ملخص
الكتاب يقدم سيرة مباشرة لكولومبوس أيضاً، فليس كله نقاشاً لصور كولمبوس المختلفة، والمتغيرة بمرور الزمن واختلاف الظروف، إذ يكتب جوش مكوليف أن "ماثيو ريستول يصف الجزء الأول من الكتاب بأنه سيرة مباشرة ترصد بواكير حياة كولمبوس باعتباره (محض نكرة) من جنوة، وارتقاءه الاجتماعي في أعقاب الرحلات البحرية التي مولها التاج الإسباني عبر المحيط الأطلسي إلى البحر الكاريبي ووسط أميركا وجنوبها، تلك الرحلات التي فتحت الطريق أمام الاستكشافات الأوروبية واستعمار الأميركتين".
شهدت الأعوام الأخيرة في الولايات المتحدة حروباً ثقافية كثيرة، منها حرب تتعلق بآدم العالم الجديد نفسه: كرستوفر كولومبوس. يرصد تقرير نشرته "نيويورك تايمز" أخيراً أن تماثيل الفاتح الشهير قد تعرضت في الأعوام الأخيرة للإسقاط والتهشيم والتلويث بالطلاء والسحل على الأرض والإغراق، ومنها ما نحر رأسه بدلاً من المرة اثنتين، ومنها ما اضطرت السلطات إلى نقله ليشخص مرغماً إلى أفق غير الذي ظل شاخصاً إليه طوال ثلاثة قرون.
يقول التقرير إن "تماثيل كولومبوس باتت ساحة عراك في مواجهة كبيرة حول الأنصاب المقامة في الأماكن العامة بدأت عام 2020 خلال تظاهرات العدالة العرقية التي اندلعت عقب قتل جورج فلويد. وفي غضون أربعة أشهر، تم تفكيك أكثر من 30 تمثالاً، إما لإطاحتها من المتظاهرين أو لصدور أوامر من المسؤولين بإبعادها، وبات بعض هذه التماثيل الآن في مواقع جديدة بكنائس ومتاحف وأندية اجتماعية تابعة للأميركيين الإيطاليين، وغير ذلك".
لماذا يتغير النظر إلى كولومبوس هذا التغير الحاد؟ يقول المؤرخ ماثيو ريستول لـ"نيويورك تايمز" إن كل عام يأتي بنسخة جديدة من كولومبوس ورؤية مختلفة له، ومن ثم لتماثيله "فهي أشياء حية يتبدل معناها على الدوام، لذا لا بد من أن تتغير مواقعها، وكيفية حديثنا عنها، وليس هذا بالأمر السيئ".
لم يؤخذ رأي ماثيو ريستول في هذا التقرير لكونه مؤرخاً وحسب، وإنما لإصداره أخيراً كتاباً عنوانه "كرستوفر كولومبوس وأرواحه التسع" رصد فيه عبر أكثر من 300 صفحة الحياة المتقلبة التي عاشها كرستوفر كولومبوس منذ وفاته.
يكتب جوش مكوليف (موقع جامعة بنسلفانيا ـ 9 أكتوبر (تشرين الأول) 2025) أن ماثيو ريستول "طوال أعوام عمله متخصصاً في تاريخ أميركا اللاتينية، لم يبد اهتماماً كبيراً بكرستوفر كولومبوس، ولا اتخذه موضوعاً للدرس. ماثيو ريستول هو أستاذ كرسي إدوين إيرل سباركس لتاريخ أميركا اللاتينية الاستعماري والأنثروبولوجيا ومدير مركز دراسات أميركا اللاتينية بكلية الفنون بجامعة بنسلفانيا.
يقول مكوليف إن مؤلف الكتاب قد قال إن كولومبوس لم يبد له قط موضوعاً آنياً أو ملحاً ليكتب عنه كتاباً كاملاً، بل بدا له عتيقاً بعض الشيء، إلى أن غيرت رحلة إلى إسبانيا رأيه وأثمرت في نهاية المطاف كتابه الجديد الذي يتتبع فيه تاريخ تغير الآراء في كولومبوس، وعلى مدى تلك الرحلة يفصل ريستول الواقع عن الخيال سعياً إلى فهم السبب الذي تظل به لكولومبوس معان مختلفة لدى مختلف الناس".
ويضيف مكوليف "كان كولومبوس دائماً جزءاً من منهج ريستول التعليمي والبحثي على مدى الأعوام، لكنه لم يقرر أن يخصص له مشروعاً كاملاً إلا بعد قيامه بزيارة أصدقاء له في غاليسيا بإسبانيا قبل أعوام قليلة، ففي أثناء وجوده هناك التقى ريستول بعض جيران أصدقائه فسألوه بعدما عرفوا مهنته (وهل أنت هنا لأن كولومبوس كان من غاليغو؟) وفي حيرة من أمره استزادهم فقالوا إنه خلافاً للمسجل تاريخياً عن كون كولومبوس من جنوة بإيطاليا، فإنه في واقع الأمر كان من نبلاء غاليسيا، لكنه ادعى زوراً أنه توفي عام 1492 وعمد إلى تغيير اسمه".
قال ريستول "لم أتعامل مع ذلك القول بجدية، لكنه أثار فضولي ففكرت: ما مدى انتشار هذا الاعتقاد؟ وتبين أنه اعتقاد واسع الانتشار، وأنه جزء من نسيج تفكير أهل هذه المنطقة في علاقة تاريخهم بكولومبوس، فعلمت أن عليَّ أن أحقق في هذا الأمر... وسرعان ما خطر مفهوم (الأرواح التسع) فأخذت على عاتقه أن يعثر على (نسخ كولومبوس الكثيرة) النافذة في الوعي العام".
تأويلات وتكهنات واختلافات
يكتب أندريه ريسنديز في استعراضه للكتاب (نيويورك تايمز ـ 10 أكتوبر 2025) أنه على رغم أن شهرة كرستوفر كولومبوس تطاول شهرة جنكيز خان ونابليون بل وبعضاً من كبار الأنبياء الذين يعرفهم المليارات في شتى أرجاء العالم، وعلى رغم أن الجميع تقريباً يفهمون أن كولومبوس هو الذي "شق عباب المحيط الأزرق" مثلما يتردد في الأغنيات، فإن كل شيء آخر في سيرته وإرثه احتمل كثيراً من التأويلات والتكهنات والاختلاقات الصريحة على مدى أكثر من 500 عام. وفي كتابه المسلي والمدهش، يتناول المؤرخ ماثيو ريستول هذه التفسيرات جميعاً - حتى الذي لا يقوم منها على أي دليل صلب - قابلاً بها على علاتها. "فنحن هنا لا نتعامل مع الإنسان الفعلي الذي يمكن تجميع أجزائه من السجلات التاريخية، بقدر ما نتعامل مع تجسدات أميرال المحيط التي أعيد خلقه من خلالها، بما يمثل في رأي ريستول ظاهرة ثقافية واسعة المدى قوامها عدد غفير من العناصر دائمة التغير التي يطلق عليها مصطلح (كولمبيانا). ومجال الكولمبيانا - بحسب المؤلف - يضرب بجذوره في علم النفس وفي سذاجة البشر على السواء. فزوايا النظر الجديدة إلى كولومبوس تكتسب في العادة زخماً حينما تصطدم بنقطة مثيرة معينة هي أن تعارض رأياً مستقراً مع تمكنها من الظهور بمظهر معقول يتيح لها أن تعلق بالذاكرة".
غير أن الكتاب يقدم سيرة مباشرة لكولومبوس أيضاً، فليس كله نقاشاً لصور كولومبوس المختلفة، والمتغيرة بمرور الزمن واختلاف الظروف، إذ يكتب جوش مكوليف أن "ماثيو ريستول يصف الجزء الأول من الكتاب بأنه سيرة مباشرة ترصد بواكير حياة كولومبوس باعتباره (محض نكرة) من جنوة، وارتقاءه الاجتماعي في أعقاب الرحلات البحرية التي مولها التاج الإسباني عبر المحيط الأطلسي إلى البحر الكاريبي ووسط أميركا وجنوبها، تلك الرحلات التي فتحت الطريق أمام الاستكشافات الأوروبية واستعمار الأميركتين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قال ريستول لجوش إنه استطاع، عبر بحثه في جنوة وأماكن أخرى، أن يحظى بفهم لكولومبوس الإنسان يفوق فهمه السابق له، فرأى أنه "كان نرجسياً، مفرطاً في اعتباره لنفسه، لكنه لم يكن وحشاً بالمقارنة مع شخص مثل كورتيس الذي توصلت إلى نتيجة قاطعة في أمره مفادها أنه كان وحشاً". وكورتيس هذا هو الغازي الإسباني في القرن الـ16 الذي تناول ماثيو ريستول أعماله في كتب سابقة منها "عندما التقى مونتيزوما بكورتيس: القصة الحقيقية للقاء غير التاريخ" وصدر عن دار إكو عام 2018. ويضيف ريستول أن "كولومبوس اتسم بالعناد الشديد الذي بات في الوعي الأميركي سمة جديرة بالإعجاب. ولم يكن يعرف الاستسلام قط، لأن نرجسيته كانت متغلغلة في فكرة تحقيق الارتقاء الاجتماعي، الذي نجح في تحقيقه".
ثم إن ريستول ينطلق من تلك السيرة المباشرة ليخصص بقية الكتاب لاستكشاف (كولومبوس الأسطوري) الذي بلغت أسطورته ذروتها في سنين ما بعد "الاستقلال الأميركي"، حينما بات يحتفى به باعتباره رمزاً للتميز "يوشك أن يطاول جورج واشنطن".
وليس بمدهش، في تقدير أندريه ريسنديز، أن نقطة الانطلاق المشتركة بين أساطير كثيرة في الكولمبيانا تتمثل في ندرة المعلومات المعروفة عن الرجل نفسه "بما يفتح الباب لحلول كثيرة تتعقب أصل كولومبوس فتنسبه إلى اليونان والنرويج وكورسيكا وإسبانيا والدنمارك والبرتغال وأماكن أخرى، وتعده قرصاناً أو يهودياً أو نبيلاً مجهولاً... وينتج من ذلك ما يمضي بنا عبر القرون وإلى ما وراء الأطلسي، فنتوغل في الغرب الأوسع، وليس الشرق الذي كان للمفارقة هو وجهة كولومبوس الأكيدة".
لا تتساوى أرواح كولومبوس التسع في الأهمية، فليس مصير رفاته واختلاف إسبانيا وجمهورية الدومينيكان عليه وعلى مكانه بالأمر المهم، خلافاً لحياة كولومبوس باعتباره قديساً فهذه مدهشة ومهمة، فالجهود التي بذلت لتصويره أداة للرب غرضها نشر الكاثوليكية في الأميركتين بدأت في حياة كولومبوس نفسه، وناصرها الذين أعقبوه مباشرة، في حين أن الحملة الرسمية لتطويب كولومبوس قديساً لم تجر في أوروبا إلا في فجر القرن الـ19. وعلى رغم أن هذه الجهود لم تكلل قط بالنجاح، فقد عززت - مثلما يوضح الكاتب - مقام كولومبوس بوصفه شخصية إلهية.
غير أن ما يصفه ماثيو ريستوس بالكولمبيانا، أو مجمل السرديات المحيطة بشخصية كرستوفر كولومبوس، لم يتضح في مكان من العالم بقدر ما اتضح في الولايات المتحدة التي أصبح كولومبوس فيها جزءاً من قصة نشأتها أو سفر تكوينها نفسه، فلو أن "واشنطن هو أبو الأمة الأميركية، فكولومبوس هو جدها" كما يشير ريستول موضحاً أن لكولومبوس آثاراً كأنها آثار آدم أبي البشر معروضة في قاعة الكابيتول الأميركية.
في لحظة ما من القرن الـ19 صادر الأميركيون الإيطاليون الكولمبيانا وأدخلوا عليها تغييرات كبيرة، سعياً إلى الظفر بقبول العالم الجديد لهم، ورغبة في تأكيد إسهامهم في مجد الأمة الأميركية، وأدى كل هذا العمل إلى تكاثر تماثيل كولومبوس وأنصابه، كما أنه أدى إلى الاحتفال بيوم كولومبوس، قبل زمن بعيد من تحوله إلى إجازة فيدرالية في القرن الـ20.
كولومبوس آخر
في حوار مع موقع جامعة بنسلفانيا، أشار ريستول إلى أن موجة المهاجرين الطليان الكبرى والأولى وصلت إلى أميركا عندما كانت تحتفل بمرور 400 عام على وصول كولومبوس. وأوضح أنهم تعرضوا لموجة تحيز عنيفة في بداية عهدهم بوطنهم الجديد، أو بمهجرهم بالأحرى، فمضوا يبحثون عن سبل يظهرون بها حماسهم للاندماج في بوتقة الصهر الأميركية، "وهنا يدخل كولومبوس" على حد قول ريستول، إذ اكتشف "الأميركيون الإيطاليون أن الولايات المتحدة رفعت كولومبوس إلى مقام الشخصية الوطنية البطولية... فأصبح هو وواشنطن شخصيتين شبه متساويتين، فما عاصمة الولايات المتحدة؟ واشنطن، وأين تقع واشنطن؟ في مقاطعة كولمبيا. لقد تماهى الأميركيون الإيطاليون تماماً مع كولومبوس ودمجوه فيهم، فاخترعوا في نهاية المطاف كولومبوس آخر".
وفيما مضى الأميركيون الإيطاليون يقدمون إسهاماتهم المهمة في الثقافة الأميركية في القرن الـ20، صار كولومبوس نقطة افتخار لجماعات من قبيل "فرسان كولومبوس"، وصار يوم كولومبوس في الإثنين الثاني من أكتوبر إجازة فيدرالية وأقيمت تماثيل كثيرة له في كثير من المدن الأميركية.
غير أن نسخة أخرى من كولومبوس بدأت تتبلور مع حلول الذكرى الـ500 لوصول المكتشف الشهير، "وهذه النسخة أخطر، بسبب مسؤوليتها عن استعباد السكان الأصليين وموتهم، فباتت أماكن كثيرة، تحتفل في الإثنين الثاني من أكتوبر بيوم السكان الأصليين. وفي هذا قال ريستول لموقع جامعة بنسلفانيا - وهي ممن يحتفلون في الإثنين الثاني من أغسطس بيوم السكان الأصليين - إن "جيلاً كاملاً ابتداء بعام 1992 يرى كولومبوس من زاوية التعاطف مع السكان الأصليين".
يكتب أندريه ريسنديز أن الصورة المقدسة لكولومبوس هيأت المسرح لرد فعل عنيف في العقود الأخيرة حينما بدأت تروج تفاصيل حياته البغيضة على نطاق واسع. "وعلى رغم أن ريستول يعد - في بداية الكتاب - بأن يعالج عالم الكولمبيانا المختلط بعقل منفتح، قائلاً إن هدفه لا يتمثل بالضرورة في دحض أو مناقشة كل نقطة على حدة، وإنما في أن يفهم الأسباب الكامنة وراء صور كولومبوس المتعددة ووجوده المستمر، فإن ماثيو ريستول (الذي يدير برنامج دراسات أميركا اللاتينية بجامعة بنسلفانيا) لا يملك أن يكبح جماح نفسه، فيقطع بأنه ما من لغز حقيقي يحيط بأصل كولومبوس، فهو من جنوة، والتوثيق لهذا كثير وواضح، وينفي تماماً ما يقال عن أنه كان في علاقة مع الملكة إيزابيلا التي تقول الأسطورة إنها باعت حليها لتمويل رحلته الأولى، وينفي عنه أنه كان بحاراً بارعاً حارب البرتغاليين والإسبان الذين عارضوا اقتراحه الوصول إلى الشرق من خلال الإبحار نحو الغرب، فلم يكن أولئك ظلاميين مناصرين للحقائق القديمة، لكن الأمر ببساطة أن حسابات كولومبوس في ما يتعلق بحجم العالم كانت خاطئة تماماً فأثارت شكوكاً منطقية في البلاطين البرتغالي والإسباني.
ويتساءل أندريه ريسنديز "فيما يخوض المرء غمار كولمبيانا المحير هذا، ينشأ سؤال لا محالة: هل ترقى نسخ كولومبوس الكثيرة والمختلفة إلى مستوى (الظاهرة الثقافية البعيدة المدى) على حد تعبير ريستول أم إنها محض نتيجة للنعرات القومية، إذ تحاول بضع مدن متوسطية صغيرة أن تستثمر شهرة كولومبوس فتنسبه كل إلى نفسها، ونتيجة أيضاً لكتاب ومؤرخين باحثين عن مواد جديدة مثيرة، أو نتيجة رغبة نشطاء على مواقع من قبيل (تيك توك) يبحثون عن دقيقة من الشهرة فيصورون كولومبوس وحشاً ذا نزعات جنسية عنيفة؟"، ويجيب ريسنديز قائلاً إن الحقيقة هي مزيج من كل ما سبق، لكنه مزيج يستحيل الفصل بين مكوناته المتشابكة.
غير أن كتاب أرواح كولومبوس التسع يعرض بعض التدخلات المهمة، فمنها ما يرد كولومبوس إلى حجمه الطبيعي، فغالباً ما يتم تقديم كولومبوس باعتباره السبب في كل ما جرى في العالم الأطلسي بعد عام 1492 من استعمار الإمبراطوريات الأوروبية للأميركتين وشحن 12 مليون أفريقي بالقوة عبر المحيط، فيذهب ريستول إلى أن كولومبوس يجب أن يعد بدلاً من ذلك عرضاً أو حادثة. "فبحلول نهاية القرن الـ15، كانت البرتغال وإسبانيا منتظمتين في تنافس محتدم على استكشاف الأطلسي واستعماره، وهو سباق كان من شأنه، طال الزمن أم قصر، أن يصل بهم إلى القارة الأميركية، فلو لم يكن كولومبوس لكان غيره، بحسب ما يرى ريستول".
وعلى رغم أن الخلاف يبقى محتدماً حول كولومبوس، بل وحول تماثيله، وعلى رغم أن الجدل يبقى قائماً بين أنصار قداسته والمصرين على وضاعته، وبين القائلين بأنه مات مديناً، والقائلين بأنه عاش تاجراً للعبيد، ووسط كل ذلك الضجيج، "ينجح ريستول نجاحاً مدهشاً في قول شيء جديد ومثير للاهتمام عن شخص سبق أن قيل عنه كل شيء فعلاً".
العنوان: THE NINE LIVES OF CHRISTOPHER COLUMBUS
تأليف: Matthew Restall
الناشر: Norton