Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المحور الإيراني بعد الاستنزاف: علاقة جديدة مع الوكلاء

طهران في مرحلة إعادة تشكل التوازن مع أنصارها في المنطقة بعد تدمير "حزب الله" وتراجع الحوثيين وموقف "حماس" الدفاعي

أدى الإفراط في الاستثمار بالوكلاء إلى إنهاك البنية الإيرانية بدلاً من منحها التفوق الاستراتيجي الذي حلمت به (أ ف ب)

ملخص

أخفقت إيران في إدراك أن بناء شبكة من الحلفاء المتنوعين لا يعني بالضرورة امتلاك جبهة منسجمة، بل على العكس، أفضت هذه الشبكة إلى تشظي الولاءات وتفكك الهدف المركزي، حتى بدا "المحور" كتكتل فضفاض يستهلك موارد طهران أكثر مما يخدمها.

 لم يكن "المحور الإيراني" في جوهره تحالفاً رسمياً بقدر ما هو شبكة متشعبة من القوى المسلحة والسياسية التي التقت مصالحها مع المشروع الإيراني وتوافقت مع أهداف السياسة الخارجية لطهران، وساعدت أحياناً في إبراز القوة والنفوذ الإيرانيين في أنحاء المنطقة، لكنها أعطت الأولوية أيضاً لطموحاتها الخاصة في السلطة المحلية، مستفيدةً من دعم إيران المالي واللوجستي.

نشأ هذا التشكيل في البداية حول علاقة وثيقة بين طهران و"حزب الله" في ثمانينيات القرن الماضي، ثم تمدد تدرجاً عبر إعادة إنتاج النموذج ذاته في ساحات مختلفة كالعراق واليمن وغزة وسوريا، والمصطلح الذي صيغ كما يُعرف حالياً عام 2003، رداً على تصنيف الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش عام 2001 إيران والعراق وكوريا الشمالية كـ"محور الشر"، تطور بمرور الوقت، من تحالف فضفاض من كيانات فاعلة معارضة للنظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة إلى شبكة من الجماعات المتحالفة مع إيران.

 أرادت إيران من خلال هذا المحور أن تؤسس أداة ردع إستراتيجية ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، وفي الوقت نفسه أن تُبرز قدرتها على التأثير في موازين الإقليم، غير أن السياسات التي سلكها المحور، والتي جمعت بين التزامات أيديولوجية صارمة وطموحات محلية متباينة، سرعان ما أفرزت نتائج عكسية، إذ أدى التوسع المفرط إلى تناقض الأولويات بين الفاعلين المحليين والتوجهات الإيرانية، فضعف التنسيق وتصدعت الجبهة المشتركة، كذلك فإن الاعتماد على أنظمة هشة أو بيئات متقلبة، مثل النظام السوري، جعل المحور عرضة لهزات مدمرة حينما انهارت بعض ركائزه، وقد كشفت المواجهات التي تلت هجمات "حماس" في أكتوبر (تشرين الأول) 2023 عن حجم الاستنزاف الذي تكبّدته هذه الشبكة، خسائر بشرية وبنيوية، وتصدع في خطوط الإمداد، وتراجع في قدرة الوكلاء على إدارة التوازنات المحلية، وعلى رغم ما يتمتع به المحور من خبرة في التكيف عبر اقتصاد غير رسمي وشبكات عابرة للحدود، فإن مرونته لم تعد بالفاعلية نفسها التي مكنته في الماضي من تجاوز الأزمات الكبرى، مما جعله يدخل عام 2025 مثقلاً بانكشاف إستراتيجي لم يعرفه منذ نشأته.

بدايات التكوين

 كانت بدايات "المحور" منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، عندما اتخذت طهران قراراً إستراتيجياً بتوسيع نفوذها عبر وكلاء محليين بدلاً من المواجهة المباشرة، وكانت تجربة "حزب الله" في لبنان النموذج الأول الذي صاغه الحرس الثوري، إذ جرى تأسيسه في سياق الحرب الأهلية اللبنانية والصراع مع إسرائيل، ليصبح لاحقاً القوة الأبرز في هذا الكيان الشبكي، ومع مرور الوقت، استُنسخ هذا النموذج في بيئات أخرى عانت فراغ السلطة أو هشاشة الدولة، فامتدت أذرع المحور إلى العراق، مستفيدة من تداعيات الغزو الأميركي عام 2003، ثم إلى اليمن عبر "الحوثيين"، وإلى غزة عبر علاقة ملتبسة مع تنظيمي "حماس" و"الجهاد الإسلامي".

 ووفق الزميل الزائر في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، حميد رضا عزيزي، فقد بُني المحور على ثلاث ركائز أساسية، الأولى كانت الاتصال الجغرافي الذي يربط حلقاته عبر ممرات برية وبحرية، والثانية وحدة التنسيق القائمة على مبدأ أن أي تهديد لجزء من المحور يُعد تهديداً للكل، والثالثة الأساس الأيديولوجي القائم على فكرة "المقاومة" ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، لكن هذه الأعمدة تعرضت لاختلالات عميقة مع سقوط النظام السوري في أواخر 2024، إذ فقد المحور حلقة إستراتيجية مركزية ضمنت له لعقود عمقاً جغرافياً وخطوط إمداد حيوية، كذلك، أدت الطموحات المتباينة بين وكلاء طهران إلى تصادم متكرر بين المصالح المحلية والمشروع الإيراني، مما قلص من صلابة التنسيق الذي دائماً ما عُد عنصر قوة.

ومع انخراط هذه الجماعات في مواجهات شاملة منذ 2023، برزت هشاشة بنيتها أمام الضربات المركزة، فاضطرت إيران إلى إعادة صياغة أولوياتها والتركيز على العراق واليمن كخط دفاع أول، في محاولة لتعويض خسارة الساحات الأخرى والحفاظ على ما تبقى من نفوذها في الإقليم.

 

 

وهناك من ينتقد واشنطن بأنها تسامحت مع هذا السلوك فترة طويلة، فبين الحين والآخر ظهرت ضربات استعراضية ضد قادة إيرانيين، كمقتل قاسم سليماني في 2020، لتمنح انطباعاً بنبرة حازمة، إلا أن هذه الإجراءات بقيت تكتيكية وغير مدعومة بإستراتيجية ثابتة تهدف إلى تقويض منظومة الوكلاء، ففي رأيهم أن إضعاف شبكة إيران يتطلب أكثر من ردة فعل، بل يتطلب مقاربة شاملة بأدوات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية وإستراتيجية طويلة الأمد، ويستلزم ضرب مصدر النفوذ نفسه، النظام في طهران.

تراجع الدور

تراجع "المحور الإيراني" لم يكن وليد أحداث طارئة، بل نتاج تراكمات إستراتيجية وسياسات استنزاف ذاتي جعلت منه عبئاً على رعاته وحلفائه على السواء، فبعد عقدين من ضخ إيران مليارات الدولارات في تمويل وتسليح حركاته الممتدة من غزة إلى بغداد وصنعاء، تكشف عن أن المشروع، الذي بُني على فكرة "وحدة الجبهات"، بات عاجزاً عن توفير الردع الحقيقي ضد إسرائيل أو الولايات المتحدة، فقد أضعفت الضربات الجوية الأميركية والإسرائيلية معظم بنى المحور العسكرية، فيما عرّى سقوط نظام بشار الأسد هشاشة الركيزة التي اعتمدت عليها طهران، هذا الانكشاف الإستراتيجي ترافق مع عجز "حزب الله" عن المبادرة في لحظة مفصلية لإيران، وصعوبة إعادة إمداده بعد انهيار الممر السوري، أما "حماس"، فعلى رغم محاولتها التشبث بخطاب "المقاومة"، فقد استُنزفت في غزة حتى أصبحت أكثر اعتماداً على توازنات داخلية، لا على الدعم الإيراني المباشر.

اللافت أن الحوثيين ظلوا فترة أكثر نشاطاً ومرونة بين أطراف المحور، بفضل واقعهم المحلي، مما منحهم قدرة على الاستمرار في استهداف الملاحة الدولية وإرباك التوازنات الإقليمية، لكن حتى نجاحاتهم النسبية لم تغيّر حقيقة أن تحركاتهم تجري وفق مصالحهم الخاصة، لا ضمن إستراتيجية إيرانية شاملة، الأمر ذاته ينطبق على الميليشيات العراقية، التي وازنت بين ولائها التاريخي لطهران وضغط بغداد والتهديد الأميركي، لتجد نفسها محاصرة بين رغبتها في إثبات الفاعلية وخوفها من فقدان شرعيتها المحلية، هذه الانقسامات جعلت كل فصيل يتصرف باعتبارات محلية قبل أي التزام بـ"العقيدة الإيرانية".

في الجوهر، أخفقت إيران في إدراك أن بناء شبكة من الحلفاء المتنوعين لا يعني بالضرورة امتلاك جبهة منسجمة، بل على العكس، أفضت هذه الشبكة إلى تشظي الولاءات وتفكك الهدف المركزي، حتى بدا "المحور" كتكتل فضفاض يستهلك موارد طهران أكثر مما يخدمها، ومع تزايد الأصوات داخل إيران المطالبة بإعادة النظر في إستراتيجية الإنفاق الخارجي والتركيز على معالجة الأزمات الداخلية والعودة للمسار الدبلوماسي النووي، يظهر أن المحور تحول من أداة قوة إلى عبء ثقيل ينهك صاحبه قبل خصومه، هذا التراجع البنيوي لا يلغي حضور المحور الاجتماعي والسياسي في بيئاته، لكنه يضع إيران أمام معادلة معقدة، إما إعادة هيكلته بما يواكب الواقع الجديد، أو القبول بانكماشه إلى ظاهرة هامشية لا تحمل إلا عبء الاستنزاف.

تآكل تدرجي

ترى الباحثة في مركز "ستيمسون" اربرا سلافين، أن "المحور الإيراني" شهد تآكلاً تدرجاً في الأعوام الأخيرة، بعدما كان يُنظر إليه كأداة إستراتيجية إيرانية لمد النفوذ عبر الشرق الأوسط من خلال تسليح الميليشيات وبناء شبكات عابرة للحدود، فالغزو الأميركي للعراق عام 2003 أتاح لطهران بيئة خصبة لتمددها، ووفر لحلفائها متنفساً واسعاً في بغداد ودمشق وغزة وبيروت وصنعاء، غير أن هجوم "حماس" على إسرائيل في أكتوبر مثّل نقطة انعطاف فارقة، إذ سرّع من دخول المحور في مرحلة الاستنزاف، فإسرائيل، بدعم أميركي غير مسبوق، حطمت غزة عسكرياً، وأضعفت "حزب الله" إلى حدود العجز، فيما أُنهك النظام السوري، الحليف الأكثر ثباتاً لإيران، تحت ضربات متزامنة من الداخل والخارج، هذه الضربات كشفت هشاشة البنية التي اعتمدتها إيران، وحوّلت المحور من ورقة ضغط إستراتيجية إلى عبء يثقل كاهل طهران سياسياً واقتصادياً.

 

 

وأوردت سلافين "على رغم أن طهران لا تزال تحتفظ بروابط مع الحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن، فإن تلك الصلات لم تعد تضيف ثقلاً بقدر ما تستنزفها في نزاعات متقطعة، تزيد كلفة بقائها في المشهد أكثر مما تعزز نفوذها، الحوثيون أنفسهم، الذين كثيراً ما رُوج لهم كقوة صاعدة، تحولوا إلى مصدر إنهاك إيراني بعدما فقدوا كثيراً من زخمهم الشعبي جراء تدهور الوضع المعيشي في اليمن وتعرضهم لضربات أميركية موجعة، أما 'حزب الله'، الذي نشأ في ثمانينيات القرن الماضي كأحد أبرز إنجازات إيران الإستراتيجية، فقد وجد نفسه اليوم محاصراً بين خسائر بشرية فادحة وضغوط لبنانية داخلية متزايدة، بينما لم تعد قدرته على المناورة الإقليمية كالسابق، وبالمثل، تراجعت 'حماس' إلى موقع دفاعي بائس، بعدما تحولت من أداة ضغط على إسرائيل إلى عبء عسكري وسياسي على طهران".

