Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من بابل إلى وادي السيليكون: حكاية الرقم صفر

عرف منذ قديم الزمان لكن ليس كعدد بل كمفهوم إذ يعود أصله على الأرجح إلى "الهلال الخصيب" في بلاد ما بين النهرين القديمة

فهم اختراع الصفر أشبه باكتشاف مفتاح لكنز من الاحتمالات الرياضية، التي أحدثت ثورة في حل المشكلات، وذلك عبر تمكنها من إجراء حسابات أكثر دقة وعمليات معقدة (بيكسلز)

ملخص

شق الصفر طريقه من الهند إلى الصين ثم عاد إلى الشرق الأوسط، ففي القرن التاسع، أي خلال فترة الازدهار الفكري للعصر الذهبي الإسلامي، اندمج الصفر تماماً في الرياضيات، وقاد هذا التطور والتحول العالم محمد بن موسى الخوارزمي المعروف بـ"أبي الجبر"، وذلك انطلاقاً من بيت الحكمة في بغداد.

قد يبدو مفهوم "العدم" بسيطاً بديهياً، إلا أن تمثيله الرياضي، الصفر، يعد أحد أعمق الإنجازات الفكرية للبشرية، فهو أكثر بكثير من مجرد رمز أو مساحة فارغة، بل هو رقم قائم بذاته ونقطة انطلاق وحجر أساس في الرياضيات والعلوم والتكنولوجيا والتمويل الحديث، لذا تعد رحلته، من المفاهيم المجردة القديمة إلى الشيفرة الثنائية التي تغذي عالمنا الرقمي، شاهداً على التبادل الثقافي والتطور الفكري.

البدايات

عرف الصفر منذ قديم الزمان، لكن ليس كعدد بل كمفهوم، إذ يعود أصله على الأرجح إلى "الهلال الخصيب" في بلاد ما بين النهرين القديمة، فقد استخدم الكتبة السومريون المسافات للدلالة على الغيابات في أعمدة الأرقام منذ ما يقارب 4000 عام، إلا أن أول استخدام مسجل لرمز يشبه الصفر يعود إلى نحو القرن الثالث قبل الميلاد في بابل القديمة. فاستخدم البابليون نظاماً رقمياً يعتمد على قيم 60، وطوروا علامة محددة، إسفينان صغيران، للتمييز بين القيم، تماماً كما تستخدم الأنظمة العشرية الحديثة الأصفار للتمييز بين الأجزاء من العشرات والمئات وأجزاء من ألف. وظهر رمز مشابه بصورة مستقلة في الأميركتين نحو عام 350، عندما بدأ شعب المايا باستخدام علامة الصفر في تقويماته.
إلا أن ولادة الصفر بهيئته الحالية تعود إلى الهند التي وفرت البيئة المثالية لظهور الصفر المعروف باسم "شونيا" باللغة الهندية، والذي تبين أن له جذوراً راسخة في التقاليد الفلسفية والدينية الهندية القديمة. وتتمتع "شونيا" التي تترجم إلى الفراغ أو الخلاء بأهمية بالغة في البوذية، وهنا يذكر أن الفيلسوف الشهير ناغارجونا، الذي نشط نحو القرن الثاني الميلادي، أرسى مبادئ البوذية الماهايانا على مبدأ الفراغ مؤكداً ترابط الظواهر، وعليه فقد مهد هذا الفهم الفلسفي للفراغ أو الخلاء الطريق لاعتماد الرقم صفر رياضياً، ومع حلول القرن السادس الميلادي بدأ علماء رياضيات هنود بارزون مثل أريابهاتا وبراهماغوبتا باستخدام الصفر كرمز بديل في حساباتهم.


من الهند إلى أوروبا عبر الخوارزمي

ومن الهند شق الصفر طريقه إلى الصين ثم عاد إلى الشرق الأوسط، ففي القرن التاسع، أي خلال فترة الازدهار الفكري للعصر الذهبي الإسلامي، اندمج الصفر تماماً في الرياضيات، وقاد هذا التطور والتحول العالم محمد بن موسى الخوارزمي المعروف بـ"أبي الجبر"، وذلك انطلاقاً من بيت الحكمة في بغداد، حيث كان مركزاً رئيساً لترجمة ودراسة النصوص من مختلف الثقافات بما في ذلك الأعمال الرياضية الهندية، وهناك طور الخوارزمي نظاماً عددياً عربياً بالرقم صفر المعروف بالعربية "الغربلة".
لتتسارع بعدها وتيرة انتقال مفاهيم الصفر من الهند إلى أوروبا، وذلك بفضل الترجمة اللاتينية لعمل الخوارزمي الرائد "خوارزمية الأعداد الحقيقية" في القرن الثاني عشر، إذ كانت هذه الترجمة بمثابة قناة محورية ربطت التراث الرياضي للهند القديمة بالعالم العربي ومن ثم بأوروبا، مما شكل أساساً لانتشار مفهوم الصفر على نطاق أوسع، وهو ما أسهم التجار العرب أيضاً في تسهيله.


أوروبا تقاوم البساطة والسرعة

ومن تونس حمل ليوناردو بيزا المعروف بـ"فيبوناتش" راية الصفر والنظام العشري الهندوسي - العربي للخوارزمي ونقله إلى أوروبا، وذلك بعدما تعلم الصفر والرياضيات العشرية من التجار العرب الذين التقاهم أثناء مرافقته لوالده في جولاته التجارية شمال أفريقيا، ليدرك آنذاك تفوق النظام العشري على الأرقام الرومانية المستخدمة سابقاً، ولينتشر بعدها هذا النوع الجديد من الرياضيات إلى بقية أوروبا من خلال كتابه الحساب Liber Abaci الذي صدر عام 1202. وهو الكتاب الذي عرف صراحة الأرقام الهندية العربية (1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، و0) للجمهور الأوروبي، وبيَّن الكتاب بأمثلة واضحة كيف أن استخدام الصفر والقيمة المكانية جعل العمليات الحسابية كالجمع والطرح والضرب والقسمة أبسط وأسرع بكثير من استخدام الأرقام الرومانية.
إن عمل "فيبوناتشي" مثل حجة قوية للنظام الجديد القائم على الكفاءة العملية، وعلى رغم استمرار المقاومة في بعض الأوساط، إذ إن بعض المدن حظرت في البداية استخدام الأرقام الهندية العربية في التجارة خوفاً من الاحتيال، إلا أن كثيراً من التجار والعلماء تبنوا النظام بصورة متزايدة نظراً إلى مزاياه الجلية. ومكنت سهولة الحساب التي يسرها الصفر من تحقيق تقدم كبير في المحاسبة والخدمات المصرفية والجبر، ولاحقاً التفاضل والتكامل، مما دعم بصورة أساس التجارة الأوروبية المزدهرة والثورة العلمية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أساس لغة العصر الرقمي

واليوم لم يعد الصفر مجرد رقم، بل أصبح جزءاً لا يتجزأ من لغة العصر الرقمي، فقد توج تطوره بتشكيله الأساس للنظام الثنائي، الذي يشكل بدوره أساس الحوسبة الحديثة، إذ يمثل الرقمان 0 و1 "بت واحد" (1 bit)، وأدت هذه اللغة الثنائية البسيطة ظاهرياً إلى تشكيل البايتات والكيلوبايتات والميغابايتات والتيرابايتات وغيرها، التي شكلت بدورها المشهد الرقمي الذي نعيشه اليوم.
إن جميع عمليات الحوسبة الحديثة تعتمد على النظام الثنائي، الذي يستخدم رقمين فقط 0 و1، واللذين بدورهما يمثلان كل جزء من البيانات وكل تعليمة وكل صورة وكل صوت، أو مستند نصي في الحاسوب من خلال تسلسل من هذين الرقمين. فقد يمثل الصفر "إيقاف التشغيل"، أو "خطأ"، أو "جهد منخفض"، بينما يمثل الواحد "تشغيل" أو "صحيح" أو "جهد عال". ومن خلال هذه الثنائية البسيطة التي صاغها غوتفريد فيلهلم لايبنيز خلال القرن الـ17، يتاح بناء عمليات منطقية وعمليات حسابية معقدة من مفاتيح إلكترونية أساس.
ومن الجدير ذكره هنا، أن الصفر ليس مجرد رمز موقت في النظام الثنائي، بل هو عنصر فاعل في العمليات المنطقية مثل AND وOR وNOT التي تشكل أساس معالجات الحاسوب، وعليه يمثل الصفر الأرقام والنصوص عبر أنظمة ترميز مثل ASCII، إذ يقابل كل حرف رمز ثنائي، وعلى سبيل المثال B يساوي 66، أو 01000010 في النظام الثنائي.


رمز إلى تعطش البشرية للمعرفة

وفي النهاية، فإن فهم اختراع الصفر أشبه باكتشاف مفتاح لكنز من الاحتمالات الرياضية، التي أحدثت ثورة في حل المشكلات، وذلك عبر تمكنها من إجراء حسابات أكثر دقة وعمليات معقدة. وبما أن الصفر ليس فقط شيئاً مجرداً، بل باب لإمكانات لا منتهية، ومنها استخدامات عملية في الحياة اليومية، من قياس درجات الحرارة إلى إدارة الشؤون المالية، لذا يعد الصفر أساساً للتمثيل الدقيق للمعلومات الرقمية ومعالجتها مما يعزز الكفاءة. إضافة إلى أن لاختراع الصفر تأثير عميق في العلوم والرياضيات وغيرهما، فكذلك كان له تأثير في التاريخ الثقافي والفكري، فهو يرمز إلى تعطش البشرية للمعرفة وتطور الحضارات وترابط الثقافات، وعليه فإن التعرف على تاريخ الصفر يعزز الاحترام والفضول والتقدير لتراثنا الإنساني المشترك، ويدعم التقدم في الرياضيات والعلوم وغيرها.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات