ملخص
كما في حالات كثيرة تلقف الإسرائيليون خطاب نتنياهو باستهجان كبير، لما يحمله من تلميحات جديدة وغامضة حول مستقبل إسرائيل. فثمة من حلل خطابه كاعتراف صريح بعزلة مرشحة للتفاقم، واتهمه بالتسبب في هذه العزلة، وبتوجيه ضربة قاصمة للاقتصاد الإسرائيلي، فيما اعتبر آخرون أن "إسبرطة نتنياهو" بتحويل إسرائيل إلى دولة قوة عسكرية محصنة على غرار مدينة إسبرطة اليونانية "نبوءة سوداء"، بالاستناد إلى الحقيقة التاريخية بأن إسبرطة التي كانت تتمتع بقوة مفرطة هزمت ودمرت بسبب غرورها العسكري.
عندما تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطابه عن "إسبرطة العظمى" وضرورة مواجهه العزلة السياسية بتبني اقتصاد "ذي سمات أوتاركية" مغلقة تعتمد على الذات، كان يريد أن يترك أثراً مشابهاً لخطاب الدم والدموع والعرق الذي ألقاه رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل أمام مجلس العموم في الـ13 من مايو (أيار) 1940، حين أعلن أن حكومته ليس لديها ما تقدمه للشعب سوى هذه التضحيات في ظل الأزمة العسكرية الكبرى التي واجهت بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، مؤكداً هدفه في تحقيق "النصر بأي ثمن" ضد الطغيان النازي.
لكن، كما في حالات كثيرة تلقف الإسرائيليون خطاب نتنياهو باستهجان كبير، لما يحمله من تلميحات جديدة وغامضة حول مستقبل إسرائيل. فثمة من حلل خطابه كاعتراف صريح بعزلة مرشحة للتفاقم، واتهمه بالتسبب في هذه العزلة، وبتوجيه ضربة قاصمة للاقتصاد الإسرائيلي، فيما اعتبر آخرون أن "إسبرطة نتنياهو" بتحويل إسرائيل إلى دولة قوة عسكرية محصنة على غرار مدينة إسبرطة اليونانية "نبوءة سوداء"، بالاستناد إلى الحقيقة التاريخية بأن إسبرطة التي كانت تتمتع بقوة مفرطة هزمت ودمرت بسبب غرورها العسكري.
وفقاً للروايات التاريخية وما ذكره مؤرخون في الكتب القديمة، فقد كانت "إسبرطة العظمى" مدينة عسكرية قديمة (900 -371 قبل الميلاد) ومجتمعاً طبقياً صارماً مبنياً على نخبة محاربة كانت تعتمد على اقتصاد زراعي مغلق قائم على عمل طبقة العبيد (الهيلوت) وسط عزلة تامة، إذ استخدمت العملة الحديدية الثقيلة لردع التجارة الخارجية والحد من المؤثرات الأجنبية، إلا أن نظامها العسكري الكبير اتسم بالهشاشة وعدم الاستقرار داخلياً بسبب القلق المستمر من هاجس انتفاضات "الهيلوت"، فمع مرور الوقت تضاءل عدد المحاربين، مما أدى إلى إضعاف قوتها العسكرية. وعلى رغم تزايد انتصاراًت إسبرطة في الحروب، فإن قوتها العظمى تلاشت وانهارت بسرعة بعد هزيمتها الحاسمة في معركة "ليوكترا" في 6 يوليو (تموز) عام 371 قبل الميلاد، بينما بقيت حضارة أثينا التي مثلت الثقافة والمعرفة والفلسفة.
انتقادات حادة
على رغم أن نتنياهو في خطابه لم ينسب هذه العزلة إلى سياسات حكومته، بل أرجعها إلى عوامل خارجية وتغيرات ديموغرافية في أوروبا ناجمة عن هجرة الأقليات المسلمة العدوانية التي تضغط على الحكومات الأوروبية لاتخاذ مواقف معادية لإسرائيل، فإنه قوبل بسيل من الانتقادات، وإلى جانب أنها صدرت في وقت زادت الدول الأوروبية تدريجاً حظر الأسلحة والعقوبات المفروضة على إسرائيل بسبب الحرب الدائرة في غزة، شهدت أسهم بورصة تل أبيب بعد خطابه مباشرة انخفاضاً حاداً وهبط سعر الشيكل مقابل الدولار، وهو ما حدا بالمعارضة الإسرائيلية لنشر ردها بصورة قوية وحاسمة، حين رفض قادتها هذه السردية بصورة قاطعة، فالعزلة التي تغرق بها إسرائيل من وجه نظرهم ليست "قدراً" محتوماً، وإنما نتيجة لـ"سياسات خاطئة وفاشلة"، بحسب تعبيرهم.
واتهم قادة المعارضة مثل يائير لبيد وأفيغدور ليبرمان، نتنياهو بتحويل إسرائيل إلى "دولة من العالم الثالث" من خلال سياسات تدفع البلاد نحو "هاوية سياسية واقتصادية واجتماعية"، في حين حذر زعيم المعارضة يائير غولان من أن سياسة الاكتفاء الذاتي الأوتاركي التي يطمح نتنياهو إلى تحقيقها ستؤدي إلى "انخفاض بنسبة 40 في المئة في أجور الجميع"، متوقعاً أن تتحول إسرائيل إلى "بلد متخلف بالكاد يستطيع توفير البيض والحليب والماء لمواطنيه".
وسط هذا التباين الحاد في الخطاب السياسي الذي يكشف عن توسع الخلاف الإسرائيلي الداخلي حول مستقبل إسرائيل وتداعياته الفورية والمباشرة على الاقتصاد المرتبط بصورة حيوية بالاقتصاد العالمي، صرحت مصادر مقربة من نتنياهو لهيئة البث الإسرائيلية "كان" قبل أيام، بأن تصريحه حول "إسبرطة عظمى" إسرائيلية منعزلة كان "زلة لسان"، وأنه كان ينوي الإشارة إلى ضرورة اعتماد إسرائيل على صناعتها الدفاعية الخاصة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل قال منتدى الأعمال الإسرائيلي الذي يمثل عمال 200 من أكبر الشركات الإسرائيلية في بيان "لسنا إسبرطة"، مؤكدين أن سياسات نتنياهو تدفع البلاد نحو "هاوية سياسية واقتصادية واجتماعية تعرض وجودهم في إسرائيل للخطر"، واحتج رئيس اتحاد نقابات العمال (الهستدروت) أرنون بار ديفيد، قائلاً "نحن نستحق السلام، فالمجتمع الإسرائيلي منهك، ومكانتنا في العالم سيئة للغاية"، محذراً نتنياهو من أن سياساته تقود إسرائيل إلى "ركود اقتصادي وسياسي خطر وغير مسبوق تصعب عليهم البقاء في عالم متطور". وأضاف المنتدى "يظهر الاقتصاد الإسرائيلي مرونة استثنائية، على رغم التحديات الأمنية والسياسية، لكن هذه المرونة لن تستمر إلى الأبد".
من جانبها دعت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية إثر تلك التصريحات، الإسرائيليين إلى التركيز مع ما قاله الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في قمة الدوحة الأخيرة، من أن "ما يجري الآن يمس مستقبل السلام، ويهدد أمننا وأمنكم وشعوب المنطقة، ويسد الطريق أمام اتفاقات سلام جديدة، ويضر بالاتفاقات الموجودة". وأشارت الصحيفة إلى أنه بدلاً من رفع أسوار القلعة الإسرائيلية على غرار إسبرطة، على إسرائيل أن تفعل العكس: صفقة تبادل، ووقف الحرب، وقول نعم للتعاون الإقليمي، والإصغاء للعالم، وقبول استعداده لضمان اليوم التالي في غزة".
عزلة دولية
لم تقف الأمور في أعقاب تصريحات نتنياهو على الإسرائيليين وحدهم، فقد أثارت المفوضية الأوروبية نقاشاً حول إمكان تعليق جزء من اتفاق التجارة مع إسرائيل، وفرض رسوم جمركية على المنتجات الإسرائيلية المستوردة إلى دول الاتحاد قد تؤدي في حال اعتمدتها إلى زيادة كلفة بعض الواردات الإسرائيلية، لا سيما الزراعية، بنحو 227 مليون يورو (266 مليون دولار). ولن تطاول هذه العقوبات سوى 37 في المئة من هذه الواردات إذا وافقت الدول الـ27، لا سيما في قطاع الصناعات الغذائية.
وبلغت قيمة صادرات إسرائيل إلى الاتحاد الأوروبي، أكبر شريك تجاري لها، 15.9 مليار يورو (19 مليار دولار) العام الماضي. ووفق ما أورده موقع "بوليتيكو"، فإن القرار يدعم اقتراح رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين بتعليق جزئي للامتيازات التجارية في اتفاق الشراكة. وأعلنت مسؤولة الشؤون الخارجية في التكتل كايا كالاس أن الهدف من تلك الإجراءات "ليس معاقبة إسرائيل، بل تحسين الوضع الإنساني في قطاع غزة".
فضلاً على ذلك، اقترحت المفوضية الأوروبية فرض عقوبات على وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، لكن هذه المحاولة، وفق محللين، تتطلب إجماع وتوافق دول التكتل على تلك العقوبات التي فشلت قبل بضعة أسابيع في الحصول على غالبية كافية لاعتمادها، وخصوصاً مع غياب تأييد دول مثل ألمانيا وإيطاليا لها.
كلف مباشرة
رجح تقرير صادر عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب حديثاً، أن استمرار الحرب سيؤدي إلى كلف غير مباشرة، إضافة إلى المباشرة، وبينها فرض عقوبات على إسرائيل ومقاطعتها، واعتبر المعهد أن أحد العواقب الوخيمة على الاقتصاد الإسرائيلي بسبب استمرار الحرب التي تشنها إسرائيل في جبهات عدة خلال العامين الأخيرين، يتعلق بتراجع النمو الاقتصادي والناتج للفرد وتقليص الدخل الصافي للإسرائيليين الذي يعد مؤشراً مركزياً إلى جودة الحياة، إذ أدى الارتفاع الحاد للدين مقابل الناتج من 61 إلى أكثر من 70 في المئة خلال العامين الأخيرين إلى إغلاق عدد كبير من المصالح التجارية، وتراجع عددها حتى وصلت إلى 40.6 ألف مصلحة تجارية. وقد أدى تضرر القطاعات الاقتصادية بصورة مباشر بسبب الحرب لارتفاع نسب البطالة في صفوف الإسرائيليين، خصوصاً في قطاع السياحة، والمصالح التجارية القريبة من الحدود مع قطاع غزة ولبنان. ونتيجة الاستدعاء الواسع لقوات الاحتياط وتلقي الجنود راتباً بقيت نسب البطالة منخفضة ولم تتجاوز 3 في المئة، لكنها عادت وسجلت ارتفاعاً طفيفاً منذ فبراير (شباط) الماضي، بعدما بدأ الجيش بتسريح جنود احتياط الذين لم يعودوا إلى العمل.
وشدد التقرير على أن تعالي الأصوات لفرض عقوبات على إسرائيل ومقاطعتها ومنتجاتها، حتى لو كانت من جانب شركات خاصة وليست دولاً بالضرورة، من شأنها أن تلحق ضرراً كبيراً بالقطاع التجاري الإسرائيلي، وبخاصة في فرع التكنولوجيا الفائقة (الهايتك) الذي سيفقد عاملين بسبب هجرتهم من إسرائيل أكثر من فروع أخرى. وبين أعوام 2013 و2022، كان ميزان الهجرة في إسرائيل سلبياً بنحو 15 ألفاً، إذ بلغ متوسط الهجرة السنوي من إسرائيل 35 ألفاً مقابل عودة 20 ألفاً منهم، لكن المعادلة اختلفت عام 2024 وارتفع معدل الهجرة السلبي إلى 60 ألفاً.
ووفقاً للتقرير فإن 81 في المئة من المهاجرين هم دون سن 49 سنة، ومعظمهم كانوا من الشبان المنتجين الذين يسهمون في تعزيز إسرائيل اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً. ونشرت سلطة الابتكار الإسرائيلية في تقريرها السنوي لعام 2025 حول قطاع التقنيات الفائقة (الهايتك)، قبل أيام أن القطاع ما زال يعاني جمود الناتج الكلي للقطاع وتوقف الزيادة في حجم التوظيف إلى أقل من اثنين في المئة سنوياً منذ عام 2023، بعد عقد كامل كان فيه معدل النمو يتجاوز 5 في المئة في معظم السنوات، إذ إن عدد العاملين في قطاع "الهايتك" ونسبتهم من إجمال القوى العاملة في إسرائيل لم يشهد أي تغير يذكر خلال ثلاث سنوات متتالية.
وبحسب التقرير، يشكل قطاع "الهايتك" أكثر من نصف إجمال الصادرات الإسرائيلية، وهي نسب استثنائية بمقياس عالمي. ووفقاً لصحيفة "كالكاليست"، فإن الأرقام تكشف بوضوح أن الاقتصاد الإسرائيلي يتجه نحو مأزق تاريخي، مع عجز مالي متضخم يتجاوز 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتهاوي ثقة المستثمرين المحليين والدوليين.
بعد عسكري
بينما يحاول نتنياهو إقناع الرأي العام بضرورة "الأوتاركية" يرى محللون أن هذا النهج قد يعرض إسرائيل لانكماش اقتصادي طويل الأمد قد يقود إلى انهيار قطاعات أساسية، وفي مقدمها الصناعات الدفاعية والتكنولوجية. كما أن رؤيته المتعلقة بـ"إسبرطة إسرائيل" التي ترتكز على الاستقلال الأمني التام وفكرة "الدفاع عن إسرائيل بقواتها وأسلحتها الخاصة" يتطلب استثمارات ضخمة في صناعات الدفاع المحلية لضمان الاكتفاء الذاتي العسكري. فمع تفاقم عزلتها السياسية وتزايد الاتهامات الموجهة لها بارتكاب جرائم حرب، بدأت دول ومؤسسات دولية باتخاذ خطوات عملية تمس بقطاع الصناعات العسكرية الذي يعد أحد أكثر القطاعات حساسية وتأثيراً في إسرائيل، فقد أقدمت إسبانيا قبل أسابيع قليلة، على إلغاء عقدين ضخمين مع شركات إسرائيلية بلغت قيمتهما الإجمالية قرابة مليار يورو (1.2 مليار دولار). ووفق ما أفادت به صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية قد تتلقى إسرائيل ضربة إضافية باستبعاد الشركات الإسرائيلية من "معرض دبي للطيران"، المقرر انعقاده في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، والذي يعد واحداً من أكبر معارض الطيران والتسليح في العالم، بعد تحذير رسمي من دولة الإمارات في شأن نيات الضم في الضفة الغربية واستمرار العدوان على غزة.
وفي ظل استمرار الحرب وتنامي الضغوط الحقوقية والسياسية أمام هذا الواقع تعيش شركات عسكرية كبيرة مثل "رافائيل" و"إلبيت"، وصناعات الطيران والفضاء الإسرائيلية، أزمة عميقة ومتفاقمة. ووصف الكاتب الإسرائيلي درور مارمور ما قاله نتنياهو في شأن إسرائيل وما يجب أن تكونه (أثينا وإسبرطة في آنٍ واحد) بـ"الوهم المستحيل"، إذ إن أثينا التي كانت رمزاً للديمقراطية والثقافة والتجارة، ولا يمكن أن تجمع مع إسبارطة التي جسدت الانغلاق والعسكرة.
يرى مراقبون أن ثمن هذه العسكرة الشاملة التي يطمح إليها نتنياهو لا تقتصر على الاقتصاد فحسب، فقد أدت الحرب على مدار عاميين متتاليين إلى إرهاق المجتمع الإسرائيلي، وتزايد الاضطرابات الداخلية، وارتفاع معدلات الانتحار بين الجنود الإسرائيليين العائدين من غزة، ووفقاً لوسائل الإعلام الإسرائيلية، فقد انتحر 18 جندياً منذ بداية العام الحالي، كان آخرهم جندي انتحر في قاعدة عسكرية بالمنطقة الشمالية الأسبوع الماضي، في ما أظهرت الاحتجاجات وتصاعد حالات رفض الخدمة العسكرية، على رغم خطر السجن، من قبل شرائح مؤثرة في المجتمع مثل ضباط الاحتياط من سلاح الجو والاستخبارات، إضافة إلى الأكاديميين، فضلاً عن وجود زعزعة في الإجماع الوطني المعتاد خلال فترات الحرب. وعلى رغم أن الجيش الإسرائيلي لا يقدم أرقاماً عن حالات الغياب أو الرفض، ويقول "إن كل حال يتم تقييمها على حدة"، قالت مجموعة تعرف باسم "جنود من أجل الرهائن"، إن ما لا يقل عن ثلاثة جنود مرتبطين بمجموعتهم سجنوا هذا العام لرفضهم الخدمة، وسجن بعضهم لمدة تصل إلى ثلاثة أسابيع.