وأكدت سلافين أن "التصدعات الداخلية في المحور تعكس جوهر مأزق إيران، فهي لم تعد قادرة على موازنة التزاماتها الإقليمية مع ضغوطها الاقتصادية الداخلية، في ظل العقوبات والعزلة المتنامية، لقد أدى الإفراط في الاستثمار بالوكلاء إلى إنهاك البنية الإيرانية بدل أن يمنحها التفوق الإستراتيجي الذي حلمت به، بل إن الممارسات الإسرائيلية القاسية ضد الفلسطينيين، وعلى رغم أنها تبقي التعاطف الشعبي قائماً، فلم تعد قادرة على إنقاذ المحور من التآكل البنيوي، وهكذا، فإن المحور الإيراني الذي ولد كوسيلة لإعادة تشكيل موازين القوى، تحول اليوم إلى هيكل مترهل، يلتهم رصيده الإستراتيجي ويضاعف كلف إيران بدل أن يعزز مكانتها".

تعقيدات عميقة

قال الباحث في المعهد الهولندي للعلاقات الدولية (كلينغندايل) ريناد منصور "إن صمت حلفاء إيران في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على أراضيها في يونيو (حزيران) الماضي، لم يكن مجرد ارتباك ظرفي أو عجز تكتيكي، بل كان انعكاساً لتعقيدات أعمق داخل كل طرف من أطراف ما يُسمى بالمحور الإيراني، فالحزب المُثقل بخسائر بشرية غير مسبوقة منذ حرب 2006 وباقتصاد لبناني منهار، لم يعد قادراً على تحمل مغامرة عسكرية واسعة النطاق، لا سيما في ظل تنامي خطاب داخلي يدعو إلى ترسيخ هوية لبنانية مستقلة عن وصاية طهران، أما الجماعات العراقية، التي اندمجت في هياكل الدولة وشبكاتها الاقتصادية، فقد فضلت حماية مكاسبها السياسية والمالية على الدخول في مواجهة مفتوحة قد تطيح بما حققته خلال الأعوام الماضية، وفي اليمن، برز الحوثيون كحالة وسطية، إذ وجهوا ضربات صاروخية رمزية إلى إسرائيل، لكنها كانت أشبه برسائل سياسية محسوبة أكثر من كونها اندفاعة حرب".

 وأضاف باحث المعهد الهولندي "يبرز في هذا السياق أن المحور لم يفقد قدرته بالكامل، لكنه أصبح مُقيداً بمعادلات داخلية تجعل قراراته مشروطة بالبيئة المحلية وبمدى استيعاب طهران حجم الأخطار، لقد اتخذت إيران خياراً إستراتيجياً حاسماً، وإدارة الصراع بنفسها، من دون جر جميع أطرافها إلى مواجهة شاملة، أرادت بذلك إظهار قدرتها على الرد المباشر من دون استدعاء تصعيد متعدد الجبهات يفتح الباب واسعاً أمام تدخل أميركي مدمر، بهذا المعنى، لم يكن ضبط النفس تراجعاً، بل كان وسيلة لبعث رسائل ردعية بقدر ما هو سياسة لتجنب الانزلاق إلى حرب شاملة لا يمكن السيطرة عليها".

تحول بنيوي

 وفي السياق ذاته، ذكر حميد رضا عزيزي أن "قراءة ما جرى تكشف عن تحول بنيوي في طبيعة المحور نفسه، فمنذ اغتيالات القادة العسكريين الإيرانيين البارزين وقادة الفصائل المتحالفة، أصيب ما يُسمى بـ (غرفة العمليات المشتركة) بشلل نسبي، وفقدت طهران قدرة التنسيق المركزي الكامل، ومع ذلك، لم يكن هذا دليلاً على انهيار المنظومة، بل على انتقالها إلى شكل أكثر لا مركزية، إذ تتحدد الاستجابات وفق حسابات محلية متباينة، وتحتفظ إيران بدور (الموازن) بين هذه المصالح، بهذا المعنى، فإن هدوء بيروت وبغداد وصنعاء لم يكن فراغاً استراتيجياً، بل تعبيراً عن توافق غير معلن على أن التوسع في التصعيد لا يخدم مصلحة أحد، حتى طهران نفسها".

 

 

 وتابع عزيزي "لقد كان صمت المحور في جوهره قراراً، لا إخفاقاً، غير أن هذا القرار ينطوي على مفارقة، فهو يُظهر قدرة إيران على التحكم في إيقاع التصعيد، لكنه يكشف أيضاً حدود نفوذها على شركاء باتوا أكثر استقلالية من ذي قبل، ومع استمرار التآكل الاقتصادي، والانقسامات الداخلية، وضغوط البيئة الإقليمية المتقلبة، ستظل قدرة إيران على ضمان التماسك موضع اختبار، وإذا كانت أحداث يونيو قد بينت أن ضبط النفس يمكن أن يُوظف كأداة ردعية، فإنها أظهرت أيضاً أن هذا الردع نفسه قد يصبح هشّاً حين تتباين المصالح الوطنية لجماعات المحور، ويغدو الانخراط مشروطاً لا تلقائياً، بذلك، فإن ما بدا استقراراً لحظة الأزمة قد يتحول مستقبلاً إلى مصدر هشاشة بنيوية قد تعيد تشكيل موازين القوة في الشرق الأوسط بأسره".

حالة إنكار

يعيش النظام الإيراني حالة إنكار واضحة تجاه ما يشهده "المحور الإيراني" من تراجع وتآكل في النفوذ الإقليمي، على رغم الدلائل الميدانية الواضحة على ضعف حلفائه، فقد كرر المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي خلال الأسبوع الأخير من ديسمبر (كانون الأول) 2024 أن أي حديث عن انهيار المحور "جاهل وخاطئ"، مؤكداً أن "المقاومة ليست مجرد قدرات عسكرية يمكن تدميرها، بل هي التزام إيماني وعقيدة تتعاظم تحت الضغوط". وأضاف خامنئي أن "نطاق المقاومة سيشمل المنطقة بأكملها"، وأن هدف طرد الولايات المتحدة من العراق والمنطقة يبقى محورياً، كجزء من مسعى للانتقام لمقتل سليماني، الذي اعتبره المسمار الرئيسي للمحور.

في هذا الإطار، أصدرت وزارة الخارجية الإيرانية بياناً في الـ27 من سبتمبر (أيلول) 2024 بمناسبة مقتل الأمين العام لـ"حزب الله" اللبناني، حسن نصرالله، مؤكدة فيه استمرار التزام إيران بدعم لبنان ومحورها، واعتبرت مقتل نصرالله "جريمة إرهابية" تمثل تهديداً لأمن واستقرار المنطقة، مستشهدة بدور الحزب التاريخي في حماية الشعب اللبناني ودعم القضية الفلسطينية.

وفي السياق ذاته، شدد أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني في تصريحاته إبان زيارته الأخيرة لبيروت على أن "حزب الله" تيار أصيل في العالم الإسلامي، وأن قيادته، "منذ حسن نصرالله وحتى انتقالها إلى خلفه نعيم قاسم، قادرة على الحفاظ على أمن لبنان من دون تدخل خارجي، وأن أي حوار بين الحزب والسعودية يمثل قمة العقلانية وليس علامة ضعف"، مؤكداً استعداد إيران لمواجهة أي تهديد محتمل.

منهج المحور الإيراني

أما الحرس الثوري الإيراني، فقد أصدر بياناً استراتيجياً في مناسبات ذكرى قادة محوره، أبرز فيه "أن دماءهم هي الضامن الحقيقي للأمن وعزة الأمة الإسلامية، وأن المقاومة هي الخيار العقلاني الوحيد لمواجهة الاستكبار والصهيونية". وأكد البيان أن "الثقافة والمبدأ المقاوم عصيان على الانكسار، وأن القيادة الراسخة للشيخ نعيم قاسم، إلى جانب إرث قادة المحور مثل نصرالله وهاشم صفي الدين، يمثل استمرارية المنهج على رغم الضغوط والصدمات". كذلك شدد البيان على "فشل المشاريع الأميركية والصهيونية في القضاء على المقاومة"، مؤكداً أن "إيران ستواصل دعم المحور الإيراني كأولوية استراتيجية، حتى تحرير القدس".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 يشي تصريح رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف في برنامج "قصة الحرب" بنمط إنكار واضح، وهو رفض تحميل حلفاء طهران أية مسؤولية عن مفاجآت السابع من أكتوبر وتحويل الحدث إلى إنجاز مُدار "بتصميم مغلق"، وأيضاً قُدم تفسيراً لزيارة القيادات إلى لبنان كدليل على حضور وقوة، لا اعترافاً بضعف.

 هذه الخطابية تصوغ الوقائع لتبدو كامنة وراء مؤامرات وعمليات خارجية، وتعمل على طمس أي إشارة إلى إخفاقات استخبارية أو تآكل نفوذ المحور، كذلك تعكس المواقف الرسمية إرادة النظام في الحفاظ على صورته التاريخية كقائد للمحور، لكنها في الوقت نفسه تكشف عن فجوة بين الواقع الميداني الضعيف للمحور وحقيقة ما يعلن رسمياً، ما يعكس حالة إنكار منهجي تتعامل مع الخسائر والتراجعات على أنها انتصارات معنوية وإيمانية، لتغطية هشاشة المحور الاستراتيجية داخلياً وإقليمياً.

إعادة التوجيه

 أوردت صحيفة "جيروزاليم بوست" في أغسطس (آب) الماضي أن خامنئي قام بتعيين علي لاريجاني ممثلاً له في المجلس الأعلى للأمن القومي، خلفاً لعلي أكبر أحمديان، القيادي المخضرم في الحرس الثوري، بعد الأداء الضعيف والهزائم التي تكبدتها القوات الإيرانية أثناء العمليات العسكرية الأخيرة، وقد جاء هذا التغيير في سياق الحاجة الملحة لإعادة استقرار منظومة الأمن والدفاع، بعد فقدان عدد كبير من القيادات العسكرية البارزة، بما يعكس هشاشة هياكل السلطة الإيرانية وأهمية إعادة عناصر مألوفة وموثوقة إلى مواقع النفوذ.

وترى الصحيفة أن "التعيين يشير أيضاً إلى طبيعة استراتيجية خامنئي التي تجمع بين الحفاظ على الولاء الشخصي وإعادة تشكيل السلطة الداخلية، إذ احتفظ بلاريجاني، على رغم إقصائه من الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ضمن دائرته المقربة، هذا التحرك يعكس شعور المرشد المتزايد بالضعف بعد الخسائر الميدانية الأخيرة، ورغبته في استعادة التوازن بين الأجهزة الأمنية والسياسية، وإعادة توجيه المحور الإيراني عبر قنوات موثوقة، خصوصاً في العراق ولبنان، حيث تُعد هذه الساحات حيوية لاستمرار النفوذ الإيراني الإقليمي".

وأوردت "مع ذلك، فإن هذه التحولات تولد أزمات داخلية محتملة، إذ قد تثير ترقية لاريجاني استياء مجتبى خامنئي، نجل المرشد، الذي يعتزم خلافة والده، ما يفتح الباب أمام تصعيد منافسات الخلافة داخل النظام الإيراني، فعودة لاريجاني تعيد للعائلة نفوذاً في مؤسستين من أهم سبع مؤسسات سياسية، بما في ذلك المجلس الأعلى للأمن القومي، ما قد يشعل من جديد صراعات على القيادة كان يُعتقد أنها محسومة بعد وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي المفاجئة".

 

 

وقالت الصحيفة "من المستفيدين الآخرين من هذه التغييرات، رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف، الذي قد يحصل على قناة جديدة لممارسة نفوذ في السياسات الأمنية والعسكرية من خلال مجلس الدفاع الجديد، على حساب بزشكيان ولاريجاني، ويبدو أن مرحلة ما بعد الحرب أعادت توجيه اهتمام اللاعبين السياسيين من مجرد مسألة الخلافة إلى مسألة البقاء في نظام يواجه اختبارات وجودية، إذ يتابع الجميع، وفق المطلعين، من سيخلف خامنئي، ومن سيحل محل الجمهورية الإيرانية إذا تهاوت، في ظل بيئة سياسية متوترة ومفتوحة على تحولات مفاجئة، تشكل اختباراً حقيقياً لقدرة النظام على الصمود واستعادة نفوذه الإقليمي".

محاولة التكيف

 يرصد الكاتب حيدر الشاكري وآخرون في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ديناميات استجابة إيران ومحورها المتشعب للضغوط الإقليمية والدولية، مع التركيز على البنية التحتية الجيواقتصادية للشبكة كعنصر أساسي في قدرتها على التكيف. ويشير إلى أن قدرة المحور على الصمود لم تكن مجرد مسألة عسكرية أو أمنية، بل كانت متجذرة في شبكات اقتصادية واسعة ومعقدة تربط كل مجموعة بحلفائها وبهياكل الدولة الرسمية وغير الرسمية، بما في ذلك خزائن الحكومة والبنوك المملوكة للدولة وسلاسل التوريد المشروعة وغير المشروعة، من النفط إلى الأدوية والمواد الغذائية، كذلك يوضح أن هذا الترابط الاقتصادي كان بمثابة شريان حياة يمكن المحور من امتصاص الصدمات واحتواء الضغوط، وهو ما تأكد بعد حملة "الضغط الأقصى" الأميركية في 2018، حين اضطرت إيران إلى تعزيز الروابط غير الرسمية مع العراق وسوريا ولبنان لتصدير طاقتها واستعادة رأس المال.

 يُبرز الشاكري نقطة محورية تكشف حدود هذه الاستراتيجية، وهي انهيار نظام بشار الأسد في سوريا، فحتى مع دعم إيران الاقتصادي والسياسي والعسكري المستمر، لم يكن المحور قادراً على مواجهة تآكل الشرعية الداخلية للنظام السوري، الذي فقد الثقة الشعبية بعد عقود من القمع والحرب الأهلية.

كما يلفت إلى أن استراتيجيات الغرب، على رغم اعتمادها على العقوبات الاقتصادية والضربات العسكرية وبناء قوات موازية، لم تتمكن من تفكيك الشبكات الاقتصادية للمحور بالكامل بسبب طابعها المتعدد المستويات والعابر للحدود، ما يعكس "التقادم المتزايد لأدوات السياسة الغربية في مواجهة نظم غير تقليدية". إلا أن هذا التكيف، كما يرى الكاتب، أدى في النهاية إلى استنزاف المحور نفسه، إذ تحملت شبكاته عبء الضغوط المستمرة على مدار عقود، فيما بقيت القوى المحلية والمواطنون في دول المحور عرضة لآثار اقتصادية وسياسية مدمرة.

هكذا، يظهر أن قدرة إيران ومحورها على التكيف ليست مطلقة، وأن الفعالية المؤسسية للشبكة تظل رهينة الحفاظ على شرعية الحلفاء المحليين، وأن الضغوط المركبة، العسكرية والاقتصادية والسياسية، قادرة في نهاية المطاف على إذابة قوة المحور وتحويله من عامل صمود إلى عبء استراتيجي على نفسه.

سيناريوهات محتملة

تعكس الوقائع الراهنة سرداً معقداً، ما بين استنزاف عسكري مباشر، وضغوط عقابية واقتصادية، وتآكل شرعية محلية لدى الحلفاء، وتحولات إقليمية كبرى تُعيد رسم أولويات الدول. بناءً عليه، ثمة أربعة مسارات يمكن أن تتكشف، وكل منها يحمل انعكاسات سياسية واستراتيجية واجتماعية مغايرة، السيناريو الأول الاحتواء المدبر، بأن تتبنى طهران سياسة ضبط انفعالات محكمة، وتعمل على تقليص العمليات المكشوفة، وتحويل الموارد إلى شبكات لوجستية خفية، والتركيز على أدوات اقتصادية غير رسمية. ومع أن المحور يحتفظ بقدرة على الإزعاج والرد الرمزي من ضربات صاروخية محدودة، وهجمات بحرية متقطعة، لكنه يتخلى عن محاولة تحقيق ردع شامل. والنتيجة، هي استمرار وجود "محور" مرن لكنه هش، يظل أداة نفوذ مكلفة لإيران وأقل فعالية في مواجهة تهديدات استراتيجية.

 

 

والسيناريو الثاني، التفكك التدريجي، إذ تغلب المصالح المحلية، "حزب الله" يركز على إعادة بناء قاعدته السياسية داخل لبنان، والميليشيات العراقية تتقن الربح داخل مؤسسات الدولة، والحوثيون يتحولون إلى فاعل إقليمي مستقل يوازن بين مصالحه والمنطق الإيراني، أي أن المحور يتقلص جغرافياً ووظيفياً، ويصبح جزءاً من "أدوات محلية" أكثر من كونه جبهة إقليمية موحدة. ثمن هذا التفكك، هو فقدان إيران لورقة ضغط مركزية وتحول "المحور" إلى عبء مالي وسياسي.

 أما السيناريو الثالث فهو إعادة التكوين السري كاحتمال تكتيكي مختلف، فإيران، يمكنها أن تفكر في إعادة بناء سلاسل إمداد سرية بالتعاون مع فاعلين دوليين مثل وسائط تجارة أو حلفاء جدد عبر قنوات غير رسمية عبر روسيا ودول شرق آسيا، ويمكن أن يستمر التسليح وإنتاج الطائرات المسيرة والصواريخ عبر طرق التهريب والوسطاء، فيظل المحور يصغي ويضرب بفعالية مجزأة. هذه العودة "الظلية" تطيل عمر المحور كقوة قادرة على الاستنزاف المتبادل، لكنها تكلف طهران سياسات اقتراض دبلوماسي وتجاري محفوفة بالأخطار.

والسيناريو الرابع هو الانهيار السريع مع انعكاسات عنيفة، وهو الأسوأ لكنه ممكن، مما يخلق سلسلة أزمات داخلية متزامنة، وانهيار اقتصادي عميق في إيران، وانفجارات شعبية بالمناطق الحليفة، وضربات عسكرية مركزة تنهي قدرة إعادة الإمداد، وتؤدي إلى انهيار شبكات المحور بسرعة. النتيجة ليست فقط تفككاً للحلف، بل فراغ أمني يعيد إشعال صراعات أهلية في دول الحاضنة، ويحفز تدخلات إقليمية ودولية واسعة النطاق.

وعليه ما تبدو أداة نفوذ إقليمية تحولت إلى عبء لا يعود إلى فرط القوة فحسب، بل إلى بُنى الاعتماد المحلي المترهلة وحسابات بقاء الأطراف، أي مستقبل للمحور سيكلف الكثير، سياسياً وإنسانياً، ويتوقف على تفاعل ثلاثة عوامل، قدرة إيران على صون مواردها وسلاسلها، ومرونة الحلفاء المحليين، ودرجة تصاعد الضغوط العسكرية والدبلوماسية الدولية.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير