ملخص
من الواضح أن تمويل "حزب الله" لم يكن يوماً مجرد وسيلة تشغيلية، بل كان عنصراً تأسيسياً في بناء نفوذه العسكري والسياسي والاجتماعي. فالموارد المالية التي تدفقت عليه، سواء عبر الرعاية الإيرانية أو عبر شبكات موازية داخلية وخارجية، شكلت قاعدة الشرعية التي سمحت له بالتمدد خارج دور "المقاومة" ليصبح لاعباً مهيمناً في المشهد اللبناني والإقليمي.
منذ أعوام، ينظر المجتمع الدولي، وفي طليعته الولايات المتحدة، إلى سلاح "حزب الله" بوصفه الوجه العسكري لمعادلة أكبر اسمها التمويل المستدام، فالتجارب أثبتت أن أي خطة لنزع السلاح تبقى نظرية إذا لم ترفق بآلية لتجفيف منابع المال التي تضمن الرواتب والتسليح والغطاء الاجتماعي للحزب. لهذا باتت واشنطن تعتبر أن نزع السلاح وتجفيف طرق الإمداد وجهان لعملة واحدة، فلا يمكن تفكيك البنية العسكرية من دون ضرب الشريان المالي الذي يغذيها.
هذا الإدراك يفسر تركيز وزارة الخزانة الأميركية على ملاحقة شبكات الصرافة وشركات الواجهة وخطوط التهريب الإيرانية، فالعقوبات هنا ليست في غاية ذاتها، بل أداة ضمن استراتيجية مزدوجة، لشل قدرة الحزب على التمويل، ومن ثم تقليص هامش المناورة العسكرية والسياسية لديه، بالتوازي أتت الاستهدافات العسكرية الإسرائيلية لقيادات لوجيستية ومالية على الأرض.
في المقابل، يراقب المجتمع الدولي من كثب كل مسار بديل تلجأ إليه طهران أو الحزب، من الحقائب النقدية عبر مطار بيروت الدولي، إلى الاقتصاد غير المشروع، لاعتباره معياراً لقياس مدى فاعلية الضغط الحالي، ولرسم خطط التصعيد المقبلة.
وفي السياق نقلت صحيفة "الشرق الأوسط" خبراً، مفاده بأن مسؤولاً عراقياً بارزاً تلقى رسالة من إيران أواخر أغسطس (آب) 2025، تطلب تسهيلات "غير عادية" في معبر رسمي غرب البلاد، لنقل شحنات أموال إلى "حزب الله" عبر الأراضي السورية. فيما تحدثت تقارير إعلامية كثيرة في الفترة الأخيرة عن رصد محاولات إيرانية لضخ مساعدات إلى الحزب الذي يعاني ضغوطاً اقتصادية وسياسية غير مسبوقة، ومضي الدولة بقرار نزع سلاحه. إضافة إلى أن العمليات العسكرية الإسرائيلية عملت على استهداف، طوال الفترة الماضية، طرق إمداد الحزب وأماكن تخزين الأموال في الضاحية الجنوبية لبيروت.
"خط نقل الأموال" إلى الداخل
وليس بعيداً عما ذكر سابقاً، ما حصل في أبريل (نيسان) 2024 استدرج فريق من الاستخبارات الإسرائيلية الصراف محمد إبراهيم سرور إلى فيلا في بيت مري (جبل لبنان)، وأقدم على تصفيته، بسبب اضطلاعه بتحويل أموال من إيران و"حزب الله" إلى الفصائل في فلسطين. أيضاً كانت استهدفت في غارة جنوب لبنان "رئيس شبكة الصادق" للصرافة، هيثم عبدالله بكري، الذي، وفقاً للإسرائيليين، كان يستخدم مكتب الصيرفة كبنية تحتية لتخزين وتحويل الأموال بهدف تمويل أنشطة "حزب الله"، بتمويل وبتوجيه من "فيلق القدس الإيراني"، وأن هذه الأموال تستخدم لأغراض عسكرية تشمل شراء وسائل قتالية ومعدات إنتاج ودفع رواتب العناصر، إلى جانب تمويل العمليات العسكرية.
وأخيراً استهدفت شخصاً يدعى غسان نصرالله، وهو مغترب لبناني مقيم في أفريقيا منذ أكثر من 40 سنة، وبحسب المصادر الصحافية فإن عبدالله، الذي اغتيل قبل موعد سفره للخارج بساعات، مهندس ولديه أعمال في أفريقيا، وأحد أبنائه من قتلى "حزب الله". وطبعاً هذه الشخصيات والأسماء هي على سبيل المثال لا الحصر.
مطار بيروت تحت المراقبة
طوال الأشهر الماضية حصلت عمليات تفتيش دقيقة في مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، حيث تتولى فرق متخصصة الكشف المسبق على حقائب أي مسافر قادم من إيران أو العراق أو أفريقيا أو دول أخرى، في سياق ملاحقة مستمرة للأموال النقدية، التي تؤكد إسرائيل أنها تعود إلى "حزب الله". وعلى رغم الجهد الحثيث الذي تقوم به السلطات اللبنانية، وعملية الضبط التي تجرى على الحدود بين لبنان وسوريا، ومحاولة الولايات المتحدد تتبع مسارات التحويل والإمداد والتضييق عليها، فإنه يبدو أن المهربين يجدون وسائل لإيصال الأموال إلى "حزب الله".
أما الخبر المفاجئ قبل أيام، فكان ما بثته وسائل إعلام محلية نقلاً عن مصادر في "الحزب" يفيد ببذله مساعٍ الهدف منها "إحداث صدمة إيجابية" لدى بيئته من خلال الإعلان عن رصد مبلغ مليار دولار، بغية المباشرة بإعادة الإعمار في الضاحية الجنوبية والمناطق المتضررة، لكن الخبر بقي في سياقه الإعلامي من دون أي تأكيد.
الموازنة الدفاعية السنوية الإيرانية تبلغ 15 مليار دولار
في يناير (كانون الثاني) 2018 قال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي حينها، غادي آيزنكوت، إن طهران أنفقت منذ عام 2012 مليارات الدولارات في سوريا. وأضاف "في الوقت الراهن هناك 1000 عنصر من القوات الإيرانية، و10 آلاف من جنسيات أخرى، و8 آلاف من قوات ’حزب الله‘ اللبناني في سوريا"، فيما قدرت وزارة الدفاع الإسرائيلية في خريف عام 2017 أن إيران تدفع 800 مليون دولار سنوياً لـ"حزب الله"، و70 مليون دولار لحركة "حماس" ومجموعات أخرى في قطاع غزة. وفي السياق نفسه، قال الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في إحدى مقابلاته "خطر إيران ليس في امتلاكها المال وإنما في الموازنة الدفاعية السنوية التي تبلغ 15 مليار دولار".
بالعودة إلى "حزب الله"، تؤكد تقارير أن قوته الحقيقية تكمن في مصادر تمويله، إذ اعترف أمينه العام الراحل حسن نصرالله بأن مصادر التمويل تأتي من طهران، وقال في خطاب له في يونيو (حزيران) 2016 "نقول للعالم كله، موازنة ’حزب الله‘ ومعاشاته ومصاريفه وأكله وشربه وسلاحه وصواريخه من إيران". وكانت مصادر لبنانية قد قدرت أن المبالغ التي كان يتلقاها الحزب في فترة الثمانينيات بنحو 100 مليون دولار سنوياً، لتصل إلى 600 مليون دولار عام 2017.
لكن تقارير غربية وعربية استقصائية كثيرة ذكرت منذ أعوام ما يلي "إذا ما تابعنا لائحة العقوبات التي تصدرها أميركا بصورة دورية، وراقبنا البلدان التي تنتمي إليها المؤسسات أو الأشخاص، لوجدنا أنها تغطي مساحة شاسعة جغرافياً من هذا العالم، ما يعني أن ’حزب الله‘ لا يعتمد في تمويله فقط على إيران، كما لا يعتمد في حركته المالية على الحوالات أو الحسابات المصرفية، حتى نواب ووزراء الحزب يتلقون رواتبهم نقداً من الدولة اللبنانية، وهذا معروف". وإذا عدنا إلى كلام نصرالله خلال مقابلة تلفزيونية عام 2019، على إثر عقوبات أميركية طالت نوابه، قال "بالنسبة إلينا هي معركة بيننا وبينهم، وبالنسبة إلى الإخوة، لا أموال لديهم في البنوك، وهي جزء من الحرب القائمة".
وانطلاقاً مما ذكر، يكون بحكم المؤكد أن الحزب تمكن من بناء اقتصاد خاص به مواز للاقتصاد اللبناني، حتى بات يعرف بـ"الاقتصاد الرديف"، الذي يضم شركات ومؤسسات عدة منها "جهاد البناء"، و"شركة وعد"، و"القرض الحسن"، و"النية الحسنة الخيرية" وغيرها، كذلك فإن أمواله لا يتم تحويلها عبر الجهاز المصرفي الرسمي اللبناني، بل إنه، وبحسب مصادر مراقبة لحركة نقل الأموال للحزب من إيران، ودول أميركا اللاتينية، وأفريقيا إلى لبنان، فإنها كانت أو ما زالت تحصل عبر مطار بيروت الدولي ومن سوريا براً.
مسارات تمويل "حزب الله"
منذ تأسيسه عام 1982 ارتكز "حزب الله" على رعاية إيرانية مباشرة عبر "الحرس الثوري" و"فيلق القدس"، التي شكلت العمود الفقري لوجوده العسكري والتنظيمي. هذا الدعم لم يكن مالياً فحسب، بل تداخل مع التمويل العيني من سلاح وتدريب ولوجيستيات، مما جعل إيران الممول الأول والضامن الاستراتيجي لبقاء الحزب.
إلى جانب ذلك، أدى "الخمس" (التبرع بخمس الفائض للدخل السنوي) والتبرعات الدينية دوراً مركزياً، إذ تدفقت أموال من شبكات المغتربين الشيعة والمؤسسات الدينية، لتصب في مؤسسات الحزب الاجتماعية مثل "مؤسسة الشهيد" و"جهاد البناء".
ولاحقاً، في التسعينيات، بدأ الحزب يبني واجهاته الاقتصادية - المالية داخل لبنان، فظهر "بيت المال" ليشكل ما يشبه وزارة مالية ظل، تتولى إدارة أموال الحزب وإعادة تدويرها عبر القطاع المصرفي اللبناني. بالتوازي، توسعت شبكة المؤسسات الاجتماعية والخدمية، كالمستشفيات والمدارس والجمعيات، التي كانت تستند إلى الدعم الإيراني والتبرعات، لكنها أدت وظيفة مزدوجة، خدمة البيئة الحاضنة وشرعنة الإنفاق العسكري تحت غطاء مدني.
خلال هذه المرحلة اكتسب المال طابعاً "أسطورياً" في خطاب الحزب، ففي زمن الفقر والإهمال الرسمي بدا وكأن لديه مصادر لا تنضب. وهذا ما عزز حضوره كفاعل اجتماعي واقتصادي يتجاوز الدولة. ومع انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000 ظهرت بوضوح نتائج هذا التمويل، عبر شبكة خدمات متماسكة، وقاعدة مقاتلين منظمة برواتب منتظمة، وواجهة سياسية شرعية عبر كتلته النيابية في البرلمان.
أي، ما بين أعوام 1982 و2005، كان تمويل "حزب الله" ثلاثي الأبعاد: إيراني منظم عبر الأموال النقدية والسلاح، وديني وشعبي أي عبر "الخمس" والتبرعات، ومؤسساتي ومحلي عبر الواجهات المالية والخدماتية. هذه القنوات، المتشابكة والمتوازية، أمنت للحزب صموده وتحوله من مجرد تنظيم مقاوم صغير إلى لاعب عسكري وسياسي متكامل داخل لبنان.
بين عامي 2006 - 2011
شكلت حرب يوليو (تموز) 2006 نقطة تحول في مسارات التمويل لدى "حزب الله"، فبعد الدمار الهائل الذي لحق بالضاحية والجنوب، سارع الحزب إلى توزيع تعويضات نقدية بالدولار الكاش مباشرة على المتضررين لإعادة إعمار منازلهم، في مشهد عرف بـ"حقائب المال". هذه الخطوة لم تكن مجرد دعم مالي، بل رسالة سياسية واجتماعية حينها.
في موازاة ذلك، عمد الحزب إلى توسيع واجهاته الاقتصادية، فالمجلس التنفيذي ضاعف نشاط مؤسسات مثل "جهاد البناء"، التي تكفلت بإعادة الإعمار، في وقت بدأت شركات "آرش كونسالتينغ" للدراسات والاستشارات الهندسية، و"معمار كونستركشن" للهندسة والمقاولات تحجز مكانها في مشاريع ومناقصات عامة وخاصة. هذه الشركات، التي تؤكد التقارير أنها ممولة ومدعومة من إيران، أدت وظيفة مزدوجة، توفير تمويل إضافي عبر أنشطة تجارية مشروعة، وخلق غطاء مدني لتدوير أموال الحزب. كذلك برز خلال هذه المرحلة دور مؤسسة "القرض الحسن" كأداة مالية متنامية، وإن ظل بعيداً من الضوء مقارنة بما سيصبح عليه بعد عام 2019، واعتمد الحزب على هذه المؤسسة لتأمين قروض صغيرة ورهن الذهب، مما وفر له سيولة نقدية مستمرة وربط البيئة الاجتماعية بآلياته المالية الداخلية.
على الصعيد الخارجي استمر الدعم الإيراني المباشر بوتيرة عالية، خصوصاً مع انتظام الحزب المتزايد في تدريب كوادر داخل لبنان وخارجه وبناء ترسانة صاروخية أكبر. وكان التمويل الإيراني يغطي ليس فقط رواتب المقاتلين، بل أيضاً كلف إعادة الإعمار، مما جعل الارتباط بين المال والسلاح أوضح من أي وقت مضى.
ويمكن القول إنه بين أعوام 2006 و2011، انتقل "حزب الله" من نموذج "التعويض المباشر" إلى نموذج "المؤسسات الاقتصادية الموازية"، وبذلك تحول المال إلى أداة استراتيجية لإعادة بناء شرعية اجتماعية بعد الحرب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما بين عامي 2011 و2018
مع اندلاع الحرب السورية عام 2011 دخل "حزب الله" في واحدة من أكثر المراحل استنزافاً مالياً ولوجيستياً منذ تأسيسه، ذلك أن مشاركته المباشرة في الحرب السورية، وما رافقها من توسع في العمليات العسكرية والانتشار على جبهات عدة، فرضت قفزة كبيرة في كلفة التمويل، من جهة رواتب المقاتلين الإضافيين، والتعويضات لعائلات القتلى والجرحى، وإمدادات السلاح والذخيرة، إضافة إلى شبكة لوجيستية تمتد من الحدود اللبنانية إلى العمق السوري.
هنا أدى الدعم الإيراني الدور الحاسم، فبحسب تقديرات رسمية نشرها "فريق التواصل الإلكتروني" في وزارة الخارجية الأميركية، بلغ حجم الدعم السنوي من طهران إلى الحزب نحو 700 مليون دولار بين عامي 2016 –2018، وهو ما مثل ما يشبه "الموازنة الثابتة". الدعم شمل أيضاً شحنات سلاح وتدريباً وتسهيلات لوجيستية عبر مطار دمشق ومعابر برية.
وإلى جانب التمويل الإيراني المباشر طور الحزب اقتصاداً موازياً قائماً على الحرب، بتهريب السلع والوقود عبر الحدود اللبنانية - السورية، مما أتاح تدفق سيولة بالعملة الصعبة، وإقامة الشراكات مع رجال أعمال وشركات واجهة داخل سوريا ولبنان، وخصوصاً في قطاع البناء وإعادة الإعمار المحدود الذي بدأ مبكراً في بعض المناطق.
أضاف الحزب إلى النشاطات غير المشروعة التي توسعت في تلك المرحلة، تجارة المخدرات والكبتاغون وغسل الأموال عبر شبكات لبنانية مغتربة، كشفتها لاحقاً تحقيقات أميركية وأوروبية. أما داخلياً، فقد واصل الحزب استخدام مؤسساته الاجتماعية والمالية، وعلى رأسها "القرض الحسن"، لتأمين خدمات لجمهوره، وربطهم أكثر بمؤسساته.
باختصار ما بين عامي 2011 و2018 تحول تمويل "حزب الله" إلى اقتصاد حرب متكامل، بحيث تؤمن إيران السقف المالي، في وقت تغذي شبكات التهريب والاقتصاد غير الشرعي قنوات إضافية للسيولة. هذه المعادلة مكنت الحزب من خوض حرب طويلة في سوريا من دون انهيار مالي، لكنها جعلت مصادر تمويله أكثر انكشافاً أمام المراقبة الدولية والضربات اللاحقة.
بين عامي 2019 - 2021
شكل انهيار القطاع المصرفي اللبناني في خريف عام 2019 تحدياً غير مسبوق لـ"حزب الله"، فقد انهارت الثقة بالعملة الوطنية والقطاع المالي الرسمي، وجمدت ودائع الناس في المصارف بالدولار، فيما أصبح النظام المصرفي خاضعاً مباشرة للرقابة الأميركية والعقوبات. هنا برزت الحاجة إلى بنية مالية بديلة، فاندفع الحزب إلى تفعيل أدوار مؤسساته الداخلية، وعلى رأسها جمعية "القرض الحسن".
في هذه الفترة تحول "القرض الحسن" من مؤسسة اجتماعية محدودة الظهور إلى مصرف مواز فعلي. ومنح قروضاً صغيرة بالليرة والدولار، واعتمد نظام رهن الذهب لتأمين السيولة، ووفر شبكة من الصرافين والفروع في مناطق نفوذ الحزب، وبذلك ضمن الحزب استمرار دورة اقتصاده الداخلي، وربط جمهوره أكثر بمؤسساته بعيداً من النظام المصرفي الرسمي.
إلى جانب ذلك، لجأ الحزب إلى النقد الورقي المباشر، فإيران كثفت إرسال حقائب مالية بالدولار عبر مطار دمشق ثم إلى بيروت، لضمان دفع رواتب المقاتلين والموظفين بانتظام. وأصبح هذا التدفق النقدي أكثر وضوحاً مع العقوبات الأميركية على شبكات الصرافة التي اتهمت بتأمين الدولارات للحزب.
إضافة إلى ذلك اعتمد الحزب على إدخال الوقود الإيراني عبر سوريا إلى لبنان عام 2021، وهو ما لم يكن سراً، إذ أعلنت قناة "المنار" التابعة له في 24 سبتمبر عام 2021 أعلن وصول ثاني سفينة محملة بالمازوت من إيران إلى ميناء بانياس بسوريا، ومنها إلى لبنان.
إذا، ما بين عامي 2019 و2021، انتقل "حزب الله" من الاعتماد على النظام المالي اللبناني إلى بناء اقتصاد نقدي مواز، عبر اعتماده على مؤسسة "القرض الحسن" كمصرف ظل، والأموال النقدية الإيرانية كخط حياة مباشر، والوقود والتهريب كموارد عينية ومالية.
هذه المنظومة عززت صمود الحزب وسط الانهيار، لكنها في الوقت نفسه زادت من انكشافه أمام العقوبات الذكية التي استهدفت الصرافين والواجهات المالية في الأعوام اللاحقة.
بين عامي 2022 - 2025
مع دخول العقد الجديد وجد "حزب الله" نفسه في مواجهة موجة غير مسبوقة من العقوبات الأميركية والأوروبية التي لم تكتف باستهداف إيران كراع مالي، بل ركزت على الشبكات الوسيطة، كالصرافين وشركات الواجهة ورجال الأعمال المرتبطين بالحزب. هذا التحول في العقوبات، الموصوف بـ"العقوبات الذكية"، جعل بيئة التمويل أكثر هشاشة وأجبر الحزب على البحث عن طرق التفاف جديدة.
فجاء صعود "اقتصاد الحقائب" كأحد أبرز التحولات. وتدفقت حقائب نقدية بالدولار عبر مطار بيروت أو براً من دمشق، وبالطبع كان مصدرها إيرانياً أساساً. وباتت هذه الحقائب شرياناً مباشراً لدفع الرواتب وتغطية المصاريف التشغيلية، في وقت باتت القنوات المصرفية شبه مغلقة. وأكدت تقارير غربية أن عشرات ملايين الدولارات تدخل لبنان بهذه الطريقة كل شهر، على رغم الرقابة المشددة. في المقابل، لم يتراجع دور جمعية "القرض الحسن"، بل استمرت كعمود فقري للنظام المالي الموازي للحزب. ومع ذلك تعرضت فروعها ومقارها إلى استهدافات إسرائيلية في عامي 2024 و2025، في محاولة لتقويض بنيتها المالية والاجتماعية.
وعلى خط مواز، توسعت شبكات الاقتصاد غير المشروع، وأصبح الكبتاغون سلعة استراتيجية للتصدير عبر سوريا والأردن إلى الخليج وأوروبا، وما تم اكتشافه على يد الجيش اللبناني قبل أسابيع في منطقة اليمونة في الهرمل، وهو أكبر مصنع للكبتاغون في الشرق الأوسط، يعزز من هذه المعلومات والتقارير.
وفي سياق متصل، تبرز عبر شبكات تجارة الألماس والقطع الفنية كوسيلة لتمويل الحزب وديمومته، إذ فرضت واشنطن عام 2023 عقوبات على رجل الأعمال ناظم أحمد واعتبره واجهة لتمويل الحزب عبر عمليات غسل أموال معقدة، واتهمته بالاتجار بالمقتنيات الفنية لأغراض مشبوهة، قائلة إنه ممول لـ"حزب الله"، قام بالتحايل على العقوبات الأميركية المفروضة عليه من خلال تصدير الألماس وأعمال فنية قيمتها مئات الملايين من الدولارات.
استهداف القيادات المالية واللوجيستية
أما التطور الأكثر خطورة فكان استهداف القيادات المالية واللوجيستية، كاغتيال محمد جعفر قصير (المسؤول عن التحويلات والتهريب) عام 2024، وضرب وحدة "4400" الخاصة بالتمويل واللوجيستيات. هذه الضربات لم توقف التدفق المالي تماماً، لكنها أربكت قنوات التوزيع وأظهرت أن التمويل بات عرضة للاستهداف الجسدي وليس فقط القانوني.
بالمحصلة، بين عامي 2022 و2025 انتقل "حزب الله" إلى مرحلة التمويل المحاصر، ويعتمد أكثر على النقد المباشر من إيران، واستخدام شبكات غير مشروعة لتعويض النقص، لكنه كما بات معلوماً يواجه استنزافاً ممنهجاً عبر العقوبات والاغتيالات.
هذه المرحلة كشفت عن أن الحزب قادر على البقاء بفضل مرونة شبكاته، لكن أسطورة المال الذي لا ينضب بدأت تتآكل، ومعها صورة "الحصانة المالية" التي رافقته عقوداً.
محور ثلاثي أساسي في أميركا اللاتينية
على رغم أهمية عمليات التمويل التي يستند إليها الحزب في منطقة الشرق الأوسط، لكن ما بناه طوال عقود في دول بعيدة جداً لا يقل أهمية بدوره. وفي هذا السياق يكشف تقرير مفصل أعدته الشبكة العالمية للتطرف والتكنولوجيا في يوليو 2025 أنه لطالما كانت منطقة "المثلث الحدودي" الذي تلتقي فيه دول باراغواي والأرجنتين والبرازيل في أميركا اللاتينية مركزاً لوجستياً ومالياً للنشاط المرتبط بـ "حزب الله"، وأتى في نص التقرير "منذ أواخر الثمانينيات، خدمت هذه المنطقة كقاعدة لجمع الأموال، والتيسير، وغسل الأموال، بدعم من جالية لبنانية كبيرة، وبفعل التهريب الواسع الانتشار، والحدود المفتوحة، وضعف إنفاذ القانون من قبل الدولة. وتاريخياً، ولّد عملاء الحزب في المثلث الحدودي عائدات عبر مشاريع تجارية مشروعة وغير مشروعة، بما في ذلك الكازينوهات وتهريب المخدرات، والفحم، والألماس، وغير ذلك. في سنوات سابقة، نقل الحزب معظم هذا الدخل عبر تهريب الأموال نقداً على نطاق واسع وأنظمة تحويل غير رسمية، موجهاً هذه العائدات لدعم أنشطته العملياتية في الخارج. وغالباً ما تُبنى هذه الشبكات حول روابط عائلية وتجارية قائمة في أوساط الجالية، مما يجعل من الصعب تفكيكها، حتى عند فرض عقوبات على أفراد محددين".
وقبل أشهر قليلة أعلنت وزارة الخارجية الأميركية عن تقديم مكافأة تصل إلى 10 ملايين دولار مقابل معلومات تؤدي إلى تعطيل الآليات المالية للحزب في أميركا اللاتينية. وقالت الوزارة "في هذه الدول الثلاث (الأرجنتين والبرازيل وباراغواي) يمارس الحزب ومموله أنشطة غير مشروعة مثل غسل الأموال والاتجار بالمخدرات وتهريب الفحم والنفط وتجارة الماس غير المشروعة وتهريب سلع مثل السجائر والنقد بالجملة والسلع الفاخرة، وتزوير الوثائق وتزوير الدولار الأميركي، إضافة إلى عائدات من الأنشطة التجارية في جميع أنحاء أميركا اللاتينية بما في ذلك البناء والاستيراد وتصدير السلع وبيع العقارات".
من الواضح أن تمويل "حزب الله" لم يكن يوماً مجرد وسيلة تشغيلية، بل كان عنصراً تأسيسياً في بناء نفوذه العسكري والسياسي والاجتماعي. فالموارد المالية التي تدفقت عليه، سواء عبر الرعاية الإيرانية أو عبر شبكات موازية داخلية وخارجية، شكلت قاعدة الشرعية التي سمحت له بالتمدد خارج دوره ليصبح لاعباً مهيمناً في المشهد اللبناني والإقليمي، لكن ما تكشفه التجربة اليوم أن هذه البنية المالية لم تعد محصنة كما في السابق. فالعقوبات المركزة والضربات العسكرية واستهداف القيادات اللوجيستية أدت إلى تآكل تدريجي في صورة "المال الذي لا ينضب". ولم يعد المال أسطورة قائمة بذاتها، بل أصبح ساحة مواجهة مكملة لساحة السلاح. بهذا المعنى يترسخ لدى المجتمع الدولي، بخاصة واشنطن، أن التفكيك المالي هو الوجه الآخر للتفكيك العسكري، فإذا جفت الموارد، تفقد البنية العسكرية قدرتها على الصمود. ومن هنا يتضح أن المعركة حول تمويل "حزب الله" لم تعد هامشية، بل باتت في صميم الصراع على موقع الحزب ودوره في لبنان والمنطقة.