ملخص
حضرت غزة بشدة في مهرجان البندقية من خلال فيلم "صوت هند رجب"، للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، ونال استحساناً لافتاً لدى الجمهور والنقاد، وتكلل بتصفيق الجمهور العربي الذي حضر، استمر 23 دقيقة، قيل إنه الأطول في تاريخ المهرجانات كلها.
في مهرجان البندقية السينمائي الذي يختتم غداً، تتقاطع السينما والفن مع البهرجة والسجادة الحمراء، وتتداخل السياسة مع الأوضاع الراهنة والتظاهرات الداعمة لغزة. داخل صالات العرض، يعلو التصفيق على ما يقدمه المخرجون من رؤى وحكايات. في السنوات الأخيرة، أصبح طول التصفيق معياراً غير رسمي لقياس جودة الأفلام، حتى باتت أهمية العمل تقدر بعدد الدقائق التي يصفق فيها الجمهور. يحدث ذلك في ظل تراجع تأثير النقد التقليدي المنشور في الصحف، مقابل صعود تعليقات الأفراد على وسائل التواصل، وتعاظم نفوذ "المؤثرين" الذين هم في الواقع مروجون، وقد باتت شركات تعتمد عليهم لتسويق بضائعها.
في هذا السياق عرض "صوت هند رجب"، فيلم المخرجة التونسية كوثر بن هنية، ونال استحساناً لافتاً لدى الجمهور والنقاد، ومن المتوقع أن يظفر بإحدى جوائز المهرجان التي تمنحها مساء غد، لجنة تحكيم يترأسها المخرج الأميركي ألكسندر باين، الذي لم يُخفِ، في مقابلة لي معه، احتمال أن تحمل الجوائز بعداً سياسياً.
الجمهور العربي احتفى بدوره بالاستقبال الحار الذي حظي به الفيلم، وتكلل بتصفيق استمر 23 دقيقة، قيل إنه الأطول في تاريخ المهرجانات كلها. أما النقاد، فقد اتفق معظمهم على أهمية الفيلم، ليس فقط من الناحية الفنية، بل لما يحمله من صوت إنساني في وجه المجزرة المستمرة في غزة، والتي خيمت بظلالها الثقيلة على الدورة الـ82 من "الموسترا".
الطفلة المستغيثة
تقع أحداث الفيلم في الأمس القريب، خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة. بطلتها الغائبة عن الصورة هي الطفلة هند، ابنة السنوات الست، التي قتلت وهي تستغيث عبر الهاتف. بن هنية، التي راكمت خبرة في التقاط المواضيع "الآنية" ذات الحساسية الأخلاقية والسياسية، تمضي هنا في أسلوبها المعتاد: التقاط قصة موجعة من الواقع، ثم إعادة صياغتها في قالب درامي - وثائقي هجين، يبدو مصمماً لإقناع لجان المهرجانات الدولية وتحريك مشاعر أفرادها.
بعملية تصوير لم تتجاوز أسبوعين، صور الفيلم بالكامل في تونس، بمشاركة ممثلين فلسطينيين تولوا تجسيد شخصيات القصة. فيلم ولد بسرعة، كاستجابة فورية لحالة طارئة، وبدافع شعور داخلي بالضرورة، فرض نفسه على المخرجة قبل أن يكتمل مشروعها التالي. تروي بن هنية تلك اللحظة: "كنت في وسط الحملة الترويجية لفيلمي "بنات ألفة" خلال موسم الـ"أوسكار"، وكنت أستعد نفسياً للدخول في مرحلة ما قبل الإنتاج لفيلم أعمل عليه منذ 10 سنوات. ثم، خلال عبوري في مطار لوس أنجليس، تغير كل شيء. سمعت تسجيلاً صوتياً لهند رجب وهي تتوسل طلباً للمساعدة. كان صوتها قد انتشر بالفعل على الإنترنت، وفوراً اجتاحني مزيج من العجز والحزن الطاغي. كان رد فعل جسدياً، شعرت وكأن الأرض اهتزت تحت قدمي. لم أستطع الاستمرار كما كنت أخطط. تواصلت مع الهلال الأحمر وطلبت الاستماع إلى التسجيل الكامل. وبعد أن سمعته، أدركت، من دون أدنى شك، أنه عليَّ أن أترك كل شيء آخر. كان لا بد أن أصنع هذا الفيلم".
يعتمد الفيلم بصورة كبيرة على الملف الصوتي الحقيقي الذي حصلت عليه بن هنية، وهو عبارة عن مكالمة هاتفية بين الطفلة هند وعناصر الهلال الأحمر، الذين يحاولون تنظيم عملية إنقاذها، لكن يصطدمون بجدار البيروقراطية: تصاريح لازمة، ومخاوف من استهداف سيارات الإسعاف، وتعليمات مشددة بعدم التحرك من دون "ضوء أخضر" من السلطات المعنية. التسجيل مؤلم في جوهره، لكن تحويله إلى مادة سينمائية يفتح نقاشاً حول حدود استثمار الواقع، ومتى يصبح التوظيف الفني أقرب إلى المتاجرة الرمزية أو حتى الابتزاز العاطفي.
بن هنية تمزج بين التوثيق والتخييل، معلنة ذلك بصراحة منذ البداية، لكنها، بهذا الدمج، تحمل الفيلم أكثر مما يحتمل، إذ تبنى على اللحظة الإنسانية الصادمة حبكة درامية فيها كثير من التصنع والافتعال. يتحول مركز اتصالات الهلال الأحمر إلى مسرح لصراع داخلي بين شخصيتين: أحدهما يدفع باتجاه التحرك الفوري لإنقاذ الطفلة، والآخر يلتزم بالتعليمات حفاظاً على حياة الفريق الطبي.
هذا الصراع يقرأ ضمنياً كاستعارة للخلافات الفلسطينية الداخلية، لكنه يظل مختزلاً وسطحياً، ويعيد إنتاج ثنائية مألوفة بين "المناضل" و"المنضبط"، أو بتوصيف آخر، بين العاطفة والبيروقراطية. المشكلة أن هذا البناء يتم على حساب القصة الأصلية، أي مأساة هند نفسها، التي سرعان ما تتوارى خلف الصراعات الثانوية داخل المركز. بما أن الصوت وحده لا يصنع شخصية هند، على رغم قوة التسجيل الحقيقي، فيلجأ الفيلم إلى تمرير صورها لملء فراغ غيابها.
تدور غالبية مشاهد الفيلم داخل مركز اتصالات الهلال الأحمر في رام الله، حيث ينشغل المتطوعون بسجال حول إمكان إرسال سيارة إسعاف إلى موقع وجود الطفلة. بصرياً، يكتفي الفيلم باللقطات القريبة والانفعالاًت اللفظية، مع خاتمة تعود إلى لقطات حقيقية، إذ إنها لا تملك القدرة على منح الفيلم نهاية درامية متماسكة. أما الشخصيات، فلا تملك خلفيات واضحة أو ملامح نفسية تبرر ردود فعلها، وهو ما يعود إلى خيار إخراجي واضح: التركيز على لحظة واحدة، من دون أي عمق زمني أو تنوع في الطبقات السردية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا يمكن تجاهل الشبه الوظيفي بين "صوت هند رجب" والفيلم السويدي "المذنب" (2018) لغوستاف مولر، حيث تدور الأحداث أيضاً داخل مركز طوارئ تعتمد على الصوت كوسيط أساسي للسرد، مع فارق أن الفيلم الدنماركي اختار التعمق، بينما اكتفت بن هنية بالمشهدية الانفعالية وغيبت السياق الداخلي لشخصياتها.
يعتمد الفيلم على آلية تأثير تقوم على عرض العجز الإنساني في وجه المأساة، وهو ما تحدثت عنه بن هنية عند سماعها للمرة الأولى صوت هند. هذه لحظة لا يمكن إنكار صدقها أو الطعن في وقعها، لكن تجسيدها سينمائياً، خصوصاً عند الاستعارة بمواد حقيقية، لا يعفى من المساءلة، فالعمل الفني نتيجة خيارات إخراجية وإنتاجية وسياسية واضحة. القضية، على رغم رمزيتها العالية والإجماع الأخلاقي حولها، ليست مانعاً من النقاش، بل تستحق مقاربة أكثر دقة وعمقاً من مجرد التعويل على التعاطف الآني.
يعول "صوت هند رجب" على استعداد الجمهور الغربي للبكاء على مصير طفلة، وعلى تأنيب الضمير الجماعي كوسيلة لاقتحام المهرجانات وتأمين موطئ قدم على السجادة الحمراء. لكن هذا الرهان، في المحصلة، يرهق المتلقي أكثر مما يحركه، إذ انه يمارس عليه ضغطاً عاطفياً مكثفاً، ويفترض به أن يثير تعاطفاً فورياً، من دون أن يوفر بنية درامية متماسكة. هنا تحديداً تتبلور المعضلة المركزية: كيف يمكن تقديم مأساة فلسطينية راهنة من دون أن تتحول إلى منتج ثقافي للاستهلاك في الغرب، بينما الصواريخ تحصد مزيداً من الضحايا في كل لحظة؟!