Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأمومة والعمل في السعودية معادلة تتشكل خارج الخيارات الفردية

الإنجاب فكرة مطروحة ولكن بيئة الوظائف والسياسات العامة وتغير أنماط الحياة تعيد رسم قرارات الأسرة

قد لا يكون العمل بحد ذاته هو المتحكم في قرار الإنجاب لدى أية امرأة عاملة (اندبندنت عربية)

ملخص

يركز التقرير على أن تأخير الإنجاب في السعودية لا يرتبط بعمل المرأة بحد ذاته، بل ببيئة العمل والسياسات الداعمة للأمومة. وتؤكد الدراسات والأرقام أن النساء لا يرفضن الأمومة، لكنهن يتأثرن بمرونة العمل والدعم المؤسسي.

يظهر موضوع عمل المرأة وتأخير الإنجاب كملفين متجاورين في النقاشات المجتمعية، إذ غالباً ما يستدعي طرح أحدهما الآخر تلقائياً.

خلال الأعوام الأخيرة، تصاعدت وتيرة تحميل المرأة العاملة مسؤولية تأخير الإنجاب، خصوصاً في المجتمع السعودي، بوصف العمل عاملاً رئيساً في هذا التحول الديموغرافي، غير أن هذا الطرح الذي يتكرر ضمن الخطاب العام، يتجاهل تعقيدات أوسع تتعلق ببيئة العمل وتوازن الأدوار الأسرية والسياسات الداعمة للأمومة.

يعتمد هذا التقرير على آراء ودراسات وإحصاءات محلية ومقارنات مع دول مجاورة، تظهر أن العلاقة بين عمل المرأة والإنجاب ليست علاقة رفض أو عزوف، بل ترتبط بدرجة كبيرة بطبيعة بيئة العمل ومدى مرونتها ودعمها للأمهات، وتشير دراسة صادرة عن "جامعة الأميرة نورة" إلى أن النساء السعوديات لا يرفضن فكرة الإنجاب بحد ذاتها، بل يتأثر قرارهن بمدى التوافق بين العمل ومتطلبات الأمومة.

في المقابل، لا تزال الأبحاث العالمية التي تستكشف العلاقة بين عمل المرأة والخصوبة محدودة، بسبب نقص البيانات المقارنة الموحدة بين الدول، مما يجعل كثيراً من الأحكام المتداولة أقرب إلى الانطباعات الاجتماعية منها إلى الاستنتاجات العلمية.

معدلات العمل والخصوبة في دول مجلس التعاون

وفقاً لبيانات منظمة العمل الدولية، بلغت نسبة الإناث العاملات في العالم 40.20 في المئة عام 2024، وعلى مستوى دول مجلس التعاون، تصدرت قطر الدول الست من ناحية نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل بنسبة 65.11 في المئة، تلتها الإمارات العربية المتحدة بنسبة 55.56 في المئة، ثم الكويت بنسبة 50.97 في المئة، فالبحرين بنسبة 45.44 في المئة، وجاءت السعودية بنسبة 35.80 في المئة، فيما حلت عمان أخيراً كأقل الدول من ناحية نسبة القوى العاملة النسائية بنسبة 32.17 في المئة.

أما في ما يتعلق بمعدلات الخصوبة، ووفقاً لبيانات البنك الدولي لعام 2024، فسجلت عمان أعلى معدل ولادات بواقع 2.8 ولادة لكل امرأة، تلتها السعودية بمعدل 2.3 ولادة، ثم الكويت بمعدل 2.1 ولادة لكل امرأة، وجاءت قطر في المرتبة التالية، على رغم تصدرها نسب مشاركة المرأة في سوق العمل، حيث بلغ معدل الولادات 1.9 لكل امرأة قطرية.

وكانت الإمارات من بين أقل معدلات الخصوبة بمعدل 1.4 ولادة لكل امرأة، فيما جاءت البحرين بمعدل 1.7 ولادة لكل امرأة بحرينية.

لم تُرفض فكرة الأمومة

وتشير دراسة صدرت عن "جامعة الأميرة نورة" في ديسمبر (كانون الأول) الجاري، وشملت عينة تقارب ألفين امرأة سعودية، 60 في المئة منهن طالبات، إلى أن فكرة الإنجاب لا ترتبط برفض الأمومة، بقدر ما تعكس تداخل عوامل مثل العمل أو الدراسة والعمر والظروف الحياتية.

وتظهر نتائج الدراسة وجود فروق ذات دلالة إحصائية في مواقف النساء تجاه الإنجاب تبعاً لعدد من المتغيرات الديموغرافية والاجتماعية، إذ اختلفت اتجاهات المشاركات بحسب العمر والحال الاجتماعية وعدد الزوجات والحال الوظيفية والمنطقة الجغرافية، إضافة إلى ما إذا كان لدى المرأة أطفال أو سبق لها الحمل.

وأشارت النتائج إلى أن النساء الأكبر سناً والمتزوجات أبدين أهمية أعلى للإنجاب مستقبلاً مقارنة بالفئات الأصغر سناً وغير المتزوجات، في حين عبرت الفئات الأصغر سناً عن مستويات أعلى من القلق المرتبط بتأثير الإنجاب في الحياة الحالية، وأظهرت النساء العاملات اتجاهات أكثر تحفظاً تجاه الإنجاب مقارنة بغير العاملات، مما يعكس تأثير متطلبات العمل والالتزامات المهنية في هذا القرار.

وبينت النتائج أيضاً أن النساء اللواتي لديهن أطفال أو سبق لهن الحمل كن أقل قلقاً من تبعات الإنجاب على حياتهن الحالية مقارنة باللواتي لم يسبق لهن الإنجاب، مما يشير إلى أن التجربة الفعلية للأمومة قد تقلل من المخاوف المتصورة المرتبطة بها.

وبصورة عامة، تؤكد النتائج أن قرار الإنجاب لدى المرأة السعودية لا يحكمه عامل واحد، بل يتأثر بمزيج من العوامل العمرية والاجتماعية والاقتصادية، مع بروز واضح لدور العمل والمرحلة الحالية من الحياة في تشكيل الميل إلى تأجيل الإنجاب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

التحدي الحقيقي للأم العاملة

قد لا يكون العمل بحد ذاته هو المتحكم في قرار الإنجاب لدى أية امرأة عاملة، بحسب رأي الهنوف الفهد، المتزوجة منذ أربعة أعوام التي خاضت تجربة الأم العاملة، فترى أن الحياة الشخصية للمرأة يفترض ألا تكون عائقاً أمام حياتها المهنية، سواء كانت متزوجة أو أماً أو حتى تخطط للإنجاب في المستقبل. فبحسب تعبيرها، العمل شيء والحياة الشخصية شيء آخر، والفصل الصحي بينهما هو الحل حتى لا تضطر المرأة إلى الاختيار بينهما.

 

وفي ما يخص تأجيل الإنجاب، ترى الهنوف الفهد أن ذلك غالبا ما يكون ناتجاً من مخاوف أكثر من أنه واقع فعلي مثل الخوف من عدم تقبل بيئة العمل، أو فقدان الفرص، أو نظرة المجتمع إلى الأم العاملة بوصفها أقل التزاماً، غير أن الواقع اليوم مختلف كثيراً عما كان عليه سابقاً، إذ تطورت أنظمة العمل وأصبحت أكثر مرونة وتفهماً لحاجات المرأة، سواء عبر إجازات الأمومة أو ساعات العمل المرنة أو حتى إتاحة العمل عن بعد في بعض الجهات.

ومن خلال تجربتها، ترى الفهد أن المشكلة الأساسية لا تكمن في الإنجاب بحد ذاته، بل في مدى تجاوب بيئة العمل، فعندما يكون المدير متفهماً والفريق داعماً ونظام العمل واضحاً وعادلاً، تستطيع المرأة الجمع بين العمل والأمومة من دون أن تشعر بأنها مقصرة في أحد الجانبين. وتقول "برأيي، لا يفترض أن يكون هناك ضغط غير مباشر على المرأة لتأجيل قرار شخصي ومهم مثل الإنجاب من أجل إثبات نفسها مهنياً، فالكفاءة لا تقاس بالحال الاجتماعية ولا بعدد الساعات، وإنما بالإنتاجية والالتزام وجودة العمل".

وتؤكد الفهد أن المرأة قادرة على أن تكون موظفة ناجحة وأماً ناجحة في الوقت نفسه، إذا منحت المساحة والثقة.

هل تأجيل العمل فكرة مقبولة؟

سألت "اندبندنت عربية" إحدى النساء حديثات الزواج التي لا تزال ترى الأمومة فكرة مرغوبة، إلا أن التأجيل كان أحد الحلول لاستكشاف المرحلة الجديدة، فتوضح عهود صالح أنه بعد زواجها بعام، تحاول قدر الإمكان الفصل بين العمل والحياة الشخصية وقراراتها.

وترى أن فكرة الإنجاب في وضعها الحالي قد يكون لها تأثير في حياتها العملية، لذلك كان القرار تأجيل الحمل خلال العامين الأولين من الزواج بهدف التأقلم وفهم أبعاد حياتها الجديدة. أما في ما يخص ما بعد الإنجاب، فتعتقد بأن جهات العمل أصبحت أكثر تعاوناً مع الأم العاملة، سواء من خلال توفير ساعات رضاعة أو حضانات مخصصة للأطفال داخل مقار العمل.

وعن فكرة تأجيل العمل، تؤكد صالح أن هذا الخيار غير قابل للتنفيذ، وتقول "نحن نتحدث عن عام كامل تقريباً بين حمل وولادة، وهذا أمر لا أراه صحياً، خصوصاً أن مجالي العملي، وهو قطاع الأعمال، يتطور بصورة سريعة، وأي انقطاع طويل قد يؤدي إلى التأخر في مواكبة التطورات، فيما أرى أن فترة إجازة الولادة كافية للانقطاع الموقت".

زوج المرأة العاملة

من جانب آخر، تواصلت "اندبندنت عربية" مع أحد الأزواج، عبدالله حجاج، المتزوج منذ 20 عاماً بامرأة عاملة ولديه خمسة أطفال، فيذكر أن وظيفة زوجته لم تمنعها في يوم من الأيام من تكوين عائلة، ويعود ذلك، بحسب رأيه، لمرونة العمل وتعاونه مع الأمهات.

ويضيف أن المشكلة لا تكمن في عمل المرأة بحد ذاته، بل في طبيعة بيئة العمل، موضحاً أنه في حال كانت الأم تستيقظ في ساعات مبكرة من الصباح، وتقضي تسع ساعات عمل يومياً، ثم تعود للمنزل في نهاية اليوم، فإن ذلك يشكل عبئاً حقيقياً، مما يراه جوهر الإشكالية.

ويذكر طبيب الأسرة عبدالعزيز اللهيبي لـ"اندبندنت عربية" أن عمل المرأة يمثل رافعة تنموية ومعرفية، ولا يقوم على علاقة سببية مباشرة مع تراجع معدلات الإنجاب، ويضيف أن الربط بين الأمرين غالباً ما يتجاهل التعقيد البنيوي للتحولات الاجتماعية الحديثة، إذ تتداخل نظم العمل وأنماط الحياة ومستوى تمكين الأسرة ككل. وعليه، فإن حضور المرأة في المجال المهني لا يتناقض مع الاستقرار الأسري، بل قد يعززه متى ما أحاطت به بيئة داعمة تعترف بتعدد أدوار المرأة وتقدرها.

ماذا عن الدول الأخرى؟

تظهر التجربة الأوروبية اتجاهاً مشابهاً، فوفقاً لبيانات رسمية صادرة عن المكتب الإحصائي للاتحاد الأوروبي (يوروستات)، انخفض معدل الخصوبة في الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى 1.38 ولادة لكل امرأة، مقارنة بـ1.46 عام 2022، وهو مستوى يقل كثيراً عن "مستوى الإحلال" البالغ 2.1 الذي يشير إلى استقرار عدد السكان، ويعكس هذا التراجع تحولاً ديموغرافياً أوسع لا يرتبط بعمل المرأة بحد ذاته، بقدر ما يتصل ببيئات العمل وأنماط الحياة الحديثة، ومدى قدرة السياسات العامة وسوق العمل على دعم الأمومة وتمكين المرأة من الجمع بين الاستقرار المهني وتكوين الأسرة.

وفي مقارنة مع دول أخرى، وبحسب بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) ودراسات نشرها مركز أبحاث السياسات الاقتصادية (CEPR)، تعاني كوريا الجنوبية فجوة حادة في سوق العمل، تظهر على نحو أوضح لدى المرأة الأم.

 

فعلى رغم ارتفاع مستويات تعليم النساء، تسجل البلاد أكبر فجوة أجور بين الجنسين بين الدول المتقدمة، إذ تحصل المرأة على دخل أقل بنحو 30 إلى 32 في المئة مقارنة بالرجل عن العمل نفسه.

وتشير البيانات كذلك إلى تراجع حاد في مشاركة الأمهات في سوق العمل بعد الزواج والإنجاب، نتيجة بيئات عمل تقوم على ساعات طويلة ومرونة محدودة، مما يدفع كثيرات إلى الانسحاب من العمل أو تأجيل قرار الإنجاب.

وتبين هذه المعادلة أن غياب الدعم المؤسسي للأم العاملة يضعها أمام خيار صعب بين الاستمرار المهني وتكوين الأسرة، مما يفسر تزامن اتساع فجوة العمل مع انخفاض معدل الخصوبة في كوريا الجنوبية إلى 0.72 ولادة لكل امرأة عام 2023، وهو الأدنى عالمياً، بحسب البنك الدولي.

سياسات داعمة للتوازن

في مواجهة تراجع معدلات الخصوبة واتساع فجوة العمل بين الجنسين، تتجه الحكومات إلى تبني سياسات داعمة للتوازن بين العمل والأسرة، كما هي الحال في السعودية وتجارب دولية أخرى.

ففي كوريا الجنوبية، وسعت الحكومة نطاق سياسات مثل إجازة الوالدين بوصفها أداة لمعالجة هذين التحديين، وحولت الإصلاحات الأخيرة نظام الإعانات المنخفضة والثابتة إلى نموذج أكثر سخاء قائم على الأجور، مع سقوف أعلى للتعويضات، في تصميم بات أقرب إلى النماذج الأوروبية.

وفي السعودية، تأتي التسهيلات الحكومية ضمن هذا الإطار، إذ أنشأت المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية (GOSI) منتجاً تحت مسمى "منفعة الأمومة"، يتيح للأم الحصول على تعويض يعادل 100 في المئة من متوسط راتبها الشهري، ويصرف خلال فترة إجازة الأمومة، في خطوة تهدف إلى تقليل الأثر المالي لفترة الانقطاع الموقت عن العمل ودعم استقرار الأم العاملة مهنياً.

وعلى رغم ما تواجهه هذه السياسات من انتقادات تشكك في فاعليتها، فإن تقييم أثرها الحقيقي يظل معقداً، نظراً إلى صعوبة تقدير ما كان يمكن أن يحدث في غيابها.

ويبقى تعاون جهة العمل نفسها عاملاً حاسماً في إنجاح أية سياسة تهدف إلى دعم التوازن بين متطلبات العمل والحياة الأسرية.

وفي هذا السياق، توضح تقارير صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA) أن تراجع معدلات الخصوبة لا يرتبط بعمل المرأة بحد ذاته، بل بغياب أو ضعف السياسات الداعمة للأمومة داخل سوق العمل، وتشير إلى أن عدم توافق بيئات العمل مع مسؤوليات الرعاية مثل محدودية إجازات الوالدين وضعف المرونة الوظيفية ونقص خدمات رعاية الأطفال الميسورة، يدفع عدداً من النساء إلى تأجيل الإنجاب أو تقليصه.

ويؤكد الصندوق أن تمكين المرأة اقتصادياً لا يتعارض مع تكوين الأسرة، متى ما رافقته سياسات عامة ومؤسسية تحمي الاستمرارية المهنية بعد الأمومة، وتتيح الجمع بين العمل والحياة الأسرية من دون كلفة مهنية طويلة الأمد.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير