ملخص
على رغم أن إثبات الإبادة في غزة يبدو للوهلة الأولى بديهيياً إلا أن الأمر عسير قانونياً
تعرف اتفاقات جنيف، في 1941، الإبادة باجتماع ثلاثة أفعال جرمية مادية، ونية القضاء على جماعة محددة، وقطع دابرها. ولا نقاش فعلاً في استيفاء غزة الشرط الأول (الأفعال الجرمية المادية)، بينما يناقش أهل القانون حقيقة الشرط الثاني واستيفائه. وحسماً للجدل رفعت دولة جنوب أفريقيا دعوى أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي. تناول المراسل كريستوف عياد في "لوموند" الفرنسية في الـ15 من يوليو (تموز) الجاري مسألة الإبادة في غزة والجانب القانوني من الخلاف حول تحديدها وتشخيصها. وخلاصة ما جاء في تقريره أن المؤرخين، عاجلاً أم آجلاً، سيدلون برأيهم في القضية. وفي الأثناء، يختلف الحقوقيون، وكلهم يدلي برأيه، ويكتب مطالعته. ويشير إلى أن تداول الأمر كان جارياً قبل أن يطرحه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، على رؤوس الأشهاد، في مقابلة تلفزيونية مع "تلفزيون فرنسا"، القناة الأولى، وقال إن البت في صفة حوادث غزة يقع على عاتق المؤرخين، حين يحين الوقت، وليس على عاتق السياسيين.
ويغفل جواب الرئيس الفرنسي أن دعاوى كثيرة يدرسها القضاء، منذ اليوم، بعضها ينظر القضاء الفرنسي فيه، وبعض آخر، تنظر فيه المحاكم الدولية. ورفعت دعاوى من نمط ثالث، تطلب النظر في "الحض على الإبادة"، أو في "الشراكة في الإبادة". ويقتضي بتها حكماً في الأصل، أي في الواقعة الأم.
وتعود المقاضاة الأولى إلى الـ13 من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، غداة "أكتوبر"، عملية "حماس" وفاتحة الحوادث التي جمعت تحت اسم "حرب غزة". وأول من استعمل اللفظة هو المؤرخ الإسرائيلي راز سيغال، المقيم في الولايات المتحدة، في الموقع الإلكتروني "جويش كورانتس".
ويرى أنصار القضية الفلسطينية أن كبار المسؤولين في الدولة العبرية أدلوا بأقوال تبدد كل شك في نيتهم استئصال عدوهم. ومنذ 29/12/2025، طلبت دولة جنوب أفريقيا من محكمة العدل الدولية إجراءات تتحفظ عن الدولة العبرية، وتدينها بانتهاك بنود اتفاقات جنيف التي تنص على التوخي من الإبادة وقمع ارتكابها في قطاع غزة. أي أن جنوب أفريقيا ترفع شكوى ضد إسرائيل، وتتهمها بالجريمة، وتطالب المحكمة باتخاذ إجراءات وقائية.
وفي الأسابيع التالية، وافت دول أخرى كثيرة دعوى الدولة الأفريقية. وقاضت نيكاراغوا، في الـ30 من أبريل (نيسان) الماضي، ألمانيا بتهمة "التواطؤ المحتمل والمعقول" مع عمل إبادة، جراء إمدادها إسرائيل بالسلاح، في انتظار الحكم المبرم في الأصل.
استئناف المساعدة الإنسانية
في الـ26 من يناير (كانون الثاني) الماضي أصدرت المحكمة، حكمها الأول. وكان وقعه مدوياً. فلم يسبق أن زكى حكم فكرة جواز حصول إبادة في أثناء النزاع، وقبل أن ينجلي عن وقائعه كلها. ورأت المحكمة أن بعض أفعال إسرائيل في غزة، وبعض ما لا تفعله وتحل نفسها من فعله، وما تأخذه جنوب أفريقيا عليها، قد يدخل في باب توقعات
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اتفاقات 1948. فعلى دولة إسرائيل، بهذه الحال، بموجب إلزامات الاتفاقات هذه، اتخاذ كل الإجراءات المترتبة عليها في سبيل تجنب ارتكاب الأفعال التي تنهى عنها المادة الثانية من الاتفاقات، في حق الفلسطينيين في غزة.
وعلى إسرائيل استباق التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة، ومعاقبة الأفراد الذين يحرضون على إيذاء الفلسطينيين في غزة وقتلهم. وعليها، على وجه السرعة، اتخاذ إجراءات فعلية تتيح تجهيز الخدمات الأساسية والمعونة الإنسانية التي يحتاج إليها الفلسطينيون، ومعالجة الظروف القاسية التي يعانونها في غزة. وصدرت مذكرتان أخريان في الـ28 من مارس (آذار) والـ24 من مايو (أيار) 2024. أمرت الأولى إسرائيل بتفعيل الخدمات الأساسية، والثانية أمرتها بوقف الهجوم على منطقة رفح.
مسألتان خلافيتان
ويمضي عياد في تقريره فيعرض مضموض المدونات القانونية: المذكرة الأولى، تنوه المحكمة بالمادة الثانية من اتفاقات 1948، وموضوعها استباق الإبادة. وفي هذا الباب، يعدد النص الأفعال التي ترتكب بقصد "تدمير جماعة وطنية، أو إثنية، أو عرقية، أو اجتماعية، أو دينية - بما هي هذه الجماعة - تدميراً جزئياً أو كلياً، والاقتصار على قصد تدمير عنصر واحد من العناصر الخمسة التالية يكفي لتقرير مادية الإبادة:
أ) اغتيال أعضاء في الجماعة.
ب) اتخاذ إجراءات ترمي إلى عرقلة الولادات في صفوف الجماعة.
ج) انتهاك سلامة أفراد الجماعة الصحية الجسمانية والعقلية على نحو خطر.
ه) إجبار الجماعة عمداً على العيش في ظروف يترتب عليها تدميرها كلياً أو جزئياً.
و) نقل الأطفال قسراً من جماعة إلى جماعة.
ويجمع المراقبون على أن نقل الأطفال قسراً لم يحدث في غزة، على خلاف عرقلة الولادات وإجبار الجماعة عمداً على العيش في ظروف يترتب عليها تدميرها.
وفي شأن المسألة هذه، ترى أستاذة الحق الدولي العام في جامعة باريس- ساكليه، رافائيل ميزون، أن تدمير بنى الصحة التحتية تدميراً كاملاً، وحظر دخول السلع التي تسد الحاجات الأولية إلى غزة مثل الغذاء، وتدمير شبكة المياه والري، وهذه كلها تدخل في باب الأمور التي تحصيها المادة الثانية. وهي تجسيد مثالي لبنودها.
فعلان لا ينكران
وتلاحظ أستاذة الحق الدولي العام في جامعة ليل، فورييل عبيدة- سيار، أن تقرير العدالة أفعالاً جرمية لا يكفي، ولا يقوم مقام ما تنص عليه المادة 2- ج في اتفاقات 1948 وتشترطه من إقامة الدليل على أن الأفعال الجرمية "قصدية". وعليه، يقتضي حمل أفعال السلطات الإسرائيلية على انتهاك المادة تلك، إثبات قصديتها، ونية السلطات، من ارتكابها، تدمير جماعة الفلسطينيين تدميراً مادياً أو جسدياً كلياً أو جزئياً. وينبغي أن يثبت على وجه قطعي أن التدمير يعود إلى السلطات الإسرائيلية وحدها وليس إلى "حماس"، وأن يكون الجزء المدمر على قدر من الأهمية.
وتغذي هذه المسألة جدلاً حاداً، بينما لا يثير بندا اغتيال أفراد من الجماعة، وانتهاك سلامة الجماعة الجسدية (المادية) والمعنوية، اعتراضاً جدياً.
وقياساً على عدد القتلى في غزة، وهم 57 ألفاً في الـ12 من يوليو الجاري بحسب إحصاء وزارة الصحة في القطاع، أي ما نسبته 2.7 في المئة من السكان، وقياساً على طبيعة الأفعال المرتكبة- اغتيالات، انتهاكات خطرة في حق سلامة الفلسطينيين، فرض ظروف حياة مدمرة...- يملأ الرقم الشرط الذي ينص على أهمية الجزء المدمر.
مفهوم النية
ويعود اشتراك النية أو القصد إلى اتفاقات 1948 التي أضافت المفهوم إلى تعريف رافائيل ليمكين، صاحب مفهوم "الإبادة" القانوني، في 1944. ويدور معظم جدل اليوم على معنى النية وطرق التماسها وإثباتها. وفي حال إسرائيل، لا غموض ولا لبس في ما يقوله مسؤولوها، على ما تلاحظ رافاييل ميزون.
إنذار أخير
في أكتوبر 2023، صرح أبرز قادة الدولة العبرية، رئيس الدولة إسحاق هرتزوغ، ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، في خطبتين ذائعتين أن مصير فلسطينيي غزة لن يختلف عن مصير العماليق على يد العبرانيين في القصص التوراتي- والعماليق في القصص هذا شعب بدوي هاجم العبرانيين من غير سبب وجازاه العبرانيون باستئصاله، نزولاً على أمر إلههم. ووصف وزير الدفاع الغزيين بـ"الحيوانات البشرية"، وغالباً ما مهد إنكار الصفة الإنسانية عن قوم من الأقوام لإبادة هذا القوم، على ما حصل في رواندا. وكتب الوزير نفسه على "إكس" "إنذاراً أخيراً" يدعو الفلسطينيين إلى العمل بنصيحة دونالد ترمب والهجرة الطوعية من أرضهم، وإلا كان جزاؤهم، إن لم يهاجروا، الدمار الكامل.
للإيضاح
وعلى خلاف بعض زملائه، يبدو الأستاذ المحاضر في جامعة باريس- ساكليه، المتخصص في الشأن القانوني لدى محاكم جزائية دولية، يان جيروفيكس، أقل جزماً. فهو ينبه إلى عدد من المسائل المعلقة إلى الآن، وأولاها مسألة النية، فهو لا يرى أن التصريحات تقوم مقام الأوامر الرسمية المكتوبة والملزمة. ويشدد على العبارة التي تربط نية الإبادة بوجود الجماعة المقصودة "بما هي هذه الجماعة"، أي بمجرد وجودها وهويتها أو صفتها، وبمعزل من أفعالها وظروف هذه الأفعال وملابساتها.
ويشدد بعض الحقوقيين على شرط وجود "خطة مدبرة". وتفترض الخطة، بحسب يان جيروفيكس "قراراً إدارياً" يترجم السياسة الجرمية إلى سياسة إبادة، على نحو الدور الذي أدته "ندوة فانسي" في "الحل النهائي" النازي للمسألة اليهودية، وإنشاء غرف الغاز التي نزلت من الإبادة منزلة القلب. ويرد حقوقيون آخرون، منهم رفاييل ميزون، بالقول إن الخطة أو القرار الإداري ليسا شرطاً لازماً. فالحل النهائي لم يبدأ مع غرف الغاز، بل كانت هذه حلقة لاحقة من عمليات بدأت قبل سنة وبعض السنة من "ندوة فانسي".
قيد التحقيق
وإلى اليوم، أقرت المحاكم صفة الإبادة في ثلاث قضايا: مجزرة التوتسي في 1994، ومقتل 8 آلاف مسلم في سريبرينيتسا بالبوسنة، في 1995، وإبادة الأقليات القومية (وليس المعارضين السياسيين) على يد الخمير الحمر في كمبوديا. والقضايا الثلاث نظرت فيها محاكمة استثنائية. وعدا غزة، تحقق محكمة العدل في شكوى غامبيا على ميانمار لارتكابها مجزرة في حق روهينغا ميانمار المسلمين.
وتفضل أستاذة الحق الدولي في جامعة باريس- سيتيه، مونيك شوميلييه- جاندرو، تناول المسألة من منظور مختلف. فهي تشدد على أن اتفاقات 1948 تقدم إجراءات "الوقاية" على المسائل الأخرى مثل التعريف: "ليست المسألة القول إن هذا إبادة أو هذا ليس إبادة، بل التنبيه، على ما فعلت محكمة العدل (في قضية غزة)، إلى القرائن على إمكان وقوع الإبادة"، وطرق تجنبها.
ويرفض فيليب ساندز "تصنيم" اللفظة (الإبادة). فجريمة الحرب ليست أقل فظاعة من الإبادة، ويحذو حذوه المحامي يوهان سوفي: جريمة الاضطهاد في حق الإنسانية لا تبعد من الإبادة، من حيث القصد ومن حيث المفاعيل المترتبة عليها. وأصدر مدعي عام محكمة الجزاء، كريم خان، مذكرتي توقيف في حق بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، بناءً على هاتين التهمتين، ارتكاب "جرائم حرب" (التجويع) و"جرائم في حق الإنسانية" (قتل واضطهاد وأفعال غير إنسانية أخرى).
وخلاصة القول إن الجدل حول حكم الإبادة مستمر وإثبات نية الإبادة عسير من دون إثبات القصدية. ولكن في المستطاع قانونياً إدانة "جرائم الحرب".