Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 "غابة" نوفيلا تطرح إشكاليات الجمال في قرية فرنسية

سمير يوسف يروي الجريمة مواجها قبح الإنسان العصري

قرية فرنسية بريشة دافيك (صفحة الرسام - فيسوبك)

ملخص

في روايته القصيرة أو الـ"نوفيلا"، "غابة"، يسأل الكاتب اللبناني سمير يوسف "هل يمكننا الإيمان بعد بجمال العالم؟". تعقب هذا السؤال أسئلة كثيرة يطرحها، هل تفوز القضية العادلة؟ هل يفوز الضعيف أمام القوي؟ هل يفوز الجمال؟ متى يجوز اللجوء إلى العنف؟ وهل تمكن السيطرة على العنف متى بدأ؟

يغامر سمير يوسف في روايته القصيرة هذه بأن يبدأ سرده بالجريمة التي ترتكب بدلاً من أن يبدأ بتسلسل الأحداث والتصعيد المشوق الذي يؤدي إليها. وتبدو هذه المغامرة في مكانها سردياً، فهي وإن فضحت النهاية منذ الصفحات الأولى، لم تحرم القارئ من لذة التشويق التي تحثه على متابعة القراءة وإنهاء الـ"نوفيلا" بفضول.

إهداء لوالد الكاتب الراحل، يليه تمهيد، ثم جريمة، مباشرة، لتكون الأحداث التي تلي الفصل الأول بأكملها والممتدة على 13 فصلاً وخاتمة بعنوان "عن الوثائقي"، كناية عن عودة للوراء تشرح ظروف الجريمة وما أدى إليها، فيردّ "كان ذلك قبل الحريق ببضعة أشهر".

عودات للوراء بعد الجريمة الأولى تحمل القارئ إلى أشهر الصراع الأولى وتطور هذا الأخير. فيكشف السرد عن قرية صغيرة يتنازع أهلها على إقامة مشروع عصري، مما يؤدي إلى الحريق. ويعود الراوي بقارئه للمعارك الطويلة التي دارت بين مؤيدي إنشاء المشروع المعاصر التكنولوجي والرافضين له وعلى رأسهم رئيس البلدية توماس، البطل الرومانسي الـنوستالجي المليء بحب الجمال والطبيعة والحنين إلى زمن ما قبل التكنولوجيا.

يكتشف القارئ منذ الفصل الأول من السرد شخصية توماس، رئيس البلدية الذي يقرر إحراق مشروع كبير يقام في غابة القرية. فيكتب الراوي على لسان إيلينا حبيبة توماس، "قالت له مراراً إنه رومانسي زيادة عن اللزوم، وإن تلك الرومانسية لا تناسب العالم دائماً، وإنه إن لم يروضها فقد تجعله يشعر بحزن أكبر في حياته".

مرض الحنين

ثم ينقل الراوي طباع توماس المغرقة في الحنين عبر نقل حديثه مع إيلينا حبيبته عندما يقول لها توماس، "ستقولين لي إني نوستالجي وإن هذا أمر مرضي. لا آبه بذلك صراحة، ولو أني أقر بذلك نسبياً، ولو أني أرى أن الإنسان يتمسك بشيء من ماضيه عبر النوستالجيا، وأنها سلاحه في وجه الزمان الذي يبدد كل شيء، في وجه هذا الزمان تحديداً الذي يطالبنا بشكل دائم بالسرعة والذي اختار لغة الـ scroll down".

ولا يبخل الراوي على قارئه بتقديم المعلومات اللازمة التي تبرر جريمة إحراق المشروع في وسط الغابة، فيقول الراوي "ما فعله للتو يكلل معركة طويلة وصعبة خاضها لمنعهم من إقامة مشروع كانت تنقصه شفافية كبيرة، بالقرب من البحيرة الزرقاء. هؤلاء يريدون بناء بلدة تكنولوجية مخصصة للقطاع الرقمي، يعيشون فيها مع عوائلهم وموظفيهم وعمالهم. وكان من المقرر أن يبنى مدرج للطائرات وبيوت ومدارس، إلخ... شيء على طراز السيليكون فالي، يكون مخصصاً فقط لأهل النخبة وللذين يخدمونهم".

معركة نبيلة يقوم بها بطل سمير يوسف، ليتحول توماس إلى دون كيشوت معاصر يحارب من أجل الجمال والحق والعدل، يحارب من أجل الضعفاء والمهزومين والذين لا بد من أن تبتلعهم عجلة العولمة والتكنولوجيا عاجلاً أم آجلاً. يشبه توماس دون كيشوت في معركته للمحافظة على الغابة والجمال، وبينما معركة دون كيشوت هي مع أوهامه، تكون معركة توماس مع الإنسان المعاصر المهووس بالتكنولوجيا والأموال، فيقول توماس "قد نكون أمام إنسان عصري قبيح [...] أما الجمال الآخر، الحر، الذي قد يكون مرتبطاً بالخير، كما قيل سابقاً، فأشعر بأنه ضاع".

لا يكره القارئ توماس. وإن لجأ هذا الأخير إلى العنف فذلك لشدة يأسه وإحباطه وعجزه أمام ماكينة المال والنفوذ والسلطة، فيقول الراوي عنه "يتهيأ لتوماس في هذه الأيام أن كل ما فعله حتى الآن في حياته يختصر بملاحقة الجمال، وأن هذا ليس هم البشر في الحقيقة. وهذا محزن، يا الله كم هو محزن".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويظهر الراوي في "غابة" ممسكاً بزمام السرد منذ البداية بتوجهه المباشر إلى القارئ. الراوي هنا هو الحاكم الآمر الناهي الذي يقرر الأحداث ولغة السرد وطريقة الوصف وهو الذي يتحكم بمقدار الواقعية الموجودة بالمقارنة مع جرعات المتخيل، فيكتب الراوي الذي يتماهى إلى درجة كبيرة مع شخصية الكاتب سمير يوسف إن لم نرد أن نجزم بأنه هو نفسه "وعليه كتبت هذه الرواية، بلغة هجينة إلى حد ما، تمزج لغة المكان ولغتي الأم التي هي لغتك أيها القارئ، وسمحت لنفسي بتخيل أحداث فيها...".

تدور أحداث هذه الـ"نوفيلا" برمتها حول توماس رئيس بلدية قرية فرنسية اسمها ميتسا، يرفض رفضاً قاطعاً السماح بإقامة مشروع عصري في غابة المنطقة. مدفوعاً بحبه للجمال والطبيعة وحنينه للحياة القروية الهادئة البسيطة يرفض توماس أي مشروع يقام في غابة القرية. وتخلق هذه المثالية في رؤية الأمور صراعات كبيرة وشرخاً هائلاً بين أهل النفوذ والسلطة وبين توماس ومؤيديه، مما يؤدي إلى اشتباكات ومعارك وسقوط ضحايا.

ويلاحظ قارئ "غابة" أن الكاتب يحمل القضية إلى أبعاد فلسفية شيقة، فيطرح عبر هذا النزاع أسئلة حول الجمال والقبح والتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي والعنف والعدالة وغيرها من المفاهيم البشرية الجدلية ويعالج هذه المسائل من وجهات نظر متعددة متعارضة عبر منح الكلام للشخصيات، من دون أن يقع في فخ الوعظ أو الإطالة، لتكون هذه الـ"نوفيلا" سهلة بسيطة بظاهرها إنما عميقة بما تتطرق إليه من حبكات وصراعات اجتماعية وبشرية جوهرية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة