ملخص
يكشف عجز مجلس الأمن عن وقف المجاعة والحرب في غزة عن أن النظام الدولي القائم، المبني على حق النقض ومصالح القوى الكبرى، لم يعُد صالحاً لتحقيق العدالة أو حماية الإنسانية، مما يستدعي إصلاحاً جذرياً يتجاوز الحلول السطحية.
عندما عقد "مجلس الأمن الدولي" التابع للأمم المتحدة، شكل الحدث لحظة استثنائية. فقد أقر جميع أعضائه - باستثناء الولايات المتحدة - بأن المجاعة في غزة هي كارثة من صنيع الإنسان. وفي مبادرة نادرة من نوعها، طالبت 14 دولة عضواً في المجلس من أصل 15، بوقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار والإفراج عن جميع الرهائن الإسرائيليين ورفع القيود المفروضة على إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
كان يمكن لهذا الحدث أن يشكل منعطفاً تاريخياً في النظام العالمي، لكنه شكل بدلاً من ذلك تذكيراً قاسياً بمدى اختلال هذا النظام، بحيث أن أعلى هيئة معنية بالسلام والأمن في العالم - حتى عندما تتحدث بصوت واحد - تظل عاجزة عن تحقيقهما، ما دامت دولة واحدة تحمي دولة أخرى من المحاسبة.
وقد عانت غزة على مدى عامين تقريباً تدميراً واسع النطاق وصفه بعض المؤرخين والباحثين القانونيين بأنه "إبادة جماعية". فأبيدت عائلات بأكملها وقصفت مستشفيات وترك أطفال يتضورون جوعاً. وهذا الوضع مستمر بلا أفق، ليس لأن العالم يفتقر إلى الوعي أو إلى الآليات القانونية اللازمة لوضع حد له، بل لأن النظام الدولي مصمم على أساس أن القوة تتغلب دائماً على الأخلاق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن المعلوم أن "مجلس الأمن" الذي يهيمن عليه خمسة أعضاء دائمون يتمتعون بالحق في نقض أي مشروع قرار يطرح على التصويت فيه - هو من مخلفات نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو نظام لم يعُد يعكس الواقع الذي يعيشه العالم اليوم. فقد صمم سابقاً لحماية مصالح المنتصرين، لا المصلحة العامة للبشرية. وهكذا، حتى عندما تتكشف فظائع، ويكون القانون واضحاً والمعاناة لا تقبل الجدل، يمكن أن يجري إسكات مجلس الأمن بفعل الحسابات والمصالح السياسية لعاصمة واحدة.
إن غزة ليست المثال الأول على هذا الشلل الذي يصيب "مجلس الأمن"، لكنها قد تكون بلا شك، المثال الأوضح والأكثر وحشية. فالقانون الدولي يحظر استخدام التجويع كسلاح حرب، ومع ذلك يقف المجلس عاجزاً عن إنفاذه. ويطالب القانون الدولي في المقابل بحماية المدنيين والمستشفيات أثناء الصراعات، ومع ذلك يعجز المجلس عن الوفاء به.
إضافة إلى ذلك، تظاهر ملايين الأفراد في مختلف أنحاء العالم، وأعربت حكومات عدة عن رأيها في ما يحصل، ورفع المجتمع المدني الصوت مراراً وتكراراً. وعلى رغم أن كل دولة تقريباً ممثلة في "مجلس الأمن"، تدرك مدى إلحاح الوضع القائم في غزة، لا يزال الجمود مستمراً في ما يتعلق بوقف ما يجري.
هذا الواقع يكشف عن حقيقة قاسية، مفادها بأن النظام العالمي لم يُبنَ لتحقيق العدالة، بل لحماية مصالح الأقوياء. فإذا كان في استطاعة الولايات المتحدة منع محاسبة إسرائيل، من خلال استخدام حقها في الـ"فيتو" في "مجلس الأمن"، فإن بإمكان روسيا هي الأخرى استخدام هذه الميزة لحماية نفسها من المحاسبة في كل من سوريا وأوكرانيا، ويمكن للصين أن تفعل الشيء نفسه في أماكن أخرى من العالم. وعلى هذا النحو، تصبح الفظائع عملة مساومة في لعبة السياسة العالمية، ويعاقب الضحايا الذين يعانون، ليس بسبب أفعالهم، بل بسبب التحالفات التي تقيمها الدولة التي تضطهدهم.
لم يعُد بإمكاننا التظاهر بأن إصلاحات صغيرة ستحل هذه المشكلة وتغير الوضع. إن سلطة حق النقض في "مجلس الأمن"، ليست مجرد عقبة، بل هي سلاح يبقي الظلم قائماً في العالم. وما دام بإمكان دولة واحدة أن تتجاوز إرادة المجتمع الدولي وتعرقلها، فلن يُحاسب أبداً الأقوياء على جرائمهم. والمطلوب ليس مجرد إصلاحات سطحية، بل إعادة تصور شاملة لطريقة استجابة العالم للأزمات والتعامل معها. نحن بحاجة إلى آليات ترفع الإنسانية فوق سلطة الهيمنة، وتضع القانون الدولي فوق التحالفات السياسية، والفظائع قبل أي تفاوض، ولا تجعلها ورقة مساومة.
من هنا إن دعوة "مجلس الأمن" إلى وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة تعد موضع ترحيب، لكنها تأتي بعد نحو عامين من التأخير - بعد فقدان عشرات آلاف الأرواح وضياع أجيال بأكملها.
ليست غزة وحدها من تنشد وقفاً لإطلاق النار، بل إن العالم بأسره بحاجة إلى وقف التنازع مع الماضي، ومع هرم سلطة يعود لقرن من الزمن قد ولى، وتسبب بمعاناة هائلة لنا وكلفنا كثيراً في هذا القرن. عندها فقط يمكننا أن نشرع في إعادة بناء نظام دولي يحقق الهدف الأساس الذي وجد من أجله، وهو: حماية الإنسانية.
© The Independent