Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فجوة التعاطف... عندما يفشل الإنسان في تقدير حاله

يميل العقل فطرياً إلى إعطاء أولوية للحال الحالية على حساب الأحوال السابقة أو المستقبلية

يميل العقل فطرياً إلى إعطاء أولوية للحال العاطفية الحالية على حساب الحالات السابقة أو المستقبلية (رويترز)

ملخص

المحاكاة العاطفية عملية معقدة يعجز فيها العقل عن استحضار المشاعر بدقة خارج سياقها الحقيقي، وهذا يفسر سبب صعوبة تقدير قوة المشاعر التي لا نعيشها في اللحظة الراهنة، مما يخلق حواجز خفية في فهمنا لذواتنا وللآخرين.

في بوتقة العقل البشري حيث تلتقي الكيمياء الحيوية مع علم الأعصاب ألغاز كثيرة بانتظار الكشف عن حلول، موقف واحد يتناقض فيه رد الفعل بين حال وحال وزمن وآخر، فكيف يتغير القرار في لحظة هدوء ومنطق عنه في لحظة انفعال ورغبة؟ كيف نعظم من شأن حدث نمر به ونستهين به عندما يحدث مع شخص آخر؟

الإجابة عن السؤال السابق تكمن في انحياز سلوكي شهير يطلق عليه في علم النفس المعرفي اسم "فجوة التعاطف"، فكم مرة حدث معنا أن قللنا من معاناة شخص آخر، لمجرد أننا لم نعش تجربته ذاتها؟

الحال العاطفية

يشير مصطلح فجوة التعاطف أو تحيز التعاطف إلى الميل الطبيعي للتقليل من شأن تأثير الأحوال العقلية المختلفة على سلوكياتنا وطبيعة اتخاذنا القرارات، وتكشف اللجام عن قرارات منحازة إلى وضع أو شعور حالي، والحقيقة أن هذه الفجوة تشكل جداراً خفياً يقف بيننا وبين فهم مشاعرنا، أو حفرة ما بين هويتين، هوية الهادئ وهوية الغاضب، وما بين تجربتين، تجربتنا الشخصية وتجارب الآخرين، إذ تحدث انخفاضاً في التعاطف في حين كان يتوقع خلاف ذلك.

والتعاطف أحد أهم عناصر الذكاء الوجداني يبدو في القدرة على التعرف إلى أفكار ومشاعر الآخرين وفهمها ومشاركتها، وتشرح الفجوة كيف تغير الحال العاطفية الحالية من القدرة على قياس وتقدير الأحوال العاطفية الأخرى، عندما لا يستطيع شخص في حال أو مكان أو ظرف ما أن يتفهم أو يتعاطف مع شخص في الطرف الآخر، أو تمنع الشخص من فهم أو توقع سلوكه في الحالة المعاكسة، إذ يمكن أن تتشكل هذه الفجوة داخل الفرد ذاته، كأن يكون غير قادر على التذكر أو التنبؤ بكيفية تصرفه في حال عاطفية مختلفة عن الحالية، أو بين الأفراد كعدم قدرة شخص على فهم مشاعر وسلوكيات شخص آخر لمجرد كونه في حال عاطفية مختلفة، وكشفها يعني ردم تلك الفجوة التي تعوق التواصل والانسجام مع ذاتنا والآخرين.

العقلان البارد والساخن

وتتجسد فجوة التعاطف في نوعين رئيسين، الأول هو فجوة التعاطف الزمنية أو فجوة التعاطف الساخنة والباردة، وهنا تتشكل مسافة تشبه الانفصال بين الذات في حالها الباردة العقلانية والساخنة الانفعالية، كأن تتمكن من اتخاذ قرار صارم في حال هدوء وتعجز عن مواجهة خطأ بسيط عندما تفقد السيطرة على شعور ناري مثل الغضب، وفي هذه الحال يعجز العقل البارد (عمليات عقلية منطقية تحليلية وهادئة بعيداً من تأثير العواطف القوية) عن توقع سلوك العقل الساخن (عمليات عقلية يغمرها العواطف والرغبات والدوافع القوية) وكأننا أمام شخصين مختلفين تماماً.

 

في الحال الساخنة نكون تحت سيطرة عاطفة أو رغبة قوية، بينما في الحال الباردة نكون في وضع هادئ عقلاني وأكثر تحكماً في الذات، وهنا يجري التقليل من شأن العواطف والرغبات التي تتحكم في الحال الساخنة، والعكس صحيح إذ يجد الشخص الذي يكون في الحال الساخنة صعوبة في تذكر أو فهم منطقية الحال الباردة.

والنوع الثاني هو فجوة التعاطف بين الذات والآخر أو ما تسمى فجوة التعاطف الاجتماعية، وفي هذا النوع نعجز عن فهم تجارب الآخرين التي تختلف عن تجاربنا العاطفية الحالية، نحن نعجز عن فهم مشاعر لم نختبرها شخصياً، إذ لا يمكن للكلام النظري أن يحيط بالعمق العاطفي الذي يختبره شخص آخر.

المحاكاة العاطفية

ولهذه الظاهرة أسباب كثيرة منها الميل الفطري للعقل إلى إعطاء أولوية للحال العاطفية الحالية على حساب الحالات السابقة أو المستقبلية، فعندما نكون في حال مشاعرية ما نفترض أنها ستدوم للأبد، كذلك فإن العقل البشري غير مجهز لمحاكاة المشاعر بدقة عندما لا يكون منغمساً فيها فعلياً، لدينا صعوبة في المحاكاة العاطفية إذ لا يمكننا استحضار حال عندما نكون في حال أخرى، ولا يمكننا فهم وضع شخص عندما نكون في الوضع المناقض له تماماً، مثلما لا يمكن للشخص المرتاح مادياً أن يفهم جوهر وتفاصيل معاناة الفقر.

والمحاكاة العاطفية عملية معقدة يعجز فيها العقل عن استحضار المشاعر بدقة خارج سياقها الحقيقي، وهذا يفسر سبب صعوبة تقدير قوة المشاعر التي لا نعيشها في اللحظة الراهنة، مما يخلق حواجز خفية في فهمنا لذواتنا وللآخرين.

هناك سبب لا يقل أهمية عن سابقيه، يتجلى في كيفية عمل الآليات الدفاعية في العقل وتعميقها هذه الفجوة، إذ يميل البشر إلى التبسيط المفرط للمشاعر المعقدة، بخاصة مشاعر الآخرين وتجاربهم لأن الاعتراف الكامل بها قد يسبب مواجهات نفسية في غنى عنها، بينما يسمح لنا هذا الدفاع بالحفاظ على صورتنا السابقة عن أنفسنا والعالم.

سد الفجوة

يعد الوعي الذاتي والتفكير بصورة تأملية واحد من الاستراتيجيات الأكثر فاعلية لتجاوز هذه الفجوة، وهذا يبدأ من معرفة وجودها، هذه المعرفة تمنحك تركيزاً أكبر على هذه المشكلة للتعامل معها وحلها، وينصح المتخصصون بسؤال النفس بصورة منتظمة، هل حكمي على هذا الموقف متأثر بحالي العاطفية الحالية؟ أو هل استطعت حقاً فهم ما يمر به هذا الشخص على رغم أني لست في مكانه ولم أشهد هذا الموقف سابقاً؟

والاستراتيجية الثانية هي الاستعانة بما يسمى الذاكرة العاطفية، فعندما نحاول اتخاذ قرار مهم ونحن في حال باردة علينا أن نحاول تذكر كيف كنا نفكر ونشعر في الحال الساخنة، أو كيف تصرفنا آخر مرة كنا فيها في حال غضب؟ هذا السؤال يمكن أن يوفر رؤى تساعد في اتخاذ قرارات أكثر توازناً وتجاوز الحال العاطفية الحالية، وصولاً إلى قرار أكثر حكمة.

 

كما يعد التعاطف النشط من الوسائل الأكثر فاعلية، وهو أن تضع نفسك مكان الشخص الآخر من الناحية العقلية وكذلك العاطفية، وتسأل كيف سأشعر لو مررت بالتجربة نفسها؟ وما الحاجات العاطفية التي لدى هذا الشخص؟ هذا النوع من التعاطف يتطلب جهداً وممارسة منتظمة، ولكن له نتائج فعالة جداً.

المهنة والصحة

مما لا شك فيه أن فجوة التعاطف تشكل تحدياً أساساً في فهمنا لأنفسنا وللآخرين، ربما يعد الوعي بها الخطوة الأولى، فالاعتراف بأن تصوراتنا وقراراتنا مشروطة بحالنا العاطفية الراهنة تفتح الباب لفهم أكثر عمقاً وإنسانية لتعقيدات النفس البشرية.

والأمر الأكثر أهمية في موضوع الفجوة والتعاطف أنها تزحف من القرارات الشخصية إلى المهنية، بخاصة عندما يكون لدى الشخص مسؤوليات كبيرة، كمدير أو رئيس قسم، إذ يمكن أن تمنع هذه الفجوة المدير من فهم الضغوط التي يمر بها الموظف أو أن يقلل من التحدي الذي يمر به وهذا يعوق الأداء العام ويؤثر في بيئة العمل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والأخطر من هذا وذاك عندما تظهر هذه الفجوة في الموضوع الصحي كأن لا يستطيع الشخص أن يلتزم نظاماً صحياً يعد ضرورة في وضع ما، بسبب اتخاذه قرارات نابعة من حال حالية تبالغ في تقدير حاجاتها المستقبلية.

قصة لم نعشها

والحقيقة أن قصة لم نعشها سنفشل حتماً في تقدير تفاصيلها ودرجة تأثيرها في من عاشها، وعلى الغالب سنستسهل ونقلل من درجة المعاناة التي تحملها، لأن في الحال الأولى المشاعر والأفكار باردة وساكنة، لم توضع تحت التجربة، في حين لو عشناها سنبالغ في تقدير حجم المعاناة والوجع، بغرض تفسير وضعنا وتبرير أخطائنا، فالبشر يميلون بطبيعة الحال إلى الانحياز لقصصهم وتعظيم تجاربهم الخاصة.

وفي هذا الصدد يقول الروائي الروسي ليو تولستوي "العائلات السعيدة كلها متشابهة، لكن العائلات البائسة يختلف بؤس إحداها عن الأخرى"، في هذه المقولة يلخص تولستوي جوهر انحياز التعاطف، إذ دائماً ما يكون هناك على الضفة الأخرى حكاية مختلفة تماماً قد لا يجيد الشخص الواقف على الضفة المقابلة وصفها بصورة دقيقة.

وأخيراً، من الممكن أن نبدأ رحلة سد الفجوة من خلال مجموعة من الأسئلة الدقيقة يمكننا من خلالها رأب الصدع قبل أن يمتد، وربما مراجعة سريعة لقرارات شخصية ومواقف سابقة ومحاولة إجراء مقارنة بين حال حالية وأخرى مشابهة في الماضي، تعطينا أدوات تحكم أفضل وأكثر اتزاناً وحكمة في المستقبل.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات