Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ثورات الشبيبة وعدوان السويس في مسرح الإنجليزي أوزبورن

صاحب مسرح الغضب لجأ في "لوثر" إلى التاريخ والدين كي يقنن أسلوبه في مجاراة بريخت

مشهد من تقديم لمسرحية "لوثر" لجون أوزبورن (غيتي)

ملخص

أسس الكاتب الإنجليزي جون أوزبورن تيار ما عرