تعكس في واقع الأمر تراجعاً في جودة ومعايير الأطعمة المقدمة.
ظهور "القوائم الاقتصادية" تهديد لصحة المستهلكين
على رغم أن ظاهرة "القوائم الاقتصادية" تبدو للوهلة الأولى محاولة لجذب الزبائن والحفاظ عليهم، إلا أنها تثير قلقاً متزايداً من جانبين. أولاً، من جهة تعزيز الإحساس بعدم المساواة الاجتماعية بين من يستطيعون دفع كلفة القائمة الأصلية، وبين من لا خيار أمامهم سوى الاكتفاء بالنسخة الأرخص.
ثانياً، تراجع جودة المواد الأولية بصورة لافتة، وهو ما يعد تهديداً مباشراً لصحة المواطنين. ففي كثير من هذه المطاعم، جرى استبدال الرز الإيراني برز مستورد منخفض الجودة، كما تم تقليص كمية اللحم في وجبات الكباب. وفي بعض الحالات، تستخدم منكهات ومضافات غذائية رديئة لتحسين الطعم.
وفي مايو (أيار) الماضي، حذر رئيس نقابة الكباب والمأكولات التقليدية في طهران حسين محمدي من البيع الرخيص غير المنطقي، معتبراً أن البيع بأسعار منخفضة في قطاع الأغذية، لا سيما الكباب والمأكولات التقليدية، يرقى إلى مستوى بيع السموم. وأكد أن استخدام مواد أولية غير صالحة ومحسنات غير مرخصة، مثل مستخلص الزعفران الصناعي، يزيد من احتمالات الإصابة بأمراض خطرة، بما في ذلك السرطان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تفاوت الأسعار وغموض في الجودة يثيران القلق في قطاع المطاعم
اتجه عدد من المطاعم في الوقت الراهن إلى تقسيم قوائم طعامها إلى ثلاث فئات: الخاصة، والعادية، والاقتصادية. فعلى سبيل المثال، يبلغ سعر طبق "جلو كباب كوبیده" في القائمة الخاصة أكثر من 500 ألف تومان (4.62 دولار)، بينما يتراوح في القائمة العادية بين 300 و350 ألف تومان (3.24 دولار)، وفي القائمة الاقتصادية بين 150 و200 ألف تومان (1.85 دولار). هذا التفاوت الكبير في الأسعار، حتى مع احتساب استخدام الرز المستورد وتقليل كمية اللحم، لا يزال يثير علامات استفهام. ويرى خبراء أن جزءاً من هذا الفارق ربما يعود لاختلالات في سوق المواد الأولية وغياب الرقابة الفعالة.
ويحذر مختصون في سوق الأغذية من أن استمرار هذا الوضع لن يؤدي فقط إلى تراجع عدد المطاعم العاملة، بل سيؤثر أيضاً بصورة متزايدة في جودة وسلامة الغذاء المقدم في البلاد. وتشير التقديرات إلى أن صناعة الأغذية في إيران، التي كانت في السابق من أنشط قطاعات الخدمات، تمر حالياً بمرحلة تآكل تدريجي تعود جذورها لمزيج خطر من التضخم البنيوي والفقر الواسع وضعف آليات الرقابة.
قوائم نصف الوجبة إهانة اجتماعية وتجسيد للفقر الخفي
إلى جانب ظاهرة القوائم الاقتصادية، يشهد قطاع المطاعم في إيران انتشار شكل جديد من التسعير يعرف بـ"قائمة نصف الوجبة". هذا النوع من القوائم، الذي صمم في البداية لجذب الزبائن من ذوي الدخل المحدود، تحول اليوم إلى رمز يجسد الفقر الاجتماعي. ففي هذه القوائم، تقدم كميات الطعام بنصف حجم الوجبة العادية، وأحياناً تقسم نصف الوجبة نفسها إلى فئتين: عادية واقتصادية. وعلى رغم ما تحمله هذه المبادرات من طابع داعم ظاهرياً للمستهلك، إلا أنها تعكس بوضوح اتساع الفجوة الطبقية التي تعمقت في المجتمع الإيراني خلال السنوات الأخيرة.
وعلى رغم هذه المحاولات لتقليل التكاليف وجذب الزبائن، فإن وتيرة إغلاق المطاعم وتكبدها الخسائر، التي بدأت منذ تفشي جائحة كورونا، لا تزال مستمرة. ففي مايو عام 2023، أعلن نادر رفتاري مالك سلسلة أحد المطاعم أن تراجع القدرة الشرائية للمواطنين دفع 55 في المئة من مطاعم طهران إلى حافة الإغلاق. وأضاف أنه حتى في مناطق شمال العاصمة، التي كانت في السابق تحتضن زبائن دائمي الدفع وذوي دخل مرتفع، انخفضت المبيعات اليومية إلى أقل من نصف ما كانت عليه قبل الجائحة.
وتتكرر هذه الظاهرة في مدن سياحية أخرى، ففي عام 2023 أغلق أكثر من 250 مطعماً في مدينة مشهد، على رغم كونها من أبرز الأسواق الغذائية في البلاد، بسبب تراجع عدد الزبائن والخسائر المالية. وفي شيراز، أكد نائب رئيس غرفة تجارة محافظة فارس ورئيس نقابة محال البيتزا والأغذية الجاهزة أن المواطنين يتجهون بصورة متزايدة نحو الأطعمة منخفضة الكلفة مثل الفلافل والبطاطا، مما أدى إلى انخفاض المبيعات في كثير من المطاعم إلى أقل من 50 في المئة، وأضاف أن بعض المطاعم لم تعد تحقق سوى أقل من 20 في المئة من مبيعاتها السابقة، في حين سجلت طلبات إلغاء التراخيص وتغيير النشاط التجاري ارتفاعاً غير مسبوق.
وتشير هذه المؤشرات إلى أن قطاع المطاعم، الذي كان يوماً من أكثر قطاعات الخدمات ربحية في إيران، بات اليوم على شفا الانهيار. وبالنسبة إلى كثيرين من أصحاب هذه المشاريع، فإن استمرار النشاط في ظل الضغوط المالية وغياب الزبائن لم يعد ذا جدوى اقتصادية، ليصبح خيار الإغلاق أو التخلي عن العمل بديلاً أكثر واقعية من أية خطة للتطوير أو الاستثمار.
مطاعم أسعار وجباتها بالدولار تكشف عن اتساع الفجوة الطبقية في المجتمع الإيراني
بينما يواجه آلاف المطاعم الصغيرة في أنحاء البلاد خطر الإفلاس، يشهد قطاع آخر من سوق الأغذية اتجاهاً واضحاً نحو البذخ والتفاخر. ففي شمال طهران وبعض المناطق الأخرى، تنشط مطاعم تدرج أسعار وجباتها بالدولار، وتفوق كلفة الدخول إلى بعضها سعر أغلى وجبة في مطاعم المناطق العادية.
وفي بعض الحالات، يصل فارق سعر طبق "جلو كباب كوبیده" بين هذه المطاعم الفاخرة ونظيراتها التقليدية إلى مليون تومان (9.25 دولار)، وهو ما يعكس بصورة جلية التفاوت الحاد في القدرة الشرائية، ويكرس مشهد مجتمع منقسم إلى عالمين، أحدهما يرتاد المطاعم الفاخرة استعراضاً للثراء، والآخر عاجز عن شراء أبسط الوجبات الجاهزة.
في ظل هذا الواقع، يزداد توجه الناس نحو الأطعمة الأرخص والأقل جودة، مثل الوجبات السريعة والمأكولات المقلية، التي تحضر غالباً باستخدام زيوت معادة الاستخدام وتباع بالكيلوغرام لخفض السعر النهائي. هذا الاتجاه لا يطرح أخطاراً صحية فحسب، بل يعكس أيضاً تراجعاً ملموساً في ثقافة التغذية السليمة داخل المجتمع.