Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الرصاص يسبق صناديق الاقتراع في كردستان العراق

تنقسم السلطة في الإقليم بين حزبين رئيسين والتوتر بدأ مع اعتقال أكثر الشخصيات السياسية إثارة للجدل

بافل طالباني (الثالث يمين) يحضر مجلس عزاء لعنصر أمني قتل خلال اعتقال لاهور شيخ جنكي (الإعلام المركزي لحزب طالباني)

ملخص

تنقسم السلطة في الإقليم الكردي بين الحزبين الرئيسين "الديمقراطي الكردستاني" بزعامة مسعود بارزاني الذي ينحصر نفوذه في محافظتي أربيل ودهوك، و"الاتحاد الوطني" بزعامة بافل طالباني في محافظة السليمانية والمناطق التابعة لها مثل حلجبة وكرميان وشارزور، ولكل من إدارة الحزبين واقع مختلف على رغم شراكتهما التقليدية في إدارة الحكومة.

شهدت محافظة السليمانية منذ منتصف أغسطس (آب) الجاري توترات سياسية وأمنية مفاجئة على وقع إقدام قوات الأمن التابعة لحزب الاتحاد الوطني بزعامة بافل طالباني على اعتقال زعماء كبار في قوى معارضة في إطار حملة وصفها مراقبون وسياسيون بأنها تستهدف إضعاف الخصوم قبل الانتخابات البرلمانية الاتحادية المقررة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل وتعزيز حال احتكار القرار السياسي والأمني، مما يضع علامات استفهام حول مآلات استمرار بقاء النفوذ الأمني والعسكري تحت سلطة الأحزاب وما تفرزه من تداعيات على مستقبل العملية الديمقراطية في إقليم كردستان - العراق.

بدأ التوتر مع اعتقال أكثر الشخصيات السياسية إثارة للجدل في الإقليم، وهو زعيم حركة "الجيل الجديد" رجل الأعمال شاسوار عبدالواحد من قبل قوة أمنية اقتادته من منزله بعد نحو أسبوع من صدور حكم قضائي باعتقاله وسجنه مدة ستة أشهر، استناداً إلى دعاوى سجلت ضده من قبل مواطنين يعود تاريخ بعضها إلى عام 2019، ما يشكل تحدياً جديداً تواجهه الحركة التي تمكنت خلال ثماني سنوات من تحقيق مكاسب وضعتها في مقدم القوى المعارضة، بعدما ضاعفت مقاعدها في الانتخابات البرلمانية الكردية الماضية إلى 15 مقعداً.

التطور الثاني الأشد وقعاً كان في اعتقال السياسي البارز لاهور شيخ جنكي مساء الخميس الماضي إثر اشتباك دموي استخدمت فيه قوى الأمن أسلحة ثقيلة وطائرات مسيرة خلال محاولتها اقتحام محل إقامته في أحد الفنادق وسط السليمانية، لتفضي في النهاية إلى اعتقاله مع شقيقه ومقربين منه بعد سقوط عدد من القتلى والجرحى من الطرفين، وسيواجه لاهور شيخ جنكي قضايا وفق المادة 456 من قانون العقوبات العراقي المتعلقة بالاحتيال، إضافة إلى المادة 406 الخاصة بالقتل العمد أثناء عملية اعتقاله.

 

الخلاف

تنقسم السلطة في الإقليم الكردي بين الحزبين الرئيسين "الديمقراطي الكردستاني" بزعامة مسعود بارزاني الذي ينحصر نفوذه في محافظتي أربيل ودهوك، و"الاتحاد الوطني" بزعامة بافل طالباني في محافظة السليمانية والمناطق التابعة لها مثل حلجبة وكرميان وشارزور، ولكل من إدارة الحزبين واقع مختلف على رغم شراكتهما التقليدية في إدارة الحكومة.

ففي قضية اعتقال شاسوار الذي يعرف بمهاجمته الشديدة لسياسة الحزبين، يقول الاتحاد إنها مرتبطة بالسلطة القضائية حصراً على خلفية دعاوى قضائية مدنية، في وقت تعود فيه أسباب قضية لاهور إلى سنوات عدة عندما أقدم نجل عمه بافل على استبعاده من رئاسة الحزب بالتشارك واتهمه بمحاولة تسميمه، قبل أن يؤسس لاهور، لاحقاً، حزباً جديداً باسم "جبهة الشعب"، وتمكن في أول مشاركة انتخابية له في الإقليم من الحصول على مقعدين.

 

مساعٍ لتشديد القبضة

وفقاً لوسائل إعلام كردية فإن بافل، وقبل شن عمليات الاعتقال، كان قد أحاط بعض المكاتب الدبلوماسية الأجنبية والقوى السياسية الرئيسة في الإقليم وبغداد علماً بخطوته، بداعي أن الدوافع قضائية بحتة، في وقت أشارت فيه تسريبات إلى أن لاهور "متورط في مخطط أمني لشن انقلاب على الاتحاد"، وتفاقم التوتر خلال الحرب بين طهران وتل أبيب، عندما راهن منافسو بافل من القادة المبعدين، على احتمال سقوط النظام الإيراني الذي يشار له كداعم رئيس للحزب، وتالياً يؤدي إلى انهيار الأخير لتُتاح الفرصة في السيطرة على دفة قيادته.

من جهة أخرى تربط أوساط سياسية دوافع بافل في إطار مشروع بدأه منذ تسلمه منصبه لتشديد قبضته على سلطة قرار الحزب ونطاق نفوذه من جانب، وكذلك في إضعاف حظوظ المنافسين من القوى المعارضة قبل الانتخابات البرلمانية الاتحادية، في محاولة لتحقيق مكاسب من شأنها أن تحقق توازناً في مجاراة خصمه الشريك في الحكم الحزب الديمقراطي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هاجس انفلات السلاح

في العموم فإن هذه الأحداث تكشف عن أن الإقليم الكردي غير محصن من تكرار نشوب نزاعات داخلية على المستويين السياسي والاجتماعي، مما يضعف من الطموحات لتعزيز السلطة الذاتية، بخاصة أن أربيل شهدت في مطلع يوليو (تموز) الماضي مواجهة مسلحة غير مسبوقة بين عشيرتي الهركي وكوران اللتين تواليان حزب بارزاني، وتطورت في ما بعد إلى مواجهة مسلحة عنيفة بين الهركي وقوات الأمن التابعة للحزب، في وقت يعاني فيه الإقليم تعطيلاً للبرلمان على رغم مرور تسعة أشهر على إجراء الانتخابات البرلمانية من دون تشكيل حكومة جديدة، وأزمة مالية وسط عجز في تأمين مرتبات موظفي القطاع العام جراء استمرار الخلافات مع حكومة بغداد، حول الإيرادات وآلية إعادة تصدير النفط الكردي.

وجدد هذا التطور المخاوف من مغبة استمرار حال انقسام النظام المؤسساتي التي تعود إلى فترة الحرب الأهلية بين الحزبين منتصف تسعينيات القرن الماضي، وفشلهما في إعادة توحيد قواتهما على رغم الضغط الغربي، وفي هذا الإطار رأى المحلل السياسي كمال جوماني أن "ما جرى هو تحصيل حاصل للانقسام العميق طوال حكم الحزبين منذ ثلاثة عقود ونيف من دون إقرار دستور كمرجع للعملية الديمقراطية في الإقليم، ربما نجد فسحة لبروز قوى معارضة، لكن الغاية منها إعطاء انطباع بوجود حرية سياسية، لكن بمجرد أن يشكل المعارض مصدر تهديد لنفوذ الحزب الحاكم فإنه سيواجه القمع في توقيت ما"، وضرب جوماني أمثلة في أسباب هذا التحول "نتيجة تسويف الحزبين في مشروع إعادة توحيد الإدارة منذ ثلاثة عقود على رغم الضغط والدعم الأميركيين، لأن السلاح المنقسم هو أداة لاحتكار القرار، لا بل لنا سلسلة طويلة من التجارب في قمع الاحتجاجات المطالبة بإنهاء هذا الواقع، وبلغ الأمر حد غلق البرلمان سنتين عام 2015". وتابع "لنتذكر كيف أن قيادياً كبيراً في حزب الاتحاد قالها مرة أن سلطة حزبه لن تتأثر حتى لو فاز بمقعد واحد فقط. وأعتقد أن هذه الأحداث قد لا يكون توقيتها مرتبطاً مباشرة بالانتخابات، بل إن الاتحاد يطمح لمواكبة الديمقراطي في حصر سلطة القرار تحت قيادة أحادية عليا في الحزب وإنهاء حال تشتت القرار والسلطة بين الأجنحة التي سادت سابقاً".

منهج ديمقراطي هش

عزا متخصصون في الشأن العراقي هذا الصراع إلى تعدد مراكز القوى وتفكك السلطة وتداخل الصلاحيات وبقاء السلاح بيد الأحزاب، وهذا الواقع بدوره يعمق نفوذ ما يسمى "الدولة العميقة"، ووفق هذا التشخيص حذر الباحث في شؤون السياسة والفكر الكاتب فلاح المشعل "من تكرار وقوع مواجهات مماثلة في بقية مناطق البلاد، نتيجة ضعف مركزية القانون، مع وجود سلاح منفلت بيد الأحزاب والميليشيات التابعة لها"، منوهاً بأن "الفوضى في القرار السياسي وتعدد الأجندات الخارجية، في ظل تصادم مصالح شخصية وهيمنة حزبية، ووجود فئات طفيلية تجارية بأرصدة مالية ضخمة، تشكل ركناً فاعلاً في السلطة والتحركات السياسية والاختراقات الأمنية، كما تعزز امتداد فعل الدولة العميقة"، وختم "الصراع على النفوذ والمال يشكل الظاهرة الأبرز في عراق ما بعد تنظيم 'داعش'، ومع نفوذ دول الجوار وتأثيرها في الداخل العراقي، أصبح الوضع لا يخضع لتعريف سياسي منهجي محدد، ولا قواعد سلوك لها علاقة بالشعار الديمقراطي والسيادة وبقية الشعارات الفضفاضة".

وتزيد هذه التوترات المتوالية من وقوع ارتدادات لا تحمد عقباها إثر المخاوف المتصاعدة من استغلال المؤسسة القضائية لغايات سياسية، فقد حذر "اتحاد منظمات المجتمع المدني" من التبعات على المبادئ الديمقراطية وسيادة القانون. وأوضح في بيان أن ما شهدته أربيل من اقتتال بين عشيرتين والاعتداء على ناشط حقوقي وصدور حكم جديد للمرة الثانية ضد صحافي قبل وقت قصير من انتهاء محكوميته، وما حصل من اعتقال معارضين في السليمانية، يعمق من خيبة الأمل داخلياً وخارجياً في السلطة القضائية التي باتت تستخدم كأداة سياسية للانتقام وفق تواقيت تصب في صالح القوى المهيمنة لضرب الخصوم، ودعا "المجتمع الدولي إلى ممارسة الضغوط على سلطات الإقليم للالتزام بمبادئ حقوق الإنسان وسيادة القانون، والعمل على توحيد القوات العسكرية ونزع السلاح من الأحزاب والعشائر".

ملف يتخطى الحدود

ينظر للتطورات في السليمانية بأنها تمثل تحولاً نحو إعادة رسم النفوذ في حزب الاتحاد وما لها من انعكاسات على خلفية ارتباط أطراف الصراع المحلي بالحسابات الإقليمية والدولية، فالعامل الخارجي الفاعل في الرقعة الكردية يدور في كنف واشنطن وأنقرة وطهران، بخاصة أن اسم لاهور عندما كان رئيساً لجهاز مكافحة الإرهاب وتلقى، حينها، دعماً أميركياً كان ضمن الشبهات وفقاً لتقارير صحافية أميركية في عملية مقتل قاسم سليماني الرئيس السابق لـ"فيلق القدس" الإيراني، والقيادي في "الحشد الشعبي" الشيعي العراقي أبو مهدي المهندس قرب مطار بغداد، وكذلك مزاعم بتورطه في تقديم تسهيلات استخباراتية ولوجيستية للإسرائيليين في حربهم مع طهران، في وقت بقيت علاقته بالأتراك متوترة إثر شبهات بارتباطه بصلة مع "حزب العمال الكردستاني" المعارض لأنقرة.

وعن رؤيته إزاء ارتداد هذا التوتر على مستقبل النظام السياسي والعملية الديمقراطية في الإقليم الكردي، أشار المحلل السياسي سيروان محمود إلى أن "ما كان يتباهى به الاتحاد بكونه حزباً ديمقراطياً تعين قياداته بالانتخاب، ويظهر تفوقه على الحزب الديمقراطي لكونه حزباً عائلياً وعشائرياً، قد انتهى بعدما تبنى صيغة التوريث في أعقاب رحيل مؤسس الحزب جلال طالباني قبل ثماني سنوات"، ولفت إلى أن "صفة التوريث العائلي في الأحزاب تفرض نفسها على الواقع السياسي في الإقليم، حتى حركة التغيير التي كان قد أسسها نوشيروان مصطفى المنشق عن حزب طالباني لتقود المعارضة حينها، واجهت ارتباكاً وانشقاقاً، بعد ظهور نجلي مؤسسها كورثة ودخلا في خلاف مع قيادات في الحركة، وتالياً فإن هذه البيئة السياسية المشوهة تضع المؤسسات لتكون تحت قبضة جهات أو أفراد خارج أطر وثوابت وقوانين إدارة الدولة والحكم الرشيد".

المزيد من تقارير