ملخص
برقيتان دبلوماسيتان بريطانيتان، إحداهما من الرياض والأخرى من تونس مؤرختان في يناير (كانون الثاني)، كشفت بشكل مفصل، كيف كان ينظر الغرب والسعودية إلى عرفات وقيادته، وكيف كان كبار رجالات منظمة التحرير، أمثال هاني الحسن، يقيمون المأزق القاتل الذي انزلقت إليه الحركة الفلسطينية في خضم عاصفة الخليج العربي؟
في الأسابيع الأولى من عام 1991، كان الشرق الأوسط على صفيح ملتهب. صواريخ "سكود" تنهال من العراق على السعودية وإسرائيل، التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة يشن حرباً شاملة لإخراج قوات الرئيس العراقي صدام حسين من الكويت، والعالم العربي ينقسم بين داعم لبغداد ومؤيد للتحالف. ووسط هذه الفوضى، كانت منظمة التحرير الفلسطينية وزعيمها ياسر عرفات في موقف لا يحسد عليه: متهمون بالاصطفاف مع صدام، فاقدون دعم دول الخليج، ومطاردون بشبح الاغتيالات والانقسامات الداخلية.
برقيتان دبلوماسيتان بريطانيتان، إحداهما من الرياض والأخرى من تونس مؤرختان في يناير (كانون الثاني)، كشفت بشكل مفصل، كيف كان ينظر الغرب والسعودية إلى عرفات وقيادته، وكيف كان كبار رجالات منظمة التحرير، أمثال هاني الحسن، يقيمون المأزق القاتل الذي انزلقت إليه الحركة الفلسطينية في خضم عاصفة الخليج العربي؟
قيادي فلسطيني: عرفات أداة بيد صدام
في برقية سرية تحمل الرقم 160، دوَّن الدبلوماسي البريطاني منرو تفاصيل لقائه مع القيادي الفلسطيني هاني الحسن في العاصمة السعودية. المشهد كان غرائبياً: اجتماع سياسي يعقد في ملجأ محصن بعد لحظات من إنذار صاروخي عراقي. منرو سلم ضيفه قناعاً واقياً من الغاز، من طراز "S10"، "الأكثر فاعلية"، قبل أن يبدأ الحديث عن الانقسامات الفلسطينية والاغتيالات التي هزت منظمة التحرير.
الحسن لم يجنب عرفات من نقد لاذع. اتهمه مباشرة بأنه أصبح "أداة بيد صدام حسين"، تماماً كما يرى الملك حسين في الأردن. بالنسبة إليه، بيان وكالة "وفا" المؤيد للعراق في 17 يناير كان كارثياً، إذ أظهر الفلسطينيين كأنهم يباركون العنف في لحظة كان الغرب يراقب لغتهم من كثب. حتى السعوديون، بحسب الحسن، ضغطوا عليه للتدخل، لكن عرفات رفض التراجع.
أكثر ما شغل الحسن كان اغتيال أبوإياد (صلاح خلف) وأبوالهول (هايل عبدالحميد) قبل أيام في تونس. وعلى رغم أن الحسن أقر بمسؤولية إسرائيل في البداية، لكنه عاد وتراجع "لا يخدمها قتل شخصيتين معتدلتين في هذه اللحظة". بدل ذلك، ألقى باللوم على أبونضال، الذي نفذ العملية "بأوامر من صدام وربما بموافقة عرفات".
بحسب البرقية فقد كانت هناك خلفيات أعمق، إذ أيد أبوإياد في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1990 الحفاظ على قنوات اتصال مع واشنطن والانفصال عن صدام، مما أثار غضب عرفات. كذلك، كانت هناك مبادرة لاستحداث منصب "رئيس وزراء" داخل المنظمة، ربما يتولاه أبوإياد، تحد من سلطات عرفات، ليطرح الحسن سؤال بصراحة حول ما إذا كان عرفات تواطأ في الاغتيال لتأمين بقائه؟
من يخلف عرفات؟ لعبة الأسماء
برقية الرياض تكشف نقاشاً حساساً حول "خلافة عرفات". الحسن قال إن السعودية تفضل شقيقه خالد الحسن (أبوالسعيد) لكنه مريض. كذلك أبواللطف (فاروق القدومي) مرشح محتمل لكنه "يفتقر لقوة شخصية أبوإياد". أما هو نفسه، هاني الحسن، فلم يستبعد أن يطرح اسمه في حال تغيرت المعادلات، لكنه أقر بضرورة "العمل بحذر لبناء قاعدة دعم".
بالتوازي، كان وضع المنظمة المالي يتدهور: الأموال استنزفت، والجزء الأكبر حول لصدام. توقع الحسن أن المنظمة قد "تفلس خلال عام"، مما قد يفتح الباب لإزاحة عرفات، تكشف البرقية البريطانية.
"تهديدات إرهابية" متزايدة
هنا برز أخطر ما في اللقاء: توقع الحسن أن ينفذ متشددون عمليات إرهابية في السعودية "بأوامر من صدام". أسماء مثل أبونضال وأبوالعباس وأبوإبراهيم طرحت بوضوح. الحسن أكد أنه مع "معتدلين آخرين" نجحوا في كبح جماح "القوة 17"، لكن عرفات لم يعد يردع هذه الجماعات. بل كشف عن أن الملك فهد طلب منه شخصياً تزويده بمعلومات عن أي مخططات إرهابية محتملة في السعودية.
أدهش الحسن مضيفه البريطاني حين كشف عن أن صدام حسين تباهى أمامه مطلع يناير (كانون الثاني) بامتلاكه 149 صاروخ "سكود" مخصصة لضرب إسرائيل، وأنه مستعد لاستخدام أسلحة كيماوية. حتى إنه هدد باستهداف القصر الملكي في الرياض إذا تفجرت المواجهة.
رغم ذلك، وصف الحسن هجوم صدام الصاروخي على تل أبيب في 18 يناير (كانون الثاني) بـ"الجنون"، وعد أن ضبط النفس الإسرائيلي حال دون انهيار التحالف الدولي.
البرقية تنقل في نهايتها صورة قاتمة، حيث بدا الحسن "أكثر يأساً من ذي قبل"، يخشى أن تهمش منظمة التحرير "لأعوام طويلة" في نظر الغرب، بعدما أضرت بها بياناتها واغتيالات تونس. حتى إنه ربط الاغتيالات السابقة، مثل مقتل عصام سرطاوي في البرتغال، بأوامر من صدام حسين.
لقاء تونس… عرفات يبرئ نفسه
قبل أيام من برقية الرياض، كتب الدبلوماسي البريطاني في تونس برقية أخرى (رقم 033، بتاريخ 21 يناير 1991) تلخص لقاء استمر 45 دقيقة مع ياسر عرفات شخصياً. إذا كانت برقية الرياض أظهرت غضب وانقسام القادة الفلسطينيين، فإن برقية تونس تكشف تموضع زعيم المنظمة في وضع دفاعي، حذر، وقلق على صورته أكثر من أي شيء آخر.
النقطة الأكثر حساسية في الحوار كانت دعوة البريطانيين لعرفات بأن يعلن علناً رفض الإرهاب. ليرد عرفات بحزم "منظمة التحرير لم ولن تلجأ إلى الإرهاب". لكنه اكتفى بالوعد بأنه سيعلن ذلك لاحقاً. بالنسبة إلى البريطانيين، كان الصمت أخطر من الكلام، لأن الغرب يراقب لغته بدقة. ثم أوضح الدبلوماسي له قائلاً "أنتم تخسرون أصدقاءكم. أي تورط في الإرهاب، كما دعا صدام، سيكون كارثة على القضية الفلسطينية ويعيدها عقوداً للوراء".
الدعوة لوقف الحرب عبر مجلس الأمن
حاول عرفات الظهور بمظهر رجل الدولة. إذ تكشف البرقيات البريطانية أنه طالب بعقد جلسة عاجلة لمجلس الأمن لوقف الحرب و"منح فرصة للسلام". لكنه لم يظهر تعاطفاً كبيراً مع العراق، ولم يهاجم إسرائيل أو الدول العربية المشاركة في التحالف. كان أكثر قلقه منصباً على وضع الأردن والملك حسين.
عندما واجهه الدبلوماسي بأن صدام لم يغز الكويت من أجل الفلسطينيين، بل أضر بهم، أقر ضمناً أن أقرباءه أنفسهم اضطروا إلى الخروج من "حماية العراق" في الكويت.
كما لم يتحدث عرفات مطولاً عن اغتيال أبوإياد ورفاقه، بل اكتفى بجملة مقتضبة "أبونضال مسؤول، والتحقيقات مستمرة". لكنه كشف عن مخاوف شخصية: قال إنه تلقى تحذيرات من واشنطن بأن "الموساد" حصل على ضوء أخضر لاغتياله.
وعندما سئل عن بيان أبوالعباس (قيادي فلسطيني) الداعي لمهاجمة المصالح الأميركية والبريطانية، سارع إلى التبرؤ: "عباس والآخرون شيء مختلف، ليسوا من منظمة التحرير". الدبلوماسي نصحه بإصدار بيان علني يوضح ذلك.
الوثيقة تكشف جانباً إنسانياً غير مألوف، إذ كان عرفات يتابع قناة "CNN" الأميركية باستمرار، ويستخلص منها استنتاجات "مبالغ فيها" حول التظاهرات ضد الحرب "حتى في أميركا". ثم أوضح له الدبلوماسي البريطاني أن تلك مظاهر ديمقراطية طبيعية، وأن الرأي العام الغربي يقف بثبات خلف تحرير الكويت.
"منظمة التحرير على الهامش"
وأمام تلك الوقائع والنقاشات، جاء التعليق البريطاني الختامي في البرقية بارداً: عرفات بدا "محبطاً"، جلسته "فاترة"، وكأن الرجل فقد بريقه. والأهم "مؤشرات من اتصالات أخرى بالمنظمة تشير إلى أنهم أصبحوا مستعدين للبقاء على الهامش وتخلوا عن أوهامهم السابقة بأن صدام سيحل مشكلاتهم".
عند وضع البرقيتين جنباً إلى جنب، تتضح صورة بانورامية: من الداخل: قادة بارزون كـهاني الحسن يهاجمون عرفات علناً، يلمحون إلى تواطئه في اغتيال رفاقه، ويتحدثون عن سيناريوهات لخلافته. يشعرون بالخوف من "الإرهاب" القادم من بغداد، ويحاولون فتح خطوط مع السعودية والغرب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فيما من الخارج يظهر عرفات نفسه مدافعاً عن صورته، ويبرئ نفسه من الإرهاب، ويتحدث عن السلام عبر مجلس الأمن، لكنه محاصر بالشبهات، متردد في مواجهة علنية مع صدام، ويدرك أن المنظمة تفقد أصدقاءها.
عرفات بين المطرقة والسندان
في يناير 1991، كانت منظمة التحرير الفلسطينية تمر بأزمة قيادة غير مسبوقة. فقد وجد ياسر عرفات نفسه في عزلة داخلية، مع فقدان عدد من القادة المعتدلين نتيجة الاغتيالات، وتداول أسماء جديدة حول خلافته. تعكس الوثيقتان الرئيستان اللتان تمثلان تلك الفترة، برقية الرياض وبرقية تونس، شعوراً بالقلق من قبل الغرب ودول الخليج من إمكانية استغلال جماعات مثل أبونضال وأبوالعباس للأوضاع لتنفيذ عمليات "إرهابية" في السعودية أو ضد مصالح غربية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على رغم الشعبية الكبيرة التي كان يتمتع بها عرفات بين الفلسطينيين، تظهر الوثيقتان أنه أصبح معزولاً حتى بين حلفائه، عاجزاً حتى عن تعديل خطاب "وفا"، ويفتقر إلى ثقة الغرب والخليج. وفي الوقت ذاته، بدا أن ضبط النفس الإسرائيلي كان عاملاً حاسماً للحفاظ على التحالف الدولي، إذ كان أي رد عنيف على صواريخ صدام حسين قد يؤدي إلى تفكك هذا التحالف.
وسط هذه التحديات، بدا عرفات عالقاً بين المطرقة والسندان: من جهة، ضغوط صدام حسين وحلفائه، مع تهديد الإرهاب الذي قد ينسب إليه، ومن جهة أخرى إصرار الغرب والخليج على موقف واضح ضد العنف، وتهديد التهميش الكامل لمنظمة التحرير.
ترسم برقيتا الرياض وتونس صورة زعيم فلسطيني يواجه أصعب اختبار سياسي في مسيرته: كيف يحافظ على شرعيته من دون أن يفقد دعم صدام، وكيف يظل حياً وسط موجة الاغتيالات التي لم ترحم أقرب رفاقه. لم ينجح عرفات في هذا الاختبار تماماً، إذ فقد الدعم الخليجي لسنوات طويلة وتضررت صورة المنظمة بشدة، إلا أن "حس البقاء" الذي لاحظه هاني الحسن مكنه من العودة إلى الساحة السياسية لاحقاً، ليكون حاضراً في مفاوضات أوسلو بعد عامين، في ظل شرق أوسط قد تغير بالكامل.