Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إيليا سليمان يطرح أفلامه أونلاين مجانا: الحياة أولا ثم السينما

المخرج الذي يراقب مرور الزمن من زاوية خاصة يرى أن العالم صار وطنه

يعود إيليا سليمان في الزمن الفلسطيني الصعب. لكن هذه المرة "أونلاين". من النافذة الضيقة للحياة الافتراضية يطل على العالم. عامان بعد تقديم آخر أعماله، "إن شئت كما في السماء" في مهرجان كان السينمائي، قرر وضع كل أفلامه التي يبلغ عددها 4، مجاناً في تصرف المشاهدين الفضوليين. طوال عشرة أيام، أي من 21 إلى 30 من الشهر الحالي، سيتسنى للمشاهدين اكتشاف أو إعادة اكتشاف أفلام واحد من أبرز السينمائيين العرب (الناصرة - 1960). وإعادة الاكتشاف هنا يصعب فصلها عن الحدث الفلسطيني الذي يدور حالياً في الأراضي المحتلة. هذه الاستعادة لأربعة أفلام توثق ماهية العيش تحت الاحتلال فرضت نفسها لمواكبة الصراع العربي الإسرائيلي، وجاءت بمبادرة من المتحف الأميركي العربي، وهو المتحف الوحيد من هذا النوع في الولايات المتحدة، ووظيفته الأساسية تقتصر على "سرد الحكاية العربية الأميركية"، كما يعرف عن نفسه على صفحته. 

ذهب إيليا سليمان إلى نيويورك عندما كان في الحادية والعشرين، وأنجز عمله الأول، "مقدمة لنهاية جدال"، عندما بلغ الثلاثين. يتذكر تلك البدايات قائلاً: "أول سيناريو نظرت إليه في حياتي كان "تشايناتاون" لرومان بولانسكي. عندما كنت أصل إلى الفقرة المخصصة للمسائل التقنية لم أكن أفهم شيئاً. في تلك المرحلة أيضاً بدأت أطرق الأبواب. بعد ثلاث سنوات ونصف السنة في نيويورك، لم أعد قادراً على تحملها، لأنني لم أكن أعرف ماذا أفعل، فعدت إلى فلسطين. كان لأخي كاميرا "في إيتش أس" ضخمة يصور فيها أعياد أولاده. وكان لي صديق يدرس في الجامعة قبل الظهر ويرعى أغنامه بعده، وأنا كنت أتسكع معه. أول لقطة صورتها في حياتي كانت رأس ماعز؛ "كلوز أب" لماعز يمضغ لنحو خمس دقائق. كنت أنظر إلى الماعز والماعز ينظر إليّ، هكذا انبهرت بالسينما للمرة الأولى".

نشيد النوم

فيلمه الروائي الطويل الأول، "سجل اختفاء" (1996) أحدث ضجة عند عرضه في مهرجان قرطاج (تونس) بسبب مشهده الأخير: والدا سليمان وهما يغفوان أمام النشيد الوطني الإسرائيلي مختتماً برامج السهرة التلفزيونية. روى لي أن بعض المخرجين العرب كانوا يبصقون أرضاً عندما يمر أمامهم في تونس متهمين إياه بالصهيونية بسبب هذا المشهد. حتى في الغرب الفيلم حورب عندما كان لا يزال في مرحلة التطوير. لم يرد أحد تمويله. النحو الذي تصرف به المنتجون الفرنسيون عندما حمل إليهم المشروع كان "فظيعاً"، بحسب تعبير المخرج. حتى إن بعضهم شتمه. يتذكر أن أحدهم اتهمه بأنه مجرد مخرج "متأمرك"، معتبراً ان النص الذي كتبه ليس لديه أي علاقة بفلسطين. كان هذا المنطق السائد آنذاك. يقول سليمان متهكماً: "المنتجون الفرنسيون كانوا يعرفون أكثر مني كيف هي فلسطين. يعرفون أكثر من خلال تفويضهم مخرجين فرنسيين لإنجاز أفلام عن فلسطين. أن ينجز الفلسطيني فيلماً، كان هذا شيئاً مشبوهاً، وكأننا نعاني من إعاقة في خيالنا. كانوا يعانون من عقلية ما بعد كولونيالية. هم يريدون مساعدتنا فعلاً، لكن بشرط أن نكون الموضوع وليس الصانع".

مع "يد الهية" (2002)، أحدث سليمان انقلاباً في المشهد السينمائي العربي والدولي. قدم فيلماً يعري يوميات الفلسطيني تحت الاحتلال، من دون شعارات أو قبضات مرفوعة أو خطاب سياسي مباشر، مع أن الأحداث تجري في هذه البقعة الجغرافية المتوترة والساخنة. الفيلم أحدث فتحاً في مهرجان كان حيث نال جائزة لجنة التحكيم، الأمر الذي شرع الأبواب أمام سليمان ليصل إلى شريحة أوسع من المشاهدين. تحول فجأة إلى مخرج عابر للقارات، علماً أنه لم يقدم أي مساومة جمالية ولم يلجأ إلى أي تنازل عن اقتناعاته السياسية. العالم استوعب جيداً هذه الرؤية لفلسطين ونضالها المستمر منذ عقود، لأن سليمان استند إلى الرواية الفردية التي يتعاطف معها كل إنسان، بعيداً من سينما المواقف وردود الأفعال، وارتقى إلى لغة بصرية متماسكة عبر خلالها عن رغباته وأحلامه.

مع "الزمن الباقي" (2009) عاد سليمان إلى تفاصيل كان استلهمها من تجربة والده. والفيلم مرة جديدة عرض في مسابقة كان. يروي قائلاً: "كان والدي في المقاومة، وسمعت منه هذه القصص مرات عدة. قُبض عليه وعُذب. رموه من أحد المرتفعات وألقوا عليه صخرة ولكنه نجا بأعجوبة. بقي في الغيبوبة لأيام عدة قبل أن يعود إلى الحياة. كان رجلاً قوياً، ولكنه شاخ وأصيب بالمرض. كان يروي لي حكايات كثيرة طوال الوقت، كنا مقربين جداً. عندما بدأ يمرض، طلبت إليه أن يجلس صباحاً ويكتب ما كان يرويه لي. طلبت إليه أيضاً أن يزودني ببعض المعلومات البصرية. كتب ما عاشه، فاحتفظت بذلك الدفتر الذي دون فيه لسنوات طويلة، وكنت في كل مرة أعود إليه أدرك مجدداً أنني لست جاهزاً بعد. كثير من اللقطات صورتها في المكان الذي جرت فيه الحوادث الحقيقية. حاولت أن أدنو قدر المستطاع من شيء لم أعشه. هكذا ولد الفيلم".

نضال صامت

"إن شئت كما في السماء"، فيلمه الروائي الرابع والأخير إلى تاريخ اليوم، شق طريقه إلى مهرجان كان مجدداً في آخر دورة أقيمت. عندما يشاهد الواحد منا الفيلم، لا بد أن يدرك بسرعة لماذا لا ينجز سليمان عملاً جديداً كل عامين أو ثلاثة. فالعمل السينمائي عنده مرتبط ارتباطاً عميقاً بالتجربة التي عاشها أو لا يزال يعيشها في نضاله شبه الصامت. خلافاً لفيلليني، لم يبتدع سليمان سيرته، بل عاشها على أوسع نطاق.

في مقابلة لي معه، كان يقول إن العالم كله "تفلسطن"، وما هو هذا الفيلم سوى ترجمة سينمائية لهذه المقولة والفكرة التي جاءت على لسانه: "لا أعتقد أن مكاناً واحداً في هذا العالم قد نجا من جحيم الأخبار والدمار. العالم "تفلسطن" (بات فلسطينياً لجهة المأساة)، تنتشر فيه كل التوترات التي كانت يوماً محصورة ببؤرة معينة وباتت اليوم تمتد تجاه مليون بؤرة. الدمار تعولم".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في هذا العمل الأخير، واصل سليمان بحثه المستمر عن وطن (سينمائي) يمكث بين أسواره، ولو بدا ذلك سجناً. فنراه يترك مسقطه الناصرة، حيث الشخصيات الغريبة والممارسات التي ما زالت على حالها منذ أول فيلم له، ليحط في باريس، مبلوراً حالة انتظار جديدة ترافقه أينما حل. الفيلم مشبع بمواقف عبثية من وحي سينماه نفسها، تذكرنا أحياناً بأعمال السينمائي السويدي روي أندرسون: شرطة ودبابات وعناصر إسعاف ونساء مسنات في باريس خالية من البشر والسيارات وزحمة السياح المتواصلة. مع هذا الفيلم، بلغ سليمان ذروة فن التكثيف والاختزال، واللافت أنه استشف شيئاً من الذي كان في انتظارنا في العام التالي لصدور الفيلم، مع تصويره شوارع خالية من الناس تشبه تلك التي رأيناها مع تفشي الوباء. 

رغم تكريسه من على أرفع المنابر السينمائية، لا يعتبر سليمان نفسه مخرجاً بالمعنى التقليدي للكلمة. وهو على قناعة تامة بذلك. يقول: "لدي أصدقاء وهم فعلاً سينمائيون وناشطون في الوسط السينمائي ولديهم علاقات بالمنتجين. أفلامي أوتوبيوغرافية جزئياً. وكي أنجزها علي بكل بساطة أن أعيش. يجب أن أجلس في زاوية وأن أشاهد مرور الحياة لعله يحصل شيء ما فيها".

 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما