ملخص
يترأس المخرج التركي نوري بيلغي جيلان لجنة تحكيم الدورة الـ46 من مهرجان القاهرة السينمائي الذي ينطلق نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، واختياره يعد حدثاً بارزاً، فهو أحد أكبر السينمائيين الأحياء، المتوّج بـ"السعفة الذهبية" في مهرجان كان عام 2014 عن فيلمه "سبات شتوي".
عوّدنا المهرجان المصري في الأعوام الأخيرة على استقطاب قامات مهمة مثل الصربي أمير كوستوريتسا واليابانية ناومي كاواسي والبوسني دانيس تانوفيتش لمنصب رئاسة التحكيم، ليؤكد بذلك حضوره الثقافي والفني في المشهد السينمائي العربي والدولي، وقد لقي الإعلان عن تولي جيلان الرئاسة ترحيباً واسعاً من محبيه، لا سيما في أوساط السينيفيليين الذين يكنّون له تقديراً خاصاً ويعتبرونه مدرسة في مجال السينما التأملية التي يقدمها.
تعود بدايات جيلان، البالغ من العمر 66 سنة، إلى منتصف تسعينيات القرن الماضي، لكن اسمه لم يسطع على الساحة الدولية إلا مع مطلع الألفية الجديدة، حين تجرأ القائمون على مهرجان "كان" على ضم فيلمه الثالث، "بعيد"، إلى المسابقة. في هذا الفيلم نتابع قصة محمود، المصوّر المثقف والمنعزل في إسطنبول الذي يعيش حياة هادئة وروتينية، سرعان ما تتبدّل عندما يضطر، على مضض، إلى استضافة ابن عمه يوسف، القادم من الريف بحثاً عن عمل في المدينة.
هذا الفيلم الذي يتسم بالهدوء والعمق النفسي، أرسى أسلوبه المتفرد القائم على الانزياح عن الحدث نحو التأمل في الإنسان ومصيره، وضع جيلان من خلاله أسس السينما التي سيواصل تطويرها على مدار العقدين التاليين: الوحدة كقدر إنساني، والاغتراب الوجودي في مواجهة الحاضر، والتوترات الدائمة بين الريف والمدينة، وصعوبة التواصل بين البشر حتى حين تجمعهم بيئة واحدة.
على مدى الأعوام الـ20 التالية أنجز جيلان ستة أفلام روائية طويلة، ليصل مجموعها إلى تسعة، عُرضت جميعها في مهرجان "كان"، وحصدت جوائز رفيعة فيها، من "ثلاثة قرود" إلى "فوق الأعشاب البرية"، عبوراً بــ"شجرة الإجاص البرية"، استمر جيلان في الصعود بثبات نحو القمة، محافظاً على لغة سينمائية لا تشبه سواها، مع ذلك، تبقى تحفته الأشهر، وربما الأكثر اكتمالاً، هي "ذات زمن في الأناضول" الفائز بـ"الجائزة الكبرى" في مهرجان كان 2011، الفيلم الذي يأخذنا في رحلة ظاهرها التحقيق في جريمة قتل، وباطنها تأمل في الطبيعة البشرية.
يرسم جيلان، بكادرات شديدة الانضباط، عالماً تتقاطع فيه الأسئلة الوجودية مع التفاصيل اليومية البسيطة، بشاعرية وواقعية، يلتقط مرور الزمن، راصداً الصراع الخفي بين النور والظلمة.
على رغم مكانته في عالم السينما، يصف جيلان نفسه بأنه "لا يعرف شيئاً"، في إطلالاته العلنية، يبدو متردداً، خجولاً، متحفّظاً في إطلاق الأحكام، وغالباً ما يلتفّ حول الأجوبة بدلاً من مواجهتها مباشرةً، لكن خلف هذا التردد الظاهري، تختبئ رؤية عميقة للحياة، للسينما وللطبيعة البشرية بما تنطوي عليه من تناقضات وشك.
لم يمتهن جيلان السينما إلا بعدما خاض تجارب عدة: من السفر إلى الخدمة العسكرية، وصولاً إلى التصوير الفوتوغرافي الذي شكّل مدخله البصري الأول، لم يكن الطريق معبّداً، بل كان عليه أن يموّل أفلامه بنفسه، معتمداً على الحلول الذاتية. في "بعيد"، استعان فقط بضابط فوكس، وتولّى هو نفسه تشغيل الكاميرا، هذا الاقتصاد الإنتاجي لم يقيده، بقدر ما صار جزءاً من بصمته الجمالية.
في أحد الدروس السينمائية التي ألقاها، قال إن المشاهدة الحذرة للأفلام تعلمك كيف تصنع فيلماً، بدأ يصوّر في الشوارع التي يعرفها، ويستعين بأقاربه.
في البداية، كان يخطّط لكل تفصيل بدقة شديدة، ثم راح يميل تدرجاً إلى العفوية، في مراحل لاحقة، صار يذهب إلى موقع التصوير بلا تحضيرات ثقيلة، مفضّلاً التفكير مع الممثلين في اللحظة نفسها، إذ يرى أن المبالغة في الاستعداد قد تقتل المفاجآت التي لا تحدث إلا في قلب اللحظة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تأثر جيلان بالأدب الروسي، خصوصاً بأعمال تشيخوف ودوستويفسكي، لا يترك لها مجالاً للشك في هيمنتها على فكره. قرأ "الجريمة والعقاب" في سن مبكرة، ومنذ ذلك الحين بدا له كل أدب آخر أقل عمقاً وأقل قدرة على التقاط جوهر النفس البشرية، يقول "هناك بعض التشابه بين الثقافتين الروسية والتركية، الناس متشابهون تحركهم الأهداف نفسها، كل شيء يتوقف على النحو الذي تنظر به إلى العالم، أنت الذي تختار، إما أن ترى الفوارق بين البشر أو ترى اختلافاتهم، أحب الأدب الروسي لأنني أكتشف عبره التشابه بين روح الشخصيات وروحي أنا".
يخفي جيلان أجوبته داخل أفلامه، لا يقدمها على طبق من فضة، ولا يسعى إلى تفسير كل شيء بوضوح مطلق، يعترف بأن لكل فيلم أجوبة داخلية في ذهنه كمخرج، لكنه يختار أن تبقى هذه الأجوبة طي الكتمان، ليفسح المجال أمام المشاهد ليصوغ تأويله الخاص ويغني العمل بمعاني عدة، يرى في الإخراج وسيلة لاستكشاف ما يجهله، وليس منصة للتبشير برأي جاهز أو رسالة مسلّمة، مع كل عمل سينمائي يختبر حدوداً جديدة، متجنباً التكرار أو الركون إلى أساليب اعتاد عليها وحققت نجاحاً من قبل.