ملخص
تحول غرف المعيشة إلى غرف نوم إضافية بفعل أزمة السكن في المملكة المتحدة لا يقلص المساحات المشتركة فحسب، بل يضعف الروابط الاجتماعية ويزيد العزلة ويشوه تجربة السكن، مانعاً كثيرين من عيش حياة منزلية طبيعية أو بناء علاقات يومية صحية مع شركاء السكن.
إنها المساحة حيث يسعك أن تتذمر فيها من يومك، بينما يهمس التلفاز في الخلفية بصوت خافت. مكان تسترخي فيه على الأريكة، وتتصفح هاتفك في صمت وإلى جانبك شخص آخر مشغول بمحموله أيضاً. بيئة مهيأة لفتح زجاجة نبيذ في ظهيرة يوم أحد، وسكب كؤوس إضافية لكل من يقرر الانضمام. هنا، يسعك أن تتناول وجبات سريعة تفيض بالدهون من دون أدنى شعور بالذنب، وتشاهد أفلاماً كوميدية رومانسية قديمة، وتترنح تحت وطأة صداع ما بعد ليلة صاخبة أفرط فيها بشرب الكحول... ذلك كله وأنت مطمئن إلى أنك في لحظة فقط ربما تفاجأ بدخول أحدهم ليقتحم عزلتك، ذلك أن جمال هذه المساحة، وجنونها أيضاً، ينبعان من كونها في أساسها مكاناً مشتركاً يتقاسمه الجميع.
نعم، أتحدث عن غرفة الجلوس. ذلك الركن الذي كان، في زمن ليس ببعيد، حجر الأساس في أي تجربة سكنية حقيقية، ولكنه صار اليوم من المساحات التي تكاد تختفي. بحسب بيانات جمعها "سبير روم" SpareRoom، المنصة الإلكترونية الأكثر نشاطاً للسكن المشترك في المملكة المتحدة، يعيش اليوم نصف المستأجرين البريطانيين في شقق لا تشتمل على غرفة معيشة. وقد أظهر استطلاع رأي شمل أكثر من 2000 شخص، أن 80 في المئة من هؤلاء وجدوا أنفسهم في هذا الواقع الجديد، ليس عن طيب خاطر، بل لأن أصحاب العقارات ارتأوا تحويل ما كان يفترض أن يكون مساحة للراحة والتلاقي إلى غرفة نوم إضافية تدر عليهم مالاً أكثر من مستأجر آخر. في المقابل، قال سبعة في المئة فقط إن قرار السكن في مساحة لا تحوي غرفة معيشة كان خياراً شخصياً.
ولكن قراراً من هذا النوع لن يثير استغرابك إذا ما تأملت مدى صعوبة تأمين سكن بالإيجار في المملكة المتحدة، وهو واقع تصاعدت حدته بفعل تفاقم أزمة السكن التي تعصف بالبلاد. تشير بيانات "سبير روم" إلى أن متوسط إيجار الغرفة يصل الآن إلى 744 جنيهاً إسترلينياً شهرياً، في حين يرتفع هذا الرقم إلى 982 جنيهاً في لندن وحدها. وفي النتيجة، اختار كثر ممن يخططون لاستئجار مسكن العيش في مساحات تخلو من غرفة معيشة، ليس فقط لأن إيجارها أقل كلفة، بل لأن تقاسم الفواتير بين عدد أكبر من الأشخاص يخفف العبء المالي الواقع على عاتقهم. ومع ذلك، أفادت بيانات "سبير روم" أن نحو ثلث الذين يعيشون في هذه الظروف (تحديداً 32 في المئة)، يجدون أن الخصم على إيجارهم، وفق حساباتهم، أقل من 20 في المئة مقارنة مع متوسط الإيجار في منطقتهم، بينما يعتقد 43 في المئة منهم أنهم لا يستفيدون من أي تخفيض في الإيجار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من السهل تصور حجم التأثير الذي يخلفه فقدان غرفة المعيشة المشتركة. فالحال أن غياب هذه المساحة لا يغير طريقة عيشك وحده، إذ يعزلك في غرفة ضيقة واحدة أشبه بسكن طلابي موقت، حيث تجد نفسك حبيس أربعة جدران موحشة تسللت الرطوبة إليها على الأرجح. ولكن المسألة لا تقتصر على المساحة المفقودة، بل تشمل أيضاً خسارة كل التفاصيل الصغيرة التي تجعل العيش مع الآخرين ممكناً، بل وممتعاً، كمشاهدة الأفلام معاً في ظهيرة أيام الآحاد، أو لعب الورق دونما تخطيط مسبق حينما يتصادف وجود الجميع في المنزل تحت سقف واحد ليلة جمعة.
حتى تبادل الحديث يبدو أكثر سهولة حينما يجري في مساحة يتقاسمها الجميع بالتساوي، حيث يشعر كل فرد بأنه شريك فعلي في المكان، مما يخلق توازناً ضمنياً ويمنح الجميع حرية التعبير بعفوية والتصرف على سجيتهم. يقول مدير موقع "سبير روم" مات هاتشينسون: "أحد أبرز مزايا السكن المشترك طابعه الاجتماعي. فالناس يلتقون بأصدقاء وأحياناً شركاء حياتهم، ويصنعون علاقات تغير مجرى حياتهم فقط لأنهم تقاسموا السكن. أما إذا ألغيت هذه المساحة المشتركة، فربما لا يعيشون هذه اللحظات أصلاً".
أفاد نحو نصف الذين شاركوا في الاستطلاع (تحديداً 46 في المئة) ممن يعيشون من دون غرفة معيشة، بحسب استطلاع "سبير روم"، أنهم لا يختلطون اجتماعياً أبداً مع شركائهم في السكن. من بين هؤلاء غابرييلا البالغة من العمر 30 سنة، باحثة تسكن في منطقة هارو، وتعيش منذ سبتمبر (أيلول) الماضي مع صديقيها في شقة تفتقر إلى غرفة معيشة. تقول متحدثة عن تجربتها هذه: "أفتقد أن يكون قضاء الوقت مع شريكي في السكن نابعاً من نية حقيقية". وتشرح: "كلاهما أصغر سناً مني ببضعة أعوام، وما زالا يتابعان دراستهما الجامعية. أما أنا فكنت، عندما تشاركنا المسكن، قد بدأت تواً مسيرتي المهنية في مجال جديد. أي منا لم يملك مالاً كافياً، فاخترنا هذا المكان لأنه كان الأنسب في التكلفة والموقع، على حد سواء". وتتابع: "صحيح أننا نتبادل أطراف الحديث في المطبخ، ولكن كل منا يكون مشغولاً بأمر ما في الوقت نفسه فلا يبدو ذلك وقتاً مشتركاً بحق. لو كانت لدينا غرفة معيشة، كنا سنحرص عن قصد على قضاء وقت جيد معاً، ولوجدنا متسعاً لتبادل أحاديث أعمق وأكثر متعة".
كذلك يترك هذا الواقع تأثيرات نفسية لا يستهان بها. حين تغيب غرفة المعيشة، تصبح فكرة استقبال الأصدقاء أو أفراد العائلة عبئاً حقيقياً على المستويين النفسي والعملي، إذ يتحول استقبال أحدهم إلى لحظة متكلفة، يضطر فيها الجميع إلى الجلوس على سرير غير مرتب، وكل منهم يمسك بكوب شاي وسط أجواء مربكة. أما الوجبات، فتنزلق من كونها فعلاً اجتماعياً دافئاً إلى طقس فردي كئيب يمارس على عجل في زوايا الغرف المغلقة، لا سيما حين يغيب ركن مخصص للطعام. ومع تزايد أعداد العاملين من بيوتهم، أظهرت بيانات "مكتب الإحصاء الوطني البريطاني" أن أكثر من ربع الموظفين لجأوا إلى نظام العمل الهجين بين المكتب والمنزل في خريف 2024. ويضيف مات هاتشينسون: "أخبرنا كثر أنهم باتوا عاجزين عن فصل أنفسهم عن أجواء مسؤوليات العمل لأنهم يفتقدون مساحة واضحة للراحة. لا أحد يريد أن يشعر كأنه يمضي أيام حياته في غرفة نوم، وليس في منزل حقيقي".
حتى في بيته الخاص، لن يجد المرء راحته إذا لم تتوفر له سوى مساحة واحدة لممارسة أنشطته كافة، من النوم، والمأكل، والاسترخاء. عندما تختلط هذه النشاطات في ركن واحد، سريعاً ما يتحول المكان إلى قفص خانق، فلا تعود "ترغب في المجيء إلى المنزل إلا من أجل النوم أو الأكل أو طهو الطعام"، يقول تشارلي، البالغ من العمر 22 سنة ويعيش في شقة في منطقة دالستون لا تحوي غرفة معيشة. ولكن لم يكن هذا القرار خياراً اتخذه عن رغبة، بل كان تضحية اضطر إليها شأنه شأن كثر من سكان لندن، كي يتمكن من السكن في حي يجمع بين الموقع المناسب والتكلفة المعقولة. ويضيف، "في نهاية المطاف، كثيراً ما تمنيت وجود مساحة مشتركة تجمعني بالآخرين بعيداً من المطبخ، لكن ميزانيتي الحالية لا تسمح بذلك. ويحز في نفسي أنني، على رغم انتظامي في عمل دائم، لا أملك ترف هذا الخيار".
لا ينبغي التقليل من أهمية وجود مساحات مشتركة، لا سيما أن كثراً منا (تحديداً ربع البالغين في المملكة المتحدة بحسب إحصاءات "مكتب الإحصاء الوطني البريطاني")، يكابدون الشعور بالوحدة الدائمة. وباستثناء قضاء كل وقتك خارج المنزل، مما سيسفر لا محالة عن مشكلات أخرى، فإن الخيارات المتاحة أمامك تبقى محدودة، خصوصاً إذا كان ارتفاع الأسعار قد حملك مكرهاً على السكن في مكان لا يتضمن غرفة معيشة مشتركة. وأظهر استطلاع حديث نهضت به جهة متخصصة بتكليف من الهيئة التمثيلية "مجالس لندن"، أن أزمة تكاليف المعيشة المرتفعة كانت الشغل الشاغل لسكان العاصمة، إذ أعرب 75 في المئة منهم عن هذا القلق، وارتفعت النسبة إلى 83 في المئة بين صفوف المستأجرين في القطاع الخاص.
"أكثر ما أفتقده القدرة على دعوة الأصدقاء إلى مسكني لمشاهدة الأفلام، أو الكتابة، أو تأليف الأغاني"، يقول تشارلي مضيفاً: "تصبح ممارسة هذه النشاطات صعبة عندما يزيد عدد الموجودين عن شخصين. وإذا أردت القيام بها في مكان آخر الآن، اضطر إلى تحمل تكاليف إضافية". ويتابع من منظور التصميم الداخلي: "أعتقد أن غرفة المعيشة تمثل مساحة حيوية تتيح لسكان البيت التفاعل معاً من طريق تنظيمها وتزيينها على نحو يعكس ذوقهم الجماعي كما لو أنها منزلهم. أما غياب هذا الفضاء، فيجبر كل فرد على استغلال غرفته الشخصية لوضع أغراض كثيرة لا تناسب طبيعة المكان. في النهاية، تحولت غرفتي إلى مخزن لصناديق الديكور والآلات الموسيقية، مما يضيق عليَّ خصوصيتي".
ولكن في المتناول بعض التعديلات المعمارية البسيطة التي تساعد في ابتكار حدود واضحة داخل مساحة المعيشة الشخصية. يقول لي تريثوي من شركة "سستينابل فيرنيتشر" للأثاث المستدام: "إذا لم تتوفر غرفة معيشة، يمكن للأثاث الذكي والقابل للتعديل، إضافة إلى حيل بسيطة في ترتيب الغرفة، أن تسهم في خلق مناطق مختلفة داخل مساحة واحدة. مثلاً، الكراسي القابلة للطي، والطاولات الصغيرة التي يمكن استخدامها كسطح للعمل أو لتناول الطعام، والسجاد أو الإضاءة التي تحدد زاوية للاسترخاء، والرفوف التي تفصل المساحات حسب الحاجة. تمنح هذه الخيارات إحساساً بتقسيم المساحة إلى مناطق متعددة ذات استخدامات متعددة، من دون الحاجة إلى توسيع المساحة الفعلية".
وطبعاً، لا يمكن إغفال بعض المزايا التي يجنيها من يعيشون بأسلوب حياة الطلاب، علماً أنها محدودة وربما لا تتناسب مع الفئات العمرية كافة. مثلاً، اختار تشارلي أن يقضي وقتاً قليلاً جداً في المنزل، مما يضطره إلى التواصل أكثر مع أصدقائه في الأماكن العامة ضمن لندن. يقول: "ربما لا يكون أسلوب العيش هذا صحياً تماماً، ولكنه يناسبني. أضف إلى ذلك أنه يقلص مهام التنظيف، مما يسهل الأمور عليَّ كثيراً. فالتنظيف صار يستغرق الآن 30 دقيقة، بعدما كان في السابق يحتاج إلى نصف اليوم".
الواقع أن التساهل في بعض الأمور يكون أكثر احتمالاً عندما تكون أصغر سناً. ففي عمر الـ22، ربما يكون وضع تشارلي أقل تعقيداً مقارنة مع شخص يكبره بعقد من الزمن أو أكثر، حينما تصبح معايير العيش أعلى بأشواط. شخص في عمر الـ35 ويكن التقدير لنفسه، لا يتمنى أن يعيش محصوراً في غرفته مع ثلاثة أو أربعة من زملاء السكن في شقة ضيقة لا تتسع للجميع. إنها حياة المراهقة وقد امتدت إلى مرحلة الرشد. فكيف لنا أن نتصرف بوصفنا راشدين فعلاً، كما يقتضي الزمن، بينما نحن مكرهون على العيش كالأولاد؟ سؤال لا يجدر بأحد بحث الإجابة عنه، ومع ذلك يبدو أنه واقع يومي يعيشه كثر منا.
© The Independent