Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الانسحاب الأميركي من قواعد العراق يفتح أبواب المجهول في الإقليم

حصلت "اندبندنت عربية" على تصريحات من مصادر سياسية رفيعة قالت إن ما يجري أشبه بإعادة انتشار محسوبة في ظل ظروف إقليمية متوترة واحتمالات مواجهة مفتوحة بين إيران وإسرائيل

الانسحاب الأميركي يربك بغداد ويكشف هشاشة التوازن بين الدولة والفصائل (أ ف ب)

ملخص

يعتقد باحثون أكاديميون أن "واشنطن أرسلت رسائل واضحة بأنها غير راضية عن تلكؤ الحكومة في ملفات جوهرية مثل دمج الحشد وضبط تهريب الدولار والحد من نفوذ طهران".

طهران تبدو "حريصة على بقاء الأميركيين"، باعتبار أن هذا الوجود يشكل "ضمانة غير مباشرة بعدم استهداف الفصائل".

لم يكن مشهد انسحاب قوات عسكرية أميركية من قاعدتي "عين الأسد" في الأنبار و"فيكتوري" داخل مطار بغداد مجرد حدث عابر أو تنفيذ لاتفاق أمني ثنائي بين بغداد وواشنطن، بل بدا الحدث أشبه باختبار جديد للدولة العراقية، لما يحمله من رسائل أعمق من مجرد ظاهرها العسكري، خصوصاً مع الحديث المتصاعد عن احتمالية حصول تغيير في المشهد العراقي، أو في الأقل "فرض عقوبات اقتصادية" على البلاد، مما كان ظاهراً حتى في أحاديث قادة في فصائل مسلحة موالية لإيران.

وفي وقت تحرص فيه الحكومة العراقية على تأكيد أن ما يجري لا يعدو سوى تنفيذ لجداول جرى الاتفاق عليها مسبقاً، يعطي امتناعها عن الخوض في تفاصيل أكبر انطباعاً عن حجم الرسائل السياسية التي يمكن أن تكون مضمنة في هذا الانسحاب.

ومقابل التزام الحكومة الصمت واكتفائها بالقول إن الانسحاب يجري وفق الاتفاقات مع واشنطن، ترفع الفصائل المسلحة الموالية لإيران منسوب الصخب، محذرة من استهداف القوات الأميركية إذا لم يتم الانسحاب الكامل في المواعيد المحددة.

ويبين هذا التناقض بين الخطاب الرسمي والفصائلي، حجم الهوة والإرباك داخل أروقة "الإطار التنسيقي للقوى الشيعية" المشكل لحكومة السوداني، والذي يضم غالب الفصائل المسلحة الموالية لإيران.

في السياق أعلن رئيس البرلمان العراقي محمود المشهداني، أمس الإثنين، خلال لقاء مع القائم بأعمال السفارة الأميركية ستيفن فاجن، التوصل إلى اتفاق مع واشنطن يقضي بتقليص أعداد قواتها في قاعدة "عين الأسد"، ونقل عملها إلى إطار ثنائي محدود داخل إقليم كردستان.

تحفظ حكومي وصخب فصائلي

وعلى وقع تداعيات التحركات العسكرية الأميركية في العراق، تتجدد في بغداد المقاربة المزدوجة بين انسحاب "منضبط" بحسب الرواية الحكومية، وما يقابله من توتر سياسي–إعلامي تغذيه معركة "قانون الحشد الشعبي"، وتصاعد نبرة حلفاء طهران في تمريره برلمانياً.

وعلى رغم محاولات تصوير ما يجري على أنه انسحاب كامل للقوات الأميركية من البلاد، تحدث مستشارون لرئيس الوزراء العراقي عن أن الإطار الزمني لانتهاء وجود بعثة التحالف الدولي في بغداد و"عين الأسد" تنتهي في سبتمبر (أيلول) المقبل، وانتقال العلاقة إلى شراكات ثنائية وتكميل المرحلة الثانية حتى سبتمبر 2026.

وفي مقابل التحفظ الحكومي عن الخوض في أي تفاصيل، حصلت "اندبندنت عربية" على تصريحات من مصادر سياسية رفيعة، قالت إن "الانسحاب الأميركي يتم ببطء وعلى مراحل".

ولعل اللافت في حديث المصدر هو الإشارة الصريحة إلى أن ما يجري "لا يمثل انسحاباً شاملاً، بل إعادة انتشار محسوبة في ظل ظروف إقليمية متوترة واحتمالات مواجهة مفتوحة بين إيران وإسرائيل".

وتابعت المصادر أن "ما ظهر من صور وفيديوهات هي إما قديمة أو لا تعود للعراق أساساً"، مبينة أن "الحكومة لن تتطرق بصورة مستفيضة لتلك التحركات لأنها تدرك حساسية الموقف".

وفي معسكر الفصائل لا يزال الصخب مستمراً، حيث تتصاعد اللهجة مع اقتراب المواعيد المؤكدة حكومياً، وهو ما يراه مراقبون "محاولات تسجيل انتصارات" في أوقات حرجة.

وكانت كتائب "حزب الله" لوحت في وقت سابق بأن "صبرها ليس بلا حدود" وأنها ستوجه ضربات إذا لم يتحقق الانسحاب وفق الجداول المعدة.

مقدمة لمرحلة جديدة

ويركز بعض الساسة العراقيين على أن ما جرى لم يكن مفاجئاً بل يجري كجزء من اتفاق مسبق بين بغداد وواشنطن، ويتم الآن تنفيذه بشكل تدريجي وبهدوء. وعلى رغم ذلك، لا تنفي هذه الرؤية احتمالية حصول انعكاسات سياسية في الداخل العراقي.

ويؤكد السياسي العراقي ليث شبر أن الانسحاب من قاعدتي "عين الأسد" و"فيكتوري" في جوهره "تطبيق لما جرى الاتفاق عليه سابقاً بين الحكومة العراقية والولايات المتحدة في شأن جدولة وجود قوات التحالف وانتهاء مهامه في بغداد والأنبار".

ولعل السؤال الأعمق يرتبط بتوصيف تلك اللحظة، وما إذا كانت تعد انتصاراً لإرادة الفصائل، أم إنه مقدمة لمرحلة جديدة، كما يعبر شبر الذي يشير إلى أن الفصائل المسلحة "تحاول استغلال هذه اللحظة سياسياً لتصويرها بوصفها انتصاراً لها".

ويضيف أن الحقيقة تبدو مختلفة، "فالولايات المتحدة لا تريد أن تكون قواتها وسط النيران المتوقعة في حال حصول مواجهة مفتوحة بين إيران وإسرائيل"، مما دفعها إلى اختيار "إعادة التموضع في أماكن أكثر آمناً مثل كردستان والكويت من دون التخلي عن نفوذها في العراق".

ويعتقد شبر أن ربط الفصائل بين تلك الخطوة والجدل حول "قانون الحشد الشعبي"، "ليس بريئاً" إذ يحاول "الإطار التنسيقي توظيفها لتوسيع شرعية الحشد"، محذراً من إمرار القانون بصيغته الحالية والذي يعني "شرعنة قوة موازية للدولة وفتح الباب أمام عزلة وضغوط اقتصادية وربما عقوبات على العراق".

ويرى أن ما يتم الآن تسويقه بوصفه "منجزاً" للفصائل المسلحة، ربما يتحول إلى "مأزق سياسي واستراتيجي كبير"، خصوصاً مع تحذيرات واشنطن الصريحة بخصوص "قانون الحشد الشعبي"، في مقابل طهران التي "تعلن بوضوح مساعيها لضمان بقاء الفصائل كجزء من معادلة القوة في البلاد".

ويشير إلى أن السوداني يواجه ثلاثة مسارات للضغط، حيث تستمر التحذيرات الأميركية من "احتمالية عودة تنظيم ‘داعش‘ وتكرار سيناريو عام 2014"، وما يقابلها من ضغوط من قبل "الإطار التنسيقي" وطهران، الرافضين لـ"أي مساس بسلاح الفصائل".

أما المسار الثالث، فيرتبط بـ"المشهد السياسي والانتخابي، خصوصاً مع العزلة التي تعيشها قوى (الإطار التنسيقي)، وميل القوى السنية والكردية نحو الموقف الأميركي".

ويرى شبر أن تلك الضغوط "تضع السوداني أمام تحديات كبرى، خصوصاً مع سعيه الحصول على ولاية ثانية"، مبيناً أن خياراته باتت ضيقة جداً "إما الذهاب إلى شراكة مشروطة مع واشنطن يخسر من خلالها جزءاً من دعم (الإطار التنسيقي)، أو الارتماء الكامل في حضن طهران والدخول في عزلة دولية".

ويختم شبر أن "ما يجري من انسحاب أميركي على رغم تقديمه كانتصار للفصائل، لكنه في الجوهر اختبار أخير للدولة العراقية ومقدمة لانقسام داخلي أعمق وإعادة رسم لدور العراق في الصراع الإقليمي".

رسائل ضاغطة ومأزق شيعي

وبموازاة ما يجري، يتقدم "قانون الحشد الشعبي" خطوة ويتراجع أخرى، حيث خلت خلال الأسبوع الماضي جداول جلسات البرلمان العراقي من أي ذكر له، وسط تسريبات بأن ثمة انقساماً حاداً داخل أروقة القوى الشيعية حوله، مدفوعة بمخاوف من الضغوط الخارجية المعلنة.

في المقابل، يقرأ الباحث في الشأن السياسي، نزار حيدر، المشهد من زاوية أوسع، إذ يرى أن إيران وحلفاءها في العراق يقفون اليوم أمام "مأزق غير مسبوق"، فبعد أعوام نجحت خلالها طهران في ترسيخ نفوذها داخل مؤسسات الدولة والتغلغل في مفاصل السلطة، فإنها الآن تخشى من احتمالية "هدم هذا النفوذ وتغيير قواعد اللعب في النظام السياسي العراقي".

ويقول حيدر، إن طهران تخشى "تكرار تجربة ما بعد عام 2016 عندما بدأ الاستهداف المباشر لقادة بارزين في العراق"، مما يدفعها الآن إلى "التشبث أكثر بمفاصل السلطة وكأنها تستعد لمرحلة قد تعيد العراق إلى دوامة المواجهة".

ويضيف لـ"اندبندنت عربية" أن الجماعات المسلحة الموالية لإيران "باتت محاصرة" ففي حين يرتبط وجودها عضوياً بمشروع إيران السياسي والعقائدي، إلا أنها في المقابل لا تملك القدرة على تحمل أثمان أي مواجهة مباشرة مع واشنطن إذا قررت الأخيرة العودة إلى سياسة الضغط المباشر.

إعادة انتشار وتغيير في الاستراتيجيات

وعن توصيف الانسحاب يوضح حيدر "ما يحدث ليس انسحاباً كاملاً بل إعادة انتشار محسوبة"، مبيناً أن تغير العنوان من "تحالف دولي ضد ‘داعش‘" إلى "شراكة أمنية ثنائية أو متعددة الأطراف" لا يعني انتهاء مهمة تلك القوات، بل يمثل "إعادة تعريف للوجود العسكري الأميركي في العراق وإن جرى تسويقه داخلياً بشكل مختلف".

وبالنسبة إلى دلالة التوقيت، يرى حيدر أنه محمل برسائل سياسية، فالعراق يعيش "حالة قلق مع تصاعد التوترات الإقليمية واحتمال اندلاع مواجهة بين طهران وتل أبيب".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويقسم حيدر المشهد إلى ثلاثة مستويات، يتمثل الأول "في عدم وجود مشروع لإسقاط النظام السياسي"، أما الثاني، فيسير باتجاه "السعي لتغيير الأدوات عبر الضغط المباشر على القوى الشيعية"، أما المسار الثالث فيرتبط بـ"احتمال تنفيذ عمليات تصفية تستهدف قيادات فصائلية بخاصة الذين شاركوا في استهداف إسرائيل"، مرجحاً أن تقوم إسرائيل بهذه العمليات بشكل مباشر بينما تكتفي واشنطن بالضغط السياسي والاقتصادي.

ويشير أيضاً إلى المأزق الداخلي الذي تواجهه القوى الشيعية فهي "على رغم هيمنتها على البرلمان عاجزة عن تمرير قوانين تخدم استراتيجيتها مثل قانون الحشد"، معبراً عن اعتقاده أن تلك القوى باتت "عاجزة عن سحب مشاريع لا ترغب بها ما يجعلها في حلقة مفرغة".

ويختم أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى إسقاط النظام السياسي في العراق، لكنها تريد "تغييراً في الأدوات والوجوه" التي تديره، مبيناً أن الضغط اليوم "ليس لإسقاط التجربة السياسية وإنما لتعديل مساراتها بما ينسجم مع مصالح واشنطن في ملفات مثل دمج الحشد ومنع تهريب الدولار والحد من نفوذ إيران".

تصدع التوازن ومعضلة السوداني

وبين انسحاب متفق على إيقاعه، وقانون يفجر اصطفافات داخلية وخارجية، يقف السوداني عند ميزان دقيق، ففي حين لا يسعى إلى أي صدام مع القوى الشيعية، وتحديداً المسلحة المدعومة من إيران، يحتاج في الوقت نفسه إلى شراكات أمنية واقتصادية مع واشنطن وحلفائها.

ويرى أكاديميون أن الانسحاب الأميركي كشف عن مأزق حقيقي لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، الذي لم يعد قادراً على إدارة معادلة التوازن القديمة بين واشنطن وطهران.

ويعتقد الباحث والأكاديمي في جامعة أريزونا سليم سوزه، أن الانسحاب وإن كان يجري بتوافق بين بغداد وواشنطن، إلا أنه "يفضح هشاشة العلاقة بين الطرفين"، مبيناً أن "واشنطن أرسلت رسائل واضحة بأنها غير راضية عن تلكؤ الحكومة في ملفات جوهرية مثل دمج الحشد وضبط تهريب الدولار والحد من نفوذ طهران".

ويضيف أن السوداني "لم يعد قادراً على إعادة إنتاج التوازن التقليدي، ففي حين يعجز عن إقناع واشنطن بقبول النفوذ الإيراني كما كان يفعل أسلافه، يواجه معضلة عدم تمكنه القبول بالمطالب الأميركية بحل ‘الحشد الشعبي‘، خصوصاً كونه يمثل جزءاً من تلك المنظومة".

وعلى رغم إظهار الجماعات المسلحة الموالية لإيران رغبة مستمرة بدفع الحكومة لإخراج القوات الأميركية من البلاد، يرى سوزه أن طهران تبدو "حريصة على بقاء الأميركيين"، مبيناً أن هذا الوجود يشكل "ضمانة غير مباشرة بعدم استهداف الفصائل".

ويتابع أن واشنطن لم تعد تكترث بهذه "اللعبة الثنائية"، وتبدو مساعي الإدارة الأميركية منصبة نحو "فك ارتباط قواتها مع بغداد والانتقال إلى تموضع جديد في كردستان وإعادة صياغة وجودها خارج الجزء العربي من العراق".

وأمام مشاهد القوات الأميركية المنسحبة، يزداد المشهد العراقي تعقيداً، خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، واحتمالات اشتعال الصراع بين إيران وإسرائيل مرة أخرى، مما يفتح الباب أمام تكهنات في شأن ما إذا كان سيؤدي إلى مواجهة داخلية، في حال فشل الحكومة ضبط التوازن.

وبين اعتبار الانسحاب الأميركي استحقاقاً متفقاً عليه أو إعادة تعريف لهذا الوجود ورسائل ضغط وتحذير، تتقاطع الرؤى عند نقطة واحدة وهي أن ما يحدث ليس مجرد خطوة عسكرية، بل تحول فارق في شكل العلاقة بين بغداد بواشنطن.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير