ملخص
يخلص نيتشه من هذا كله لكي يقول لنا إن المشكلة لا تكمن في أخلاق العلماء والمفكرين، أو عدم أخلاقهم، بل أصلاً في كون الأخلاق نفسها مشكلة، يتعين - على الأرجح - وضعها على بساط البحث. وهو يرى انطلاقاً من هنا أن الأخلاق إنما هي في الأساس ما يقوله الواعظ الأخلاقي، وهكذا يخلص إلى أن حتمية الأخلاق هي على ارتباط بقيمة من ينادي بها، لا أكثر ولا أقل.
"في إمكاننا، على الأرجح، أن نعثر لدى نيتشه على كل حكم وعلى نقيضه خلال الوقت نفسه، إذ يبدو أن له في كل أمر رأيين. وهذا ما جعل في إمكان معظم الأطراف أن تختبئ خلف سلطته: الملحدون والمؤمنون، المحافظون والثوريون، الاشتراكيون وأصحاب النزعة الفردية، العلماء المنهجيون والحالمون، السياسيون وغير المسيسين، أحرار الفكر والمتعصبون".
هل يمكن هذا الذي كان كارل ياسبرز يقوله عن مواطنه الفيلسوف نيتشه، أن يقنعنا إذا ما صدقناه، بأن هذا الأخير كان فيلسوفاً حقاً، بمعنى أنه كانت له فلسفة واضحة عميقة اشتغل عليها طوال حياته كما هي حال الفلاسفة الآخرين؟ بالتأكيد لا... لأن مثل هذا الكلام عن صاحب "هكذا تكلم زرادشت" و"ذلكم هو الإنسان" يضعه في مصاف الأدباء المتفلسفين، لا في صف الفلاسفة. والفارق بين التصنيفين كبير، لكن هل كان لنيتشه أن يعبأ بمثل هذه التحديدات؟ الحقيقة أن هذا المفكر الذي سيطرت كتبه وأفكاره على عقول الشبيبة عند نهاية القرن الـ19 وبداية القرن الـ20، وترجم إلى لغات عدة، وقرأ كتبه، في ملايين النسخ، أناس ما كانوا ليهتموا بأن يصنف كاتبهم "فيلسوفاً" أو "متأملاً" أو "واعظاً" أو "متمرداً"، نيتشه هذا كان -في الأقل- صاحب موقف. ولعل أهم ما في موقفه أنه كان -على رغم احتقاره الكبير لكانط، صاحب النظرية النقدية - مبنياً في الأساس على موقف نقدي: من الأخلاق، ومن الفلسفة ومن الدين المسيحي، أي من ذلك الثالوث الذي تضافر وتعاقب -وفق المراحل- لبناء الفكر الأوروبي لكي لا نتوسع أكثر - على مدى الأزمنة.
هدم للفكر أم بناء؟
والحال أن "نقد" نيتشه - الذي يراه بعض هداماً أكثر مما هو بناء - شمل قطاعات عريضة من المفكرين الذين لم يخرج من بين يديه سالماً، سوى قلة منهم. وكان هذا ما سهل على جورج لوكاش أن يقول عنه إنه "مؤسس اللاعقلانية في المرحلة الإمبريالية. وربما كان، في تحليله السيكولوجي للحضارة، وأفكاره الجمالية والأخلاقية، الممثل الأكثر موهبة، والأكثر تلوناً، لوعي المشكلة المركزية والظاهرة الأساس لتاريخ بورجوازية عصره: الانحطاط".
وما لا شك فيه أن كتاب "هكذا تكلم زرادشت" الذي قُرئ وتُرجم على نطاق واسع وتربت عليه أجيال وأجيال من المثقفين، ومن أنصاف وأرباع المثقفين بخاصة، واستعاره وقلده كتاب من جميع أنحاء العالم، ووصل الأمر حتى بالموسيقي الألماني ريتشارد شتراوس إلى تحويله عملاً موسيقياً أخاذاً، هذا الكتاب هو الأشهر بين كتب نيتشه، وربما بين كل كتب "الفلسفة" على مدار التاريخ كله.
غير أن الكتاب الذي يعبر، في صورة أفضل، عن أفكار نيتشه الحقيقية، إنما هو كتابه الآخر، الأقل تداولاً والأكثر عمقاً بالطبع: "في ما وراء الخير والشر". فنيتشه إذ يضع لهذا الكتاب عنواناً ثانوياً هو "مقدمة لفلسفة المستقبل"، نجده يصنف نفسه على الفور فيلسوفاً، فيما كانت كتبه الأخرى تصنفه إما واعظاً وإما أديباً وإما ناقداً ومؤرخاً للفن. وهذا الكتاب الذي نشره نيتشه على حسابه عام 1886، بعدما كتبه في صورة يغلب عليها الارتجال وطابع التجريب، كانت له في حياته مكانة أساس.
الأخلاق نفسها مشكلة
بالنسبة إلى برتراند راسل الذي كان يخص نيتشه بمكانة كبيرة في تاريخ الفلسفة الغربية، حتى وإن طرح أكثر من سؤال حول إمكان اعتباره فيلسوفاً، بالمعنى التقني للكلمة، يمكن القول إن "في ما وراء الخير والشر" يهدف في الواقع إلى تغيير رأي القارئ بصدد ما هو خير وما هو شر، بل يقر نيتشه في كثير من مواطن الكتاب، بأنه يثني على ما قد يبدو شراً، ويشجب ما هو متعارف عليه بأنه خير، ذلك أن الفضيلة الصادقة، من حيث إنها معارضة للنوع المتواتر من الفضيلة، لا يمكن أن تكون ملكاً للجميع، بل ينبغي أن تظل الصفة المميزة لأقلية أرستقراطية (...). ومن الضروري لمن هم فوق أن يشنوا الحرب على الجماهير، ويقاوموا ميول العصر الديمقراطية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذ ينطلق نيتشه من هذه الفكرة - التي ترتبط لديه بمبدأ "السوبرمان" أو "الإنسان الأعلى" - نراه على الفور يورد شكاً جذرياً حول القيمة الحقيقية للفلسفة. فبالنسبة إليه ليست هناك فلسفة، بل فقط فلاسفة يعرفون، من دون أن يقروا بذلك، محاولين بذريعة المعرفة، أن يبرروا غريزتهم وأحكامهم المسبقة. وإذ يقول نيتشه هذا يختتم بالقول إن "المعرفة لا يمكنها أبداً أن تتطور على هذا النحو"، معتبراً أن العقبة الكأداء في وجه تطور المعرفة، إنما هي النفاق الذي يقود العالم إلى أن يكذب على نفسه وعلى الآخرين.
ويخلص نيتشه من هذا كله لكي يقول لنا إن المشكلة لا تكمن في أخلاق العلماء والمفكرين، أو عدم أخلاقهم، بل أصلاً في كون الأخلاق نفسها مشكلة، يتعين - على الأرجح - وضعها على بساط البحث. وهو يرى انطلاقاً من هنا أن الأخلاق إنما هي في الأساس ما يقوله الواعظ الأخلاقي، وهكذا يخلص إلى أن حتمية الأخلاق هي على ارتباط بقيمة من ينادي بها، لا أكثر ولا أقل.
نمطان كبيران من الأخلاق
وإذ يتوصل نيتشه إلى هذه الصياغة، يرى أنه اكتشف التمايز النهائي: إن هناك، بالنسبة إليه، نمطين كبيرين فقط من الأخلاق: أخلاق السادة، التي هي في الأصل أخلاق عنصر همجي مهيمن يروقه أن يعي دائماً تفوقه على العنصر المهيمن عليه. وفي مواجهة هذه الأخلاق هناك أخلاق العبيد التي لا يمكن أن يكون لها من هدف سوى إذلال القيم الأرستقراطية (أخلاق المساواة)، وتخفيف ثقل الوجود (الأخلاق النفعية)، وإعلان قدوم التحرير المستقبلي (أخلاق التقدم)، وإنقاذ الإنسان من قسوة الحياة (أخلاق التحرر).
واللافت أن نيتشه يرى أن المسيحية هي المكان الأمثل الذي تتجلى فيه أخلاق العبودية هذه. غير أن نيتشه إذ يقول هذا ويأخذ على المسيحية كونها خلقت - في أوروبا في الأقل - نوعاً من المساواة والديمقراطية يجعل من الناس قطعاناً متشابهة، يضيف أن هذا يشكل - على اية حال - "الأرضية الأفضل لبزوغ الكائنات العليا"، مما يجعل من الواضح أن هذا "العامل السلبي" يخلق "عاملاً إيجابياً" يتمثل لدى نيتشه بقيام أرستقراطية جديدة تتألف من فلاسفة المستقبل، "من أناس أحرار سيولدون، ويحلون محل الشكوكية المسيحية والحديثة، شكوكية أخرى، أعطانا فردريك الثاني مثالاً ناصعاً عليها".
هل كان مؤسس الفاشية؟
إن هذا، بالطبع ما جعل المفكرين التقدميين خلال القرن الـ20، يعدون نيتشه "فيلسوفاً مثالياً ألمانيا آخر... ورائداً للأيديولوجية الفاشية"، ومن الواضح أنه لا يمكن اعتبار هذا الحكم دقيقاً. المهم أن فردريك نيتشه الذي ولد عام 1844 في روكن داخل بروسيا، ومات عام 1900 في فايمار، بعدما كان يعيش آخر سنواته في تورينو داخل إيطاليا حيث أصيب بمس نتج من إصابة قديمة بداء الزهري، كان واحداً من أشهر المفكرين في زمنه. وهو عاش حياة شديدة التقلب، نجدها منعكسة في صورة واضحة ضمن كتاباته، ولا سيما أنه فقد أباه وهو في الرابعة، مام أثر فيه طوال سنوات حياته. واهتم نيتشه مبكراً بالفكر اليوناني، وركز على الإبداع الإغريقي في الدراما بقدر ما ركز على الفلسفة. وكانت له في الفنون، بصورة عامة، آراء شديدة الأهمية، كما أنه ارتبط بصداقة مع عدد من فناني زمنه مؤثراً فيهم، ومن بينهم ريتشارد فاغنر الذي اعتبره في رسالة وجهها إليه المكسب الوحيد "الذي عادت به الحياة علي. لقد قرأتك من جديد وأقسم لك أمام الله بأنك الوحيد الذي يدرك ماذا أريد".
وأنفق نيتشه حياته في الكتابة والتدريس، وكتبه لا تزال تُقرأ على نطاق واسع حتى الآن، ومن أشهرها، إلى "هكذا تكلم زرادشت"، و"ذلكم هو الإنسان": "أصل الأخلاق" و"غروب الأصنام" و"إرادة القوة" و"إنساني... إنساني أكثر مما ينبغي" و"ولادة التراجيديا في العصر الإغريقي"... وغيرها من كتب عدت دائماً "من أكثر الكتب مبيعاً في عالم الأدب الفلسفي" إن لم يكن في الفلسفة نفسها.