ملخص
يطل المسلسل الإسباني الجديد "ملجأ الأثرياء"، الذي تعرضه "نتفليكس"، كمرآة تعكس بحدة هذا التناقض، عالم تحت الأرض محصن للأثرياء، في مقابل عالم فوقها ينهار ويترك للفقراء، لتصبح الحكاية أكثر من مجرد تشويق نفسي، بل نقداً اجتماعياً لاذعاً لفكرة أن النجاة نفسها قد تحولت إلى سلعة تباع وتشترى.
خلال الأعوام الأخيرة لم تعد المخاوف الكبرى من حروب وأوبئة وأزمات مناخية واقتصادية مجرد عناوين عابرة في نشرات الأخبار، بل تحولت هواجس يومية يعيشها الناس في تفاصيل حياتهم.
ومع كل أزمة جديدة يزداد الشعور بأن العالم يقف على حافة الانهيار، وأن الناجين المحتملين لن يكونوا بالضرورة الأكثر كفاءة أو استحقاقاً، بل أولئك الذين يملكون المال الكافي لشراء الأمان.
وفي السياق ذاته تأتي الدراما التلفزيونية لتفتح نافذة على هذه التوترات، لا باعتبارها ترفيهاً فقط بل وسيلة لاستكشاف الصراع الطبقي الكامن بين من يملكون القدرة على النجاة ومن يتركون لمصيرهم.
ومن هنا يطل المسلسل الإسباني الجديد "ملجأ الأثرياء" الذي تعرضه "نتفليكس"، كمرآة تعكس بحدة هذا التناقض، عالم تحت الأرض محصن للأثرياء، في مقابل عالم فوقها ينهار ويترك للفقراء، لتصبح الحكاية أكثر من مجرد تشويق نفسي، بل نقداً اجتماعياً لاذعاً لفكرة أن النجاة نفسها قد تحولت إلى سلعة تباع وتشترى.
وربما تكمن قوة المسلسل في أنه لا يروي فقط حكاية أشخاص محاصرين في مكان مغلق، بل يفضح التفاوت الطبقي الذي بات سمة للعالم الحديث، ففي الخارج ملايين الفقراء يتركون لمصائرهم القاسية، بينما هنا في الداخل، وسط جدران من الفخامة والبرودة المعدنية، يختبئ أصحاب الثروة وكأنهم يصنعون لأنفسهم "جنة خاصة" وسط جحيم الآخرين.
فردوس صناعي أم مقبرة ذهبية؟
المسلسل المؤلف من ثماني حلقات يضع المشاهد أمام فضاء مغلق، حيث شيد الأثرياء ملجأ يفيض بالترف: أثاث مصمم بعناية، إضاءة محسوبة بدقة، غرف عازلة، وخدمات تضمن رفاهية قد لا يحلم بها حتى من يعيشون على سطح الأرض في أوقات الرخاء، لكن هذه الرفاهية ليست سوى قشرة هشة، فالمخبأ على رغم زخارفه يتحول إلى سجن نفسي وقبر ذهبي يتآكل داخله ساكنوه بالخوف والقلق والذكريات.
هنا الماضي لا يختفي بل يلاحق الجميع: ماكس الخارج من السجن للتو، ووالده رافا الذي يحاول إنقاذه عبر إدخاله المخبأ، وآسيا وغويليرمو اللذين يجران جراح الماضي وصراعاته، بينما تقف مينيرفا كسلطة خفية تدير المكان وتتحكم في إيقاع العلاقات، كظل دائم يذكر الجميع بأن الفخامة ليست سوى وجه آخر للسيطرة.
المخبأ إذاً ليس مجرد ملاذ من كارثة خارجية، بل تجسيد رمزي للعالم الحديث: عالم منقسم بين قلة تملك القدرة على النجاة، وغالبية محكومة بالهلاك.
دراما الصراع الطبقي
أكثر ما يثير التفكير في "ملجأ الأثرياء" ليس فقط مصائر الشخصيات، بل السؤال الاجتماعي الأوسع: ماذا عن أولئك الذين لم يُدعوا إلى المخبأ؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العمل، وإن لم يُظهر بشكل مباشر صور الفقراء خارج الجدران إلا أن غيابهم نفسه يتحول صرخة صامتة، فالجدران العازلة للمخبأ ليست مجرد حماية من الإشعاعات، بل حاجز طبقي يحول دون دخول ملايين البشر الذين لا يملكون ثمن بطاقة النجاة.
وفي هذا المعنى يصبح الملجأ استعارة للعالم النيوليبرالي المعاصر: عالم تتكدس فيه الثروات بيد قلة، بينما يعيش الباقون في قلق دائم، بلا مظلة حماية ولا أفق مستقبل، فالفقراء في الواقع هم شهود غير مرئيين لهذه المسرحية، يرون بأعينهم كيف تُباع النجاة في أسواق الأثرياء، وكيف تتحول الكوارث إلى فرصة لمزيد من التمييز الطبقي.
نقد اجتماعي لاذع؟
من الناحية الفنية يراهن المسلسل على التشويق النفسي أكثر من الاعتماد على مشاهد الـ "أكشن"، فالمواجهات هنا داخلية: كيف يواجه الإنسان ماضيه؟ كيف يختبر نفسه حين يحشر في مساحة مغلقة؟ وكيف تتحول أقنعة العلاقات إلى وجوه عارية عند أول اختبار؟
لكن خلف هذا البعد النفسي يكمن بعد اجتماعي أعمق، الأثرياء الذين يهربون من موت العالم الخارجي يسقطون ضحايا موت داخلي أشد قسوة، فهم يكتشفون أن المال لا يشتري السكينة، وأن الفخامة لا تمنع الانهيار النفسي، وأن الجدران المحكمة لا توقف زحف الصراع الطبقي الكامن في النفوس، بل يمكن القول إن المسلسل يطرح سؤالاً فلسفياً: هل يمكن للطبقات الغنية أن تنجو وحدها؟ أم أن النجاة، حين تُبنى على إقصاء الآخرين، تصبح شكلاً آخر من الفناء؟
تكرار الفكرة وغياب الخارج
على رغم أن "ملجأ الأثرياء" نجح في خلق أجواء مشحونة بالتوتر النفسي وبناء حبكة تشد المشاهد إلى داخل المخبأ، لكن هذا التوتر الكثيف سرعان ما يتبدد أمام تكرار بعض الأنماط الدرامية وافتقار الحبكة إلى منطق داخلي متماسك، فمن جهة تكررت فكرة "اختبار النفس البشرية في ظروف قصوى" في أعمال سابقة (من 'لوست' إلى 'ذا بلاتفورم' الإسباني أيضاً)، ومن جهة أخرى بدا غياب الخارج مشكلة أساسية، إذ لم نرَ ملامح العالم المهدد ولا مآسي الفقراء الذين يفترض أنهم يتركون خلف الجدران، وربما كان هذا خياراً فنياً مقصوداً، لكنه حرم المسلسل فرصة توسيع دائرة النقد الطبقي والاجتماعي.
ولا بد من الذكر هنا أن العمل يعد أول تجربة إنتاج تعتمد على تقنيات الإنتاج الافتراضي المتقدمة في إسبانيا، وهو ما جعله علامة فارقة في تاريخ الأعمال الإسبانية على مستوى الصورة والتقنيات السردية، بحسب ما صرح به دييغو أفالوس، نائب رئيس المحتوى في "نتفليكس" (إسبانيا والبرتغال).
وبرزت بوضوح أهمية استعمال الذكاء الاصطناعي في خدمة الخدعة التي يقوم بها آمرو السجن للاحتيال على الأثرياء.
بين "لا كاسا دي بابيل" و"ملجأ الأثرياء"
المقارنة حتمية هنا بحكم أن المبدع نفسه، أليكس بينا، يقف خلف العملين، فهناك في "بيت المال" كان التمرد موجهاً ضد النظام المالي والسياسي من الخارج، في حبكة مليئة بالمطاردات والخطط الذكية، أما في العمل الجديد فالصراع داخلي وعزلة خانقة، حيث الأثرياء لا يواجهون الدولة بل أنفسهم.
وإذا كان "البروفيسور" قد مثّل أيقونة للتمرد الخارجي على السلطة فإن شخصيات "ملجأ الأثرياء" يمثل هشاشة الداخل حين يتعرى من أوهام المال والنجاة.
ولا يمكن فصل المسلسل عن السياق العالمي، فمن الخوف من حرب نووية محتملة، إلى الكوارث المناخية والأزمات الاقتصادية، وصولاً إلى تجربة الجائحة التي جعلت البشر يعيشون عزلة قسرية في منازلهم، صار هاجس الملاجئ حقيقة يومية، وفي كل هذه الأزمات يطفو على السطح سؤال مؤرق: من يستحق النجاة؟ وفي عالم ينهار، هل يُترك القرار لسلطة المال وحدها؟ هل تصبح الحياة امتيازاً طبقياً؟
يضعنا "ملجأ الأثرياء" أمام مرآة قاسية، ففيما ينشغل بعضهم بتكديس الثروات وتأمين ملاجئ محصنة، يعيش ملايين البشر على الهامش بلا حماية ولا أفق، وهكذا يتحول المسلسل إلى نقد اجتماعي مبطن يكشف عن حقد صامت ينمو في نفوس الفقراء تجاه الأثرياء، وعن صراع طبقي مؤجل لكنه قابل للانفجار عند أول شرارة.
قد لا يكون "ملجأ الأثرياء" عملاً متكاملاً من الناحية الدرامية، لكنه بلا شك أكثر من مجرد مسلسل تشويقي، إنه تشريح رمزي لزمننا حيث يتحول الخوف من الكوارث إلى وقود لمزيد من الانقسام الطبقي، وحيث يتوهم الأغنياء أنهم قادرون على شراء الخلود، بينما يسقطون في فخ عزلة أشد فتكاً من أي كارثة خارجية.
إنه عمل يذكرنا بأن النجاة ليست مجرد ملاذ محصن أو ثروة طائلة، بل قدرة على العيش المشترك، وما لم تدرك الإنسانية هذه الحقيقة فإن كل الملاجئ ستظل مجرد أضرحة فاخرة تحرس موتاً مؤجلاً.