ملخص
من بين الوثائق السرية، تبرز برقية صادرة عن السفارة البريطانية لدى تونس موجهة إلى مرجعيتها في لندن، بتاريخ الـ15 من مارس (آذار) 1991. تتناول البرقية رسائل دعم إيجابية وصلت إلى ياسر عرفات من الملك فهد والرئيس مبارك، والتي أعادت الأمل للقيادة الفلسطينية بعد تداعيات أزمة الكويت، في خطوة أسست نحو إعادة بناء العلاقات العربية والدبلوماسية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
بعد صدى حرب الخليج الثانية، وجدت منظمة التحرير الفلسطينية نفسها في قلب عاصفة سياسية لم تشهدها من قبل، إذ قاد اغتيال صلاح خلف المعروف بأبو إياد، وهو عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح"، إلى اشتعال التوتر بين الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ومعاونيه، فيما تولى كل من محمود عباس أبو مازن وفاروق القدومي وكلاهما قيادة في المنظمة، إدارة الملفات الحساسة، ليعكس في النهاية مشهداً داخلياً معقداً داخل المنظمة.
ومن توتر العلاقات مع الدول العربية إلى الأخطار الأمنية التي تهدد المدنيين، تكشف برقيات بريطانية سرية كيف حاولت القيادة الفلسطينية استعادة دورها وسط ضغوط داخلية وخارجية هائلة. وضمن هذا التقرير، نستعرض خفايا التحركات والصراعات والمناورات التي أرست ملامح مرحلة حاسمة في تاريخ المنظمة، لا سيما من خلال تلك البرقية الصادرة من السفارة البريطانية لدى روما خلال الـ28 من يناير (كانون الثاني) 1991، والموقعة من جي. أم. مودي، والتي كشفت تفاصيل خطة إيطالية لانسحاب القوات العراقية من الكويت، مع دور أبو إياد كوسيط رئيس لتنفيذ هذه المبادرة.
هل دفع "أبو إياد" حياته ثمناً لمحاولة الوساطة مع العراق؟
مع اندلاع حرب الخليج خلال يناير 1991، كانت الأنظار متجهة إلى المواقف الإقليمية والدولية من اجتياح العراق للكويت. وفي هذا السياق المشتعل، وردت تقارير من السفارة البريطانية لدى روما تكشف جانباً غامضاً من الأيام الأخيرة في حياة صلاح خلف (أبو إياد)، الرجل الثاني في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية.
وفي جلسة لمجلس النواب الإيطالي خلال الـ16 من يناير 1991، أعلن الزعيم التاريخي للحزب الاشتراكي الإيطالي ورئيس الوزراء السابق بيتينو كراكسي أن أبو إياد كان استقبل قبل ساعات من اغتياله في تونس، السفير الإيطالي هناك كلاوديو مورينو حاملاً رسالة من روما. وتضمنت الرسالة، وفق رواية كراكسي، مقترحات لمبادرة سلام تدعو منظمة التحرير الفلسطينية إلى مطالبة صدام حسين بسحب قواته من الكويت.
وبحسب كراكسي، فإن أبو إياد رحب بالمبادرة وأبدى استعداده لإطلاق اتصالات عاجلة في شأنها، غير أن اغتياله المفاجئ بعد ذلك مباشرة أثار تساؤلات، هل كان الرجل بدأ بالفعل في لعب دور يمكن أن يغير مسار الأحداث؟ وهل كان لمبادرته المزعومة ثمن دفعه بحياته؟
كراكسي لم يتردد في الربط بين المبادرة واغتيال أبو إياد، قائلاً إن الأخير أدرك أهمية الدور الفلسطيني في الدفع نحو التسوية، وإن "أعداءه وأعداء السلام" سارعوا إلى التخلص منه، لكن الوثيقة البريطانية تلفت الانتباه إلى الغموض في حديث كراكسي متسائلاً، من هم هؤلاء الأعداء؟ هل كانوا الإسرائيليين، أم خصوماً فلسطينيين متطرفين مثل جماعة أبو نضال (نسبة إلى القيادي الفلسطيني صبري خليل البنا)؟ أم أن كراكسي نفسه لم يكن يعرف الإجابة الكاملة؟
الأكثر إثارة أن وزارة الخارجية الإيطالية أنكرت رسمياً علمها بأية مبادرة من هذا النوع، مما فتح احتمال أن يكون السفير مورينو تحرك بتعليمات مباشرة من كراكسي نفسه، الذي كان يسعى ربما لتقديم مبادرة شخصية أخيرة قبل أن يعلن تأييده، في النهاية، لانضمام إيطاليا إلى التحالف العسكري الدولي استناداً لقرار مجلس الأمن 678، الخاص بتحرير الكويت.
وتختتم الوثيقة البريطانية بطرح سؤال بقي معلقاً، هل لعبت هذه المبادرة غير المعلنة دوراً مباشراً في تصفية أبو إياد؟ أم إن الاغتيال كان نتيجة حسابات فلسطينية داخلية جرى تنفيذها على نحو بدا متزامناً مع اللحظة الحرجة للحرب؟ السفير البريطاني نفسه بدا متشككاً في إمكانية أن تكون المبادرة تسببت بمفردها في التحريض على القتل خلال ساعات معدودة. وترك الأمر "لخبراء التاريخ" ليبتوا فيه.
اغتيالات سياسية وتحولات في صفوف الفلسطينيين
وعلى رغم وجود شكوك حول تورط الموساد الإسرائيلي في عملية اغتيال أبو إياد داخل تونس، واعتبار بعض الحادثة تصفيات فلسطينية داخلية، أشارت أصابع الاتهام إلى منظمة أبو نضال بقيادة صبري خليل البنا (أبو نضال)، مؤسس المجلس الثوري في حركة "فتح" والجماعة المسلحة الفلسطينية المنشقة المعروفة أيضاً باسم منظمة أبو نضال (ANO).
فبعد حرب الخليج الثانية سعى أبو نضال لكسب ود نظام صدام حسين، واتهم خلال يناير 1991 باغتيال قياديي منظمة التحرير الفلسطينية، صلاح خلف (أبو إياد) وهايل عبدالحميد (أبو الهول) داخل تونس، في حادثة شكلت نقطة تحول في الصراع الداخلي الفلسطيني.
اغتيل أبو نضال داخل بغداد خلال الـ19 من أغسطس (آب) 2002، وأعلنت السلطات العراقية أنه وجد صريعاً في شقته بعدما أطلق على نفسه رصاصة اخترقت فمه وخرجت من مؤخرة رأسه، في حادثة وصفتها السلطات بـ"الانتحار".
وخلال السابع من فبراير (شباط) 1991 وبعد أسابيع قليلة من اندلاع حرب الخليج الثانية، وردت برقية سرية من قسم البحث والتحليل الدولي في وزارة الخارجية البريطانية، موقعة من الباحث جيه. هانكوك. الوثيقة جاءت في سياق قلق غربي متزايد من احتمال أن تستغل منظمة أبو نضال حال الحرب لشن هجمات جديدة ضد أهداف مرتبطة بدول التحالف.
البرقية تناولت تحديداً سؤالاً طرح داخل الخارجية البريطانية، هل اعتادت منظمة أبو نضال استهداف الأطفال عمداً؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وجاء الجواب مشوباً بالتحفظ، إذ أظهر سجل العمليات أن الجماعة لم تجعل الأطفال "هدفاً مفضلاً" بذاته، لكن وجودهم لم يمثل رادعاً لها في أية عملية.
واستشهد بحادثة عام 1980 حين أطلق أحد عناصر المنظمة، ناصر سعيد، النار على مجموعة أطفال يهود أمام كنيس داخل مدينة أنتويربن البلجيكية، مما أسفر عن مقتل طفل. ثم جرى التذكير بهجوم مطار روما خلال ديسمبر (كانون الأول) 1985 الذي أودى بحياة طفل أميركي، وكذلك عملية اقتحام فندق الأكروبول في الخرطوم، حيث قُتل أطفال بريطانيون بين الضحايا.
وخلص تحليل الخارجية البريطانية إلى نتيجة واضحة، مفادها أن المنظمة لا تكترث بوجود الأطفال بين الضحايا، وإن توافرت فرصة للهجوم على هدف "لين" مثل مدرسة أو حافلة مدرسية فلن يستبعد ذلك. ومن ثم، عدت هذه المرافق ضمن قائمة الأهداف "المحتملة" في حسابات أمن الحلفاء.
لكن البرقية أوضحت أيضاً أن سلوك المنظمة في لحظة حرب الخليج يرجح أن يتجه إلى أهداف رمزية عالية القيمة، موظفين في السفارات، منشآت عسكرية، أو مقار شركات الطيران الوطنية، أكثر من استهداف أطفال بحد ذاتهم. ومع ذلك ظل التحذير قائماً، لا حصانة لأي مكان مدني، ولا ضمان أن يبقى الأطفال خارج دائرة النار.
رسائل الملك فهد والرئيس مبارك تعيد الأمل لعرفات
ومن بين الوثائق السرية، تبرز برقية صادرة عن السفارة البريطانية لدى تونس موجهة إلى مرجعيتها في لندن، بتاريخ الـ15 من مارس (آذار) 1991. تتناول البرقية رسائل دعم إيجابية وصلت إلى ياسر عرفات من الملك فهد والرئيس مبارك، والتي أعادت الأمل للقيادة الفلسطينية بعد تداعيات أزمة الكويت، في خطوة أساس نحو إعادة بناء العلاقات العربية والدبلوماسية للمنظمة.
خلال الـ15 من مارس 1991، وبعد أسابيع من توقف عمليات التحالف الدولي ضد العراق، صدرت برقية دبلوماسية من تونس باتجاه عواصم كبرى، واشنطن والرياض والقاهرة وباريس وموسكو ولندن ونيويورك. حملت البرقية خلاصة نقاشات داخل أروقة منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت تعيش واحدة من أعقد لحظاتها منذ تأسيسها.
وكان واضحاً أن الانقسام الداخلي بلغ مستويات غير مسبوقة، فبعد الرهان على الرئيس العراقي الراحل صدام حسين خلال غزو الكويت، وجدت القيادة الفلسطينية نفسها في مواجهة انعزال عربي ونقمة دولية وخسارة مالية خانقة. ووسط هذه الأزمة، راجت أحاديث عن تغييرات محتملة في الصف القيادي، وإن لم يكن من المتوقع أن تطاول ياسر عرفات شخصياً.
من بين الشخصيات التي برزت آنذاك المستشار السياسي لعرفات، بسام أبو شريف، والذي ظهر كأحد الأصوات الدافعة نحو إعادة التموضع. فقد كشف عن رسائل بعثها حتى إلى طارق عزيز قبل اجتماعه مع وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر في جنيف، محذراً من مغبة الاستمرار في تحدي واشنطن، وداعياً للبحث عن صفقة سياسية، إلا أن تصريحات بسام في بغداد لم ترض القيادة العراقية، وهو نفسه اعترف بخشيته من الانتقام.
على مستوى العلاقات العربية، أشارت البرقية إلى بوادر انفتاح جديد عبر رسائل وصلت إلى عرفات من العاهل السعودي الملك فهد بن عبدالعزيز والرئيس المصري محمد حسني مبارك، تضمنت نبرة نقدية لكنها حملت أيضاً إشارات إيجابية بأن منظمة التحرير ما زالت "لا غنى عنها". وعليه، بدأت الأموال السعودية تتدفق مجدداً، ورتبت لقاءات في لندن مع شخصيات سعودية وكويتية. ومع ذلك، ظلت سوريا العقبة الكبرى في مسار المصالحة.
في المقابل ظل الغرب وبخاصة بريطانيا حذرين، وتجلى ذلك في ما أوصت به البرقية من عدم استقبال رسمي لبسام أبو شريف في لندن خشية سوء التأويل الإعلامي. لكن جرى التشديد على أهمية إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة، وتشجيع الفلسطينيين على إعادة بناء جسور مع الصحافة والبرلمانيين البريطانيين، بعدما أضرت مواقف منظمة التحرير بصدقيتها خلال أزمة الكويت.
أما عرفات نفسه، فصورته البرقية منشغلاً بمعاناة الفلسطينيين في "الأراضي المحتلة" والكويت، إذ وردت أنباء عن أعمال انتقامية ضدهم. وعبر عن خيبة أمل من سوء فهم الغرب لجهوده المتعلقة بالرهائن والحلول السلمية، فيما كان مستشاروه يحثونه على تجاوز الماضي والاستعداد لدور في المفاوضات المقبلة. لكن الانطباع العام الذي نقلته البرقية أن الزعيم الفلسطيني بدا متعباً، في موقع دفاعي أكثر منه هجومي.
أبو مازن والقدومي يتقاسمان الدبلوماسية… وعرفات معزول
وتشير وثيقة أخرى صادرة عن السفارة البريطانية لدى تونس وموجهة إلى مرجعيتها في لندن، بتاريخ السابع من يوليو (تموز) 1991 إلى حال الغموض والتشظي داخل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، بعد أشهر قليلة من اغتيال صلاح خلف (أبو إياد) والزلزال السياسي الذي أحدثته حرب الخليج، مما أبرز التحديات الداخلية الكبيرة التي واجهت المنظمة في تلك المرحلة الحرجة. وتصور الوثيقة عرفات في صورة متوترة، غاضب، متجهم، ومعزول. وعلى رغم شعبيته بين قواعده، بدت سلطته في أدنى مستوياتها، وبخاصة بعد رفض مصر ودول الخليج استقباله. وكان الفراغ الأمني الناتج من اغتيال أبو إياد واضحاً، ورشح أبو مازن لتولي قيادة المنظمة لكنه رفض، مشيراً إلى انشغاله بالمسار الدبلوماسي.
خلال السابع من يوليو 1991 بعثت السفارة البريطانية لدى تونس برقية سرية إلى وزارة الخارجية في لندن، تناولت الوضع الداخلي الهش داخل منظمة التحرير الفلسطينية. الرسالة حملت عنواناً كاشفاً "منظمة التحرير الفلسطينية، من هو؟"، في إشارة إلى حال الغموض والتشظي التي كانت تعصف بالقيادة بعد أشهر قليلة من اغتيال صلاح خلف (أبو إياد) والزلزال السياسي الذي أحدثته حرب الخليج.
أحد أبرز مصادر البرقية كان محمود عباس (أبو مازن) الذي وُصف بأنه العقل الأكثر دهاءً ورجاحة في الصف القيادي الفلسطيني، وإن كان يفتقر إلى الثقل السياسي والشعبية التي يتمتع بها آخرون. وفق روايته، كان الملف الدبلوماسي يتوزع بينه وفاروق القدومي: الأول يتولى المفاوضات مع مصر والأردن والاتحاد السوفياتي والمعارضة الإسرائيلية، بينما يحتفظ الثاني بحضور علني أوسع وصلات مباشرة مع سوريا. لكن العلاقة مع دمشق لم تكن سهلة، فالسوريون اتهموا بالكذب والازدواجية في مواقفهم من عملية السلام ولبنان.
الفراغ الأمني الذي تركه اغتيال أبو إياد كان واضحاً. ورشح أبو مازن لتولي قيادة المنظمة، لكنه رفض بحجة انشغاله بالمسار الدبلوماسي. فبقيت المسؤوليات الأمنية في يد اللواء البلوي بصورة موقتة.
الوثيقة تعكس أيضاً صورة متوترة عن عرفات غاضب ومتجهم ويزداد عزلة. وعلى رغم شعبيته بين قواعده، فإن سلطته بدت في أدنى مستوياتها، خصوصاً بعدما رفضت مصر ودول الخليج استقباله، خلال وقت كان الأردن يضع قيوداً أمنية تحول دون زيارته عمان.
المفارقة أن بعض المقربين مثل خالد الحسن وبسام أبو شريف طرحوا فكرة "منظمة تحرير جديدة"، زاعمين أن الهدف منها هو دعم عرفات وإعادة العلاقات مع الخليج. لكن كثراً فسروا ذلك كمؤشر إضافي على الانقسام الداخلي. والأدهى أن مسؤولين أصغر في المنظمة بدأوا يجاهرون بانتقاداتهم العلنية لعرفات، في سابقة خطرة على مكانته.
حتى في الساحة الأوروبية، بدت صورة الارتباك حاضرة. فقد أكد أبو مازن أن الممثل الشرعي الوحيد للمنظمة في لندن هو عفيف صفية، بينما استبعد تماماً أن يكون لبسام أبو شريف صلاحية التحدث باسم القيادة.