ملخص
اختيار إربيل بديلاً للتموضع الجديد أسبابه معروفة تاريخياً، وهو يؤكد استمرار الوجود العسكري الأميركي على أراضي العراق. والسؤال هو ما مدى التنسيق بين بغداد إربيل حول ما سيجري؟ وما هي إمكانات بغداد بمعرفة مدى وحدود وعمل إعادة التموضع هذا. أعتقد يمكن لأي مراقب معرفة الإجابة مسبقاً، هناك تفاصيل كثيرة لم يجر تناولها بعد.
بلا مقدمات أو إشعار بروتوكولي مسبق، سحبت القوات الأميركية قطعاتها من أهم موقعين عسكريين في العراق: الأول قاعدة "عين الأسد" في الأنبار غرب البلاد، والثاني "فكتوريا" قرب المطار الدولي، لتسدل صفحة طويلة من وجودها في العراق منذ عام 2014 حين جاءت بطلب الحكومة العراقية، للإسهام في وقف زحف عناصر "داعش" التي احتلت ثلث البلاد.
وعلى رغم الخدمة الكبيرة التي قدمتها في مقاتلة التنظيم الإرهابي، فإن تلك القوات لم يكن مرحباً بها من الفصائل المسلحة المدعومة من إيران التي تتلفع بعباءة "الحشد الشعبي" في غالب الأحيان، وتتجهز بالسلاح والحماية اللوجستية من الدولة العراقية، مما جعل الأميركيين يطلبون حل تلك القوات المسلحة وتفكيك وحداتها والحؤول دون استصدار قانون "الحشد الشعبي" الذي يحاكي تجربة الحرس الثوري في إيران، وفق التنبيهات الأميركية التي نقلها ماركو روبيو وزير خارجية الولايات المتحدة لرئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني في الـ23 من يوليو (تموز) الماضي، يومها أبلغه أن "بلاده تدعم عراقاً مزدهراً خالياً من النفوذ الإيراني الخبيث"، بحسب تعبيره.
لكن الفصائل المسلحة لم تمنح السوداني فرصة ترتيب البيت العراقي بمنطق الدولة، التي تراعي حلفها مع الأميركيين الذين جاءوا بقطعات عسكرية بطلب الحكومة العراقية.
متى تخرج القوات الأميركية والتحالف؟
وفق مدير مركز الإعلام العراقي في واشنطن الباحث نزار حيدر فإن هناك بعداً قانونياً ملزماً، "فعلى رغم أن القوات الأميركية وقوات التحالف اللتين جاءتا بطلب من الحكومة العراقية في يونيو (حزيران) من عام 2014 بالتزامن مع توقيع بغداد وواشنطن مذكرة تفاهم أضيفت إلى اتفاق الإطار الاستراتيجي المبرم بين البلدين، فإن كل جندي أميركي وأجنبي ضمن التحالف الدولي يدخلون ويخرجون من العراق بتأشيرات دبلوماسية، إضافة إلى أن ذلك الاتفاق يبقى ساري المفعول فور دخوله حيز التنفيذ لحين طلب إنهائه من أي من الحكومتين بموجب إشعار خطي يرسل قبل عام واحد من إحدى الحكومتين إلى الأخرى. بمعنى أن هذا التفويض الذي منحته الحكومة العراقية للولايات المتحدة وللتحالف الدولي و’الناتو‘ في ما بعد للعودة للعراق، إنما ينتهي بإخطار وإشعار خطي من أحد الطرفين قبل عام من التنفيذ، لهذا السبب فإن القرار النيابي الذي صدر من مجلس النواب العراقي في الخامس من يناير (كانون الثاني) عام 2020 بعد عملية المطار التي قتل فيها الجنرال قاسمي سليماني وأبو مهدي المهندس، ينص على إلزام الحكومة العراقية بإلغاء طلب المساعدة المقدم منها للتحالف الدولي لمحاربة تنظيم ’داعش‘". والسؤال هنا "لماذا لم يطلب مجلس النواب إخراج القوات الأميركية أو الأجنبية؟ لأنه يعرف جيداً أن هناك اتفاقاً ملزماً بين واشنطن وبغداد ودول التحالف الدولي و’الناتو‘، لذلك طلب من العراق أولاً إلغاء هذا الاتفاق ليتسنى للحكومة العراقية إخراج القوات الأجنبية. ولحد هذه اللحظة ليس هناك أي إشعار خطي لا من واشنطن ولا من بغداد، وإذا صدر مثل هذا الإشهار اليوم على سبيل المثال يحتاج إلى عام كامل لإنهاء العمل بالمذكرة".
النداءات الأميركية الأخيرة
وفي بعد آخر، يقول النائب العراقي السابق وائل عبداللطيف إن "الفصائل مسلحة تلقت تهديداً مباشراً من الأميركيين على شكل نداءات أخيرة قبيل انسحاب الجيش الأميركي، قبل طلب من الحكومة العراقية أن تبلغ الفصائل المسلحة بأن تحل نفسها وتنزع سلاحها، وإلا سيكون هناك لجوء للقوة. ويتساءل القاضي عبداللطيف عن معنى ذلك، وهل أن العراق سيتلقى ضربة جوية محتملة في حال عدم الانصياع لتلك التحذيرات. ونصحت المرجعية العليا في النجف بالاستجابة درءاً للأخطار، لكن الفصائل لم تستجب، وهذه المرة الثالثة التي لم تلب نداءات المرجعية التي تريد الحؤول دون الوقوع بالمحظور".
انسحاب تكتيكي
ويذهب الباحث هيثم الهيتي أستاذ العلوم السياسية في جامعة "إستر" إلى تداعيات الانسحاب على المشهد السياسي في العراق بقوله، "أرجح أنه انسحاب تكتيكي إلى إربيل، وأتوقع العودة بعد الضربة المرتقبة لإيران. السوداني في حيرة من أمره، لأن الانسحاب سيقوي الفصائل سياسياً، وسيكون ضعيفاً أمامهم إن حصلت الانتخابات، لذا فإن موقفه من وجود القوات سيحدد مصيره. انسحاب القوات الأميركية قد يقطع الطريق أمام أي رد محتمل من الأذرع الإيرانية على أي هجوم جوي يستهدف مواقعهم، وبالتالي يفقدون قدرة الرد عبر المسيرات والهاونات على المعسكرات والقواعد الأميركية".
وهناك احتمال ثان أن يكون الانسحاب الأميركي قراراً سياسياً من العراق بهدف إنهاء الحالة الرمادية في الوجود الأميركي - الإيراني، وترك العراق لمصيره مع إيران ومع صراع النخب السياسية، بخاصة بعد ما جرى في السليمانية الذي قد يتكرر في مواقع أخرى كصراع الصدر مع الإطار.
وكذلك النقمة الشعبية المتصاعدة، بخاصة بعد قضية خور عبدالله واتهام محافظ البصرة بقضية انتحار الطبيبة بان، التي هزت الرأي العام العراقي.
تغير في موازين القوى
ويرى الكاتب مؤيد الحيدري أن "الانسحاب الأميركي المفاجئ يمثل تغييراً في موازين القوى في المنطقة بحكم الاصطفافات الواضحة، ولا يخفى على أي متابع أن الانسحاب هو إضافة وانتصار لإيران بتعزيز وجودها في العراق، بعد أن كادت تفقد تأثيرها في سوريا ولبنان، وهي قضية كبيرة، فذلك سيسمح للفصائل المسلحة التي تدين بالولاء لإيران"، لكنه استدرك قائلاً "لكن هناك خشية من انسحاب القوات الأميركية بالنسبة إلى بعض الذي يرون أن وجود القوات الأميركية يشكل رادعاً، إلى جانب كونه داعماً للحكومة العراقية، بمعنى أنه أشبه بداعم للنظام السياسي في العراق الذي جاءت به ودفعت به وأسسته الولايات المتحدة عام 2003، وبالتالي فإن غياب قدرتها على الردع حتى لو كان نسبياً سيتيح هيمنة أكبر للفصائل المسلحة، التي تميل إلى فرض سيطرتها خارج إطار الدولة وسلطة الإدارة المركزية. والسؤال الأهم: هل يمثل انسحاب القوات الأميركية خسارة للعراق؟ لا أظن الانسحاب خسارة، لأن منطق الوجود العسكري تغير كثيراً في وسائله وأهدافه".
انقسام مجتمعي
ويعاين الباحث مؤيد الونداوي أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بغداد انعكاس الانسحاب المفاجئ للقوات الأميركية على الرأي العام العراقي بقوله، "ينقسم العراقيون في شأن القرار الأميركي الأخير، إذ هناك من يربطون مستقبلهم بإيران، وهؤلاء منذ وقت طويل يطالبون بالانسحاب من العراق. في وقت هناك جماعات سياسية ومكونات اجتماعية ممن ينتابهم قلق كبير جراء سياسات الماضي القريب، التي مارستها القوى المهيمنة على صنع القرارات السياسية الداخلية والخارجية، خصوصاً أن إعادة تموضع القوات الأميركية في الأراضي العراقية جاء بوقت حرج جداً. فالقرار الأميركي صدر بعد حرب الـ12 يوماً، وإثر تقارير تؤكد إمكانات تجدد العمليات العسكرية ضد إيران، وكذلك في ظل القرار الإسرائيلي باحتلال غزة ومناطق أخرى، وتزامن مع إصرار نتنياهو على مهاجمة لبنان واليمن، هذا إضافة إلى ما شهدته بغداد خلال توقيع اتفاق أمني مع طهران إثر زيارة لاريجاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، وهو اتفاق لم تعلن تفاصيله تماماً. كذلك يأتي في وقت يشهد البرلمان جهوداً حثيثة لإقرار قانون ’الحشد الشعبي‘ الذي ترفض الولايات المتحدة إقراره، لكونها تعتبر الحشد امتداداً لذراع إيراني في العراق، ناهيك بإعلان الجماعات المسلحة التي تطلق على نفسها ’المقاومة الإسلامية‘ التعرض للمصالح الأميركية والإسرائيلية في أي وقت تقتضيه الأحوال ومسار الأحداث".
إعادة تموضع للقطعات
ويضيف الونداوي "المفاجأة هي أن قرار إعادة تموضع القوات الأميركية في العراق لم يعلن بصورة مشتركة بين الطرفين، ولم يصدر أي بيان عراقي حوله حتى الآن. في الحقيقة نحن لم نشهد انسحاباً بل إعادة تموضع، وبالتأكيد أن مثل هذا الإجراء سيحتاج إلى سلسلة تفاهمات بين الأطراف العسكرية بين البلدين من جهة وبين الحكومة الفدرالية وحكومة إقليم كردستان. إعادة التموضع يعني أولاً أن لدى واشنطن رؤية جديدة لمواجهة حجم النفوذ الإيراني في العراق والمنطقة، وثانياً في مواجهة ’الحشد الشعبي‘ وقدراته وفعاليته ضد إسرائيل والقوات الأميركية، وهو تموضع جديد يتوقع كثير من المراقبين أنه سيسمح بضربات إسرائيلية قادمة قد تطاول القصور الرئاسية والمواقع الحكومية العراقية، كما فعلت وتفعل في طهران واليمن".
وعن سؤال كيف تتصرف الحكومة العراقية إزاء هذا الانسحاب؟
يجيب "هناك انقسام مجتمعي وبين أطراف العملية السياسية نفسها، فعليهم أن يفكروا جدياً بهذه الخطوة الأميركية، مع ضرورة التذكر بأن التحالف الدولي لم يضرب ’الحشد الشعبي‘ خلال انتشاره على الحدود مع سوريا وسواها، لأن مهمته محاربة ’داعش‘".
أما اختيار إربيل بديلاً للتموضع الجديد فإن أسبابه معروفة تاريخياً، وهو يؤكد استمرار الوجود العسكري الأميركي على أراضي العراق. والسؤال هو ما مدى التنسيق بين بغداد إربيل حول ما سيجري؟ وما هي إمكانات بغداد بمعرفة مدى وحدود وعمل إعادة التموضع هذا. أعتقد يمكن لأي مراقب معرفة الإجابة مسبقاً، هناك تفاصيل كثيرة لم يجر تناولها بعد".
ويعتبر الباحث علي الطالقاني أن مشهد انسحاب القوات الأميركية تجاه شمال العراق "يمكن تفسيره من خلال ما يجري على الأراضي السورية، وما يرتبط بالصراع مع إيران والفصائل المتحالفة معها. هذا الانسحاب هو جزء من تحركات لإقامة منطقة عازلة داخل سوريا بدعم غير مباشر من الولايات المتحدة، وهذه المنطقة تمتد من السويداء وصولاً إلى أطراف دير الزور بمحاذاة الحدود العراقية، وتطرح باعتبارها حماية للدروز، والاتصال الجغرافي لهذه المنطقة هو خط ممتد بمحاذاة البادية السورية حتى الحدود مع العراق، أما الوظيفة الاستراتيجية لهذه المنطقة العازلة فتعني فصل الحدود العراقية عن العمق السوري (مناطق الفصائل المتحالفة مع إيران)، مع تمدد ’داعش‘ المحتمل، من دون تدخل واشنطن تجاه هذا التمدد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف "باعتقادي فكرة المنطقة العازلة هي أكثر من خطوة عسكرية، وتحمل في طياتها أبعاداً جيوسياسية معقدة، وربما تستخدم واشنطن هذا السيناريو لإعادة تموضعها العسكري في العراق عبر الضغط غير المباشر، بخاصة أن تهديد الحدود السورية - العراقية يشكل ورقة حساسة لأمن العراق، وأن انعكاسات هذا التحرك المباشرة قد تمس الأمن العراقي، لا سيما مع التحديات اللوجستية في مواجهة تحديات عابرة للحدود. وقد يضع هذا الأمر العراق أمام خيار طلب دعم أميركي من جديد، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر طلب رسمي. وبالتالي فإن وضع هذه المنطقة بيد ’داعش‘ يمنح الولايات المتحدة، التي تدير موازين القوى وتعيد ضبط أدوار الفاعلين الإقليميين، ذريعة لإطالة أمد وجودها تحت ذريعة محاربة الإرهاب، والعراق في هذه المرحلة قد يجد نفسه أمام معادلة صعبة بين السيادة والحاجة إلى الأمن".
ويرى مدير مركز حلول للأبحاث مازن الشمري "هناك مبدأ في إعادة التنظيم للقوات، تحضيراً لحالة اشتباكات متوقعة. القوات الأميركية لا تنسحب بل تعيد التموضع، والمنطقة تترقب ما سيحصل بين مضي إيران بقرار وحدة الساحات وسير السوداني بشعار ’العراق أولاً‘".
