Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المغامر وزير النساء كازانوفا يكتب قصة حياته الرهيبة

سيرة ومذكرات من قصص الإغواء إلى عالم الأدب تصدر في الذكرى المئوية الثالثة لولادته

كازانوفا الكاتب وزير النساء (جامعة ييل)

ملخص

في الذكرى المئوية الثالثة لولادة المغامر و"زير النساء" جياكومو كازانوفا (1725-1798) صدر في سلسلة "لا بلياد"، التي تضم روائع النصوص الأدبية والفلسفية، وهي أفخم وأرقى سلسلة كتب تعنى بها "دار غاليمار" الفرنسية، مجلد أنيق يضم الأجزاء الثلاثة من سيرة هذا الكاتب الممعن في إشباع ملذاته، المولود في مدينة البندقية، تحت عنوان "قصة حياتي"، وهي سيرة ذاتية تتقاطع مع المذكرات خطها قلم كازانوفا باللغة الفرنسية، وتعد أحد أكثر المصادر أصالة في ما يخص العادات والبروتوكولات الأوروبية في القرن الـ18 إلى جانب روايتها لأحداث حياته.

من هو كازانوفا الذي اختبأ وراء أقنعة شتى جعلت منه أحد أبرز وجوه مغامري القرن الـ18، والذي اختارت "لا بلياد" إعادة نشر مذكراته في حلة جديدة في سلسلتها التي تحاط بهالة من الإعجاب؟ وهل يصح وضع كتابات زير النساء هذا في مصاف نتاج عمالقة الأدب والشعر والفلسفة، أولئك الخالدين الذين تنشر هذه السلسلة أعمالهم؟

ولد كازانوفا في الثاني من أبريل (نيسان) 1725 في مدينة البندقية وتوفي في الرابع من يونيو (حزيران) سنة 1798 في دوكس في مملكة بوهيميا، أي تشيكيا حالياً. هو مغامر وكاتب وموسيقي وساحر وجاسوس ودبلوماسي وأمين مكتبة تقلب في أكثر من وظيفة، واستخدم أسماء مستعارة كثيرة، أشهرها لقب "فارس سان غال". والأهم من ذلك أن اسمه أصبح مرادفاً لزير النساء الذي أقام علاقات جنسية مع أكثر من 142 امرأة، والذي لم يتوانَ في سعيه وراء الملذات عن سلوك سبل الخداع والاستهزاء بالقوانين.

وعلى رغم أن هذا المغامر يقارن دوماً بدون خوان أو "الدنجوان"، الشخصية الأسطورية الإسبانية التي صنعها الكاتب والشاعر الباروكي تيرسو دي مولينا، فإن كازانوفا شخصية تاريخية حقيقة لم تبدعها مخيلة كاتب ولم يستند في حياته إلى الفلسفة ذاتها التي دافع عنها البطل الخيالي الإسباني. ذلك أن جياكومو كازانوفا لم يكن مهووساً بالنساء، جامعاً لهن، بل غالباً ما ارتبط بعلاقات عاطفية كتلك التي جمعته بمانون باليتي، وماريا ديل لياتيو، والتي دفعته أحياناً إلى مساعدة اللاتي ارتبط بهن. فلا يمكن اختزال حياته على صخبها في صورة "الدنجوان" النمطية.

تلقى جياكومو كازانوفا تعليماً راقياً. فقد كان تلميذاً مجتهداً، نال شهادة الدكتوراه في القانون المدني والكنسي من جامعة "بادوفا"، واستعد ليصبح كاهناً، لكن مغامراته دفعته إلى الطرد من سلك الكهنوت. وقد قادته حماية أحد النبلاء في البندقية وانتماؤه إلى الماسونية إلى دخول المجتمع الراقي، ومذ ذلك الوقت توالت "فتوحاته" العاطفية.

في الـ26 من يوليو (تموز) سنة 1755، أوقفته الشرطة بسبب مجونه، ليقضي أكثر من عام خلف القضبان. لكنه نجح في الفرار من السجن في مغامرة فريدة، لجأ بعدها إلى باريس، حيث أطلق مشروعاً كان سبباً في ثرائه. غير أن إخفاقات جديدة، اضطرته إلى مغادرة فرنسا. وفي تجواله في المدن الأوروبية تمكن، بفضل علاقاته، من التعرف على شخصيات ملكية عديدة، ككاترين الثانية في روسيا، وجورج الثالث في إنجلترا، وفريدريك الثاني في بروسيا.

مع تقدمه في العمر، لجأ كازانوفا إلى حماية أحد أمراء بوهيميا الكونت جوزيف كارل فون فالدنشتاين الذي عينه أميناً لمكتبته في قصر دوكس المعروف بقصر دوشكوف المنعزل. هناك قضى سنواته الأخيرة على نحو كئيب في القصر المأهول فقط بخدم حقيرين يسخرون منه، وليس له من رفيق سوى ابن أخيه كارلو أنجوليني وكلبته "فينيت"، بعدما أصيب بالإفلاس والإحباط إثر فشل روايته الفلسفية "إيكوزاميرون" التي نشرها في خمسة أجزاء سنة 1789. بناءً على نصيحة طبيبه، بدأ كازانوفا بكتابة قصة حياته باللغة الفرنسية أو كما يصفها بـ"حماقات الشباب"، فضلاً عن عدد من الرسائل والكتب التي بينت سعة معرفته ورهافته الأدبية، هو الذي جاب أوروبا كلها أيام عصر الأنوار.

3700 صفحة

كان من نتيجة هذه الكتابات مخطوطة ضخمة من 3700 صفحة اعتمد فيها على ذاكرته المدهشة، وعلى كم من الملاحظات والرسائل التي حرص على حفظها ثم إتلافها بعد كتابة السيرة التي روى فيها مغامراته منذ الطفولة، حتى الشعور بوطأة الزمن والشيخوخة وهي التي نشرتها سلسلة "لا بلياد" في حلتها الجديدة.

توفي كازانوفا في الرابع من يونيو سنة 1798، مجهولاً من الجميع، ودفن على عجل قرب كنيسة سانتا باربارا في دوكس.

تتميز الأجزاء الثلاثة من هذه السيرة الذاتية أو المذكرات الصادرة حديثاً تحت إشراف جيرار لاهواتي وماري-فرنسواز لونا باستنادها إلى المخطوطة الأصلية المكتوبة بيد كازانوفا نفسه، والمحفوظة في المكتبة الوطنية الفرنسية منذ سنة 2010، وبدقتها المتناهية مقارنة بالطبعات السابقة التي أساءت إلى النص الأصلي، حينما منح الناشرون أنفسهم الحق في إعادة كتابة بعض المقاطع، محرفين بذلك مضمون السرد. ولعلها تجدد صورة كازانوفا ككاتب من الطراز الأول، لا كمغامر ماجن وعاشق للمرأة. فقد حرر الناشران النص كما هو، في بنيته الأصلية، من دون أدنى تعديل، واحتفظا بلغة كاتبه الدقيقة والمرهفة، مبقيين على علامات الترقيم والوقف وترتيب الصفحات كما شاءها المؤلف، لكنهما أثبتا مراجعه واقتباساته في هوامش توضيحية أسفل الصفحات، إلى جانب الحواشي التي قدمت "ترجمة" للألفاظ والجمل اللاتينية أو المقاطع والتراكيب الإيطالية التي وردت في متن النص، والتي أثارت صعوبات في الفهم، كما قدما كماً من الملاحظات اللغوية التي يسرت النفاذ إلى روح السرد، بعدما ألحقا به عدداً من الملاحق التي ضمت كتابات لكازانوفا نفسه، فضلاً عن شهادات لبعض معاصريه الذين عرفوه وأحبوه وقرأوا نصوصه.

هذه "الإيطاليات" إن صح التعبير، هي ما يميز كتابة جياكومو كازانوفا. فبعيداً من صورة الأديب البارع الناطق بالفرنسية التي أوحى بها بعض النقاد، كتب كازانوفا بلغة فرنسية ممزوجة بالإيطالية على ما يعترف في مقدمة مذكراته، إذ يقول إن اللغة الفرنسية هي أخت لغته الأم وإنه يكتبها أحياناً على الطريقة الإيطالية، فيجدها أجمل ويحبها أكثر ويشعر بالرضا، معترفاً أنه لم يستطع في كتابته التخلص أبداً من التراكيب الإيطالية بسبب قصوره عن إتقان "لغة الرقي والدبلوماسية" التي بدأ بتعلمها في روما في الـ19 من عمره، لكنه لم يبدأ دراستها الجدية إلا سنة 1750 أثناء إقامته في باريس. غير أن هذه الهنات، بدلاً من أن تثقل مذكراته، منحتها طابعاً إنسانياً عكس شخصية صاحبها. ولعلها خصوصية أسلوبية، بعثت في النص روحاً طفولية مزجت الذكريات بالعاطفة وأضفت على السرد اندفاعاً جميلاً.

البندقية والسجن والهروب

يعود المجلد الأول من هذه الطبعة إلى مرحلة الطفولة والشباب، منذ الولادة في مدينة البندقية حتى الهرب من السجن والعيش في المنفى، وتحديداً في باريس عندما كان كازانوفا في الـ32 من عمره.

أما السنوات الممتدة من سنة 1757 إلى سنة 1763، والتي يسرد أحداثها المجلد الثاني، فقد كانت سنوات ازدهار. تنقل الشاب خلالها في كواليس السلطة، كرجل ثري لامع، لكنه ما لبث أن جر إلى الإفلاس، ذلك أن شغفه بالسحر و"الكابالا" والخيمياء وملاحقة الملذات والنساء سببت له، إلى جانب النجاحات، مشكلات جمة. فاضطر إلى الهرب من فرنسا أثناء حرب السنوات السبع والاختباء في أحد الأديرة خوفاً من التجنيد الإجباري، قبل أن يعاود مغامراته النسائية وأسفاره في أنحاء أوروبا كافة.

سنة 1763 والتي يغطي أحداثها المجلد الثالث، أقام كازانوفا، فترة، في لندن، حيث أصيب بداء الزهري الذي كاد يودي بحياته. غير أنه بعد تعافيه، بدأ بسلسلة من الرحلات قادته إلى ألمانيا والنمسا وروسيا وبولندا وإسبانيا، حيث حاول عبثاً استمالة الملوك ولعب دور في السياسية الأوروبية.

تتوقف المذكرات سنة 1774، عشية عودته إلى البندقية. فهل كان هذا التوقف نتيجة انقطاع عرضي، أم رغبة في عدم رواية النهاية؟

ليس في مقدورنا الإجابة عن هذا السؤال، لكن الخيبات والديون المتراكمة والمغامرات الغرامية وتبعاتها، فضلاً عن تقدم كازانوفا في السن واكتشافه وطأة الزمن ودنو ساعة الحساب أجبرته بتأكيد الانكفاء حتى وفاته سنة 1798.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قبل 300 عام إذاً وُلد كاتب لا تزال فرادته تلوح لنا من بعيد ولا يزال إرثه يملك القدرة على استفزازنا، ليس لأنه يتحدث عن الملذات والإغراء وحسب، بل لأنه يضع كل واحد منا أمام سؤال أساسي، قوامه قدرته على ابتداع علاقة حرة مع جسده ورغباته. كازانوفا، هذا الرجل الساعي وراء المال السهل، والذي لم يتردد لحظة في الانتظام في أعمال احتيال كي يمضي قدماً في حياته، يتبدى في هذه المذكرات كاتباً كبيراً يصوغ بلغة فرنسية مطعمة بإيطاليات بديعة، محطات من حياته الصاخبة والمليئة بالتناقضات.

لكن حياة هذا الرجل هي أكثر من مجرد سلسلة من المغامرات العاطفية والجنسية. هي مسرح مفتوح لتجربة إنسانية تنظر إلى الرغبة بوصفها طاقة خلاقة، وإلى اللذة والمتعة كفن في حد ذاته. كأن الجسد عنده مجال للتجريب، لا ساحة للخضوع والتقييد، أفق يتجدد كلما تفتحت فيه شهية الاكتشاف. جسد لا يرضخ لتأويلات الأخلاق والأحكام القيمية ولا يتنازل أمام رقابة السلطة الدينية أو السياسية، بل يتغذى من مواجهتها، جسد "متجاوز" لا يقبل أن يكون أداة للتكاثر أو وعاء للقوانين الموروثة، بل ذاتاً حرة تكتب وحدها مصيرها مغتنمة اللحظة والفرصة والحظ.

سيجد القارئ، بلا شك، متعة في الاطلاع على هذه المذكرات واكتشاف شخصية هذا المغامر كما تتبدى في سيرته. وفي الوقت نفسه سيواجه كاتباً حساساً وصاحب فكر عميق، لا تدعو قراءة نصه إلى مجرد حنين نوستالجي إلى ماض ولى، بل تمثل اختباراً حقيقياً لقدرة كل منا على مواجهة الحدود التي وضعها لنفسه، تلك التي تكبل رغباته وتحول جسده من مجال للانفتاح إلى ساحة للانضباط. حينها يفهم كيف دخل كازانوفا في سلسة "لا بلياد" كاتباً مخلداً يحتل مكانة مرموقة في عالم الأدب.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة