ملخص
يتبنى "الأرنب الأسود" هيكل السرد المعتمد على الـ "فلاش باك"، إذ يبدأ من لحظة الأزمة ليعيد بناء الأحداث وصولاً إليها، وهذه التقنية، على رغم فعاليتها في شد المشاهد، سرعان ما تتحول إلى عبء حين يدرك المتلقي أن الأحداث لا تتطور بما يكفي لتبرير هذا البناء.
منذ انتهاء الموسم الرابع من مسلسل Ozark عام 2022، تعيش "نتفليكس" هاجس البحث عن خليفة يملأ فراغ دراما الجريمة العائلية التي تمزج بين الصراع الأخلاقي والتوتر الدائم.
ونال العمل الذي لعب دور البطولة فيه كل من جيسون بيتمان ولورا ليني شهرة واسعة بفضل أجوائه المظلمة وإيقاعه المشوق وأداء الممثلين، ودارت أحداثه حول مارتي بيرد (جيسون بيتمان)، وهو مستشار مالي في شيكاغو، يجد نفسه متورطاً في مخطط لغسل الأموال لمصلحة كارتل مكسيكي للمخدرات.
وبعد أن تنهار خطته الأولى ويصبح مهدداً بالقتل من زعيم الكارتل، يعرض مارتي فكرة جريئة وهي الانتقال مع عائلته إلى منطقة بحيرات الأوزارك في ولاية ميزوري، حيث يستطيع غسل ملايين الدولارات عبر مشاريع محلية، لكن انتقال العائلة لا يوقف المتاعب بل يفتح الباب أمام سلسلة من الصراعات.
تراهن منصة البث التدفقي على عملها الجديد "الأرنب الأسود" (Black Rabbit) المؤلف من ثماني حلقات لاستعادة نجاحات سابقة، ويجمع نجمين بارزين هما جيسون بيتمان وجود لو، في تعاون يثير التوقعات بقدر ما يثير المقارنات.
يبدأ المسلسل بقوة شكلية، مشهد افتتاحي صاخب لاقتحام مسلح داخل مطعم نيويوركي فاخر يحمل اسم "الأرنب الأسود"، قبل أن يعيدنا خط السرد شهراً للوراء ليتتبع خيوط الحكاية، وهنا نجد جيك فريدكين (جود لو)، رجل الأعمال الذي شيد مطعماً راقياً أصبح قبلة للطبقة البوهيمية في المدينة، يقابله شقيقه فينس (جيسون بيتمان)، المدمن السابق والمقامر الغارق في الديون.
عودة فينس لحياة جيك بعد غياب طويل تطلق سلسلة من التوترات التي ستكشف هشاشة النجاح الظاهري وتهدد بانهيار كل ما بني.
صراع الولاء والخذلان
يقوم جوهر العمل على العلاقة بين الأخوين، جيك الذي يبدو في البداية صورة لرجل ناجح وصاحب رؤية، سرعان ما ينكشف كإنسان هش، تتنازعه الرغبة في حماية أخيه وبين إدراكه أن هذا الأخ يمثل تهديداً وجودياً لكل ما بناه، وفينس، على الجانب الآخر، يجسد شخصية "الابن الضال" الذي يجر خلفه تاريخاً من الفشل والخيبات، ويستغل حب أخيه وضعفه مراراً وتكراراً، وهنا يكمن عنصر الإغراء الأساس في المسلسل، مواجهة بين عقلانية مضطربة وغريزة فوضوية، بين من يريد الحفاظ على الاستقرار ومن يسعى، بوعي أو دون وعي، إلى تدميره، فبيتمان يتقن لعب هذا الدور بخطوط أداء مترددة بين الهشاشة والسخرية، بينما يمنح جود لو الشخصية حضوراً قوياً يجمع بين الأناقة والتوتر الداخلي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن وعلى رغم قوة الكيمياء بين الممثلين فإن الكتابة لم تمنحهما العمق الكافي (من كتابة زاك بايلين المرشح لجائزة الـ 'أوسكار' عن سيناريو 'الملك ريتشارد' وكيت سوسمان)، وشخصياتهما تظل، في كثير من الأحيان، سجينة القوالب الجاهزة، الأخ العقلاني في مقابل الأخ الفوضوي، فلا يغامر المسلسل بتفكيك هذه الثنائية أو مساءلة جذورها، مكتفياً بإعادة تدويرها عبر سلسلة من المواجهات المتكررة.
تشويق يفتقر إلى الأصالة
يتبنى "الأرنب الأسود" هيكل السرد المعتمد على الـ "فلاش باك"، حيث يبدأ من لحظة الأزمة ليعيد بناء الأحداث وصولاً إليها، وهذه التقنية، على رغم فعاليتها في شد المشاهد، سرعان ما تتحول إلى عبء حين يدرك المتلقي أن الأحداث لا تتطور بما يكفي لتبرير هذا البناء.
والحبكة تغرف بكثرة من أعمال سابقة، مطعم فاخر يخفي أسراراً، ديون قمار تتحول إلى تهديدات جسدية، صفقات غامضة مع شخصيات مشبوهة، والمشاهد المتتالية تعيد للأذهان Ozark وBreaking Bad وحتى The Bear من حيث توتر المطبخ والعالم المحيط به.
إلا أن "الأرنب الأسود" يفتقر إلى تلك اللمسة الخاصة التي تجعل من التكرار إعادة ابتكار، لا مجرد اجترار، والأحداث بدل أن تنسج شبكة محكمة من الصراعات، تتعثر في منطقها الداخلي. قرارات الشخصيات كثيراً ما تأتي اعتباطية، كما لو أن الكتابة تفرضها لجر القصة إلى نقطة معينة، والنتيجة مسار درامي متوقع يفتقد عنصر المفاجأة الذي يفترض أن يكون قلب هذا النوع من الدراما.
إمكانات ضائعة
تكمن إحدى مشكلات المسلسل الكبرى في الشخصيات المحيطة بالبطلين، فلدينا الطاهية الطموحة روكسي التي يمكن أن تكون مدخلًا لطرح صراع حول الطبقات والسلطة في المطبخ، لكنها تبقى مجرد ملاحظة هامشية، وهناك أيضاً آنا النادلة التي تحمل بذور قصة إنسانية عن الهشاشة والأمل، لكنها تختفي في زحمة الأحداث، وحتى الشخصيات المهدّدة، الدائنون، رجال العصابات، الوسطاء، تظل بلا ملامح مميزة وكأنها أشباح تملأ الفراغ الدرامي من دون أن تترك أثراً حقيقياً.
وغياب الاستثمار في هذه الشخصيات يحرم العمل من العمق اللازم، ففي دراما الجريمة العائلية لا تكتمل الصورة إلا حين تتشابك حكايات الأبطال مع عالم واسع من المصائر المتقاطعة، وهنا يظل التركيز على الأخوين فقط، مما يجعل الدراما أحادية البعد، مهما حاولت أن توحي بالعكس.
قتامة بلا ضرورة
اختار صناع العمل توظيف تقنية Dolby Vision بلمسة قاتمة جداً، كما لو أرادوا أن يكسوا العالم بمسحة من الظلام الرمزي، لكن هذه المعالجة البصرية سرعان ما تتحول إلى نقطة ضعف، والمشاهد عوض أن تغرقه في أجواء التوتر، تصيبه بالتشويش والرتابة.
الألوان الباهتة والظلال الثقيلة تعكس جواً كئيباً، لكنها لا تضيف جماليات فنية تعزز من تجربة المشاهدة.
هذا التوظيف المفرط للقتامة يعكس مشكلة أعمق: رغبة المسلسل في استنساخ مزاج Ozark، إذ لعبت الألوان الباردة دوراً درامياً متقناً، لكن "الأرنب الأسود" يفشل في إعطاء هذه القتامة معنى جديداً، فتبدو مجرد محاولة تقليد سطحية.
البعد الرمزي
العنوان ذاته، "الأرنب الأسود"، يفتح باباً للتأويل، فهل هو رمز للقدر المظلم الذي يطارد العائلة؟ أم استعارة عن الفوضى التي تتسلل إلى النظام الراسخ؟ وللأسف لا يقدم المسلسل إجابة مقنعة، والرمز يظل قائماً على السطح، لا يستثمر درامياً ولا يتطور إلى فكرة متماسكة، وبذلك يخسر العمل فرصة لخلق عمق فلسفي يميزه عن غيره.
لا يمكن إنكار أن "الأرنب الأسود" يحمل طموحاً واضحاً لتقديم درس عن الأخوة، الولاء، والخذلان، وعن كيف يمكن للحب العائلي أن يتحول إلى قيد خانق، لكن الطموح يصطدم بكتابة غير متماسكة، وإيقاع يراوح بين التسرع والبطء، وشخصيات غير مكتملة.
قد يجذب المسلسل المشاهدين الباحثين عن دراما مشوقة يسهل متابعتها، بخاصة مع أداء بيتمان ولو الذي يرفع منسوب الجودة، لكنه يفتقر إلى العمق الفني والفكري الذي يجعل منه تجربة باقية في الذاكرة، وفي النهاية يبقى العمل عالقاً في منطقة وسطى، فليس رديئاً إلى درجة النفور وليس مميزاً إلى درجة الاحتفاء.
مع "الأرنب الأسود" تؤكد "نتفليكس" مرة أخرى معضلتها الأبرز وهي الرغبة في تكرار النجاحات السابقة بدل المغامرة بتجارب جديدة، والجمع بين نجمين مثل بيتمان ولو، وإن كان لافتاً، لا يكفي لإنقاذ عمل يفتقر إلى الأصالة.
ربما يرضي المسلسل جمهور Ozark المشتاق إلى جرعة إضافية من دراما الجريمة العائلية، لكنه لن يكتب له أن يكون علامة فارقة في سجل "نتفليكس"، إذ إنه أشبه بظل لعمل عظيم لا أكثر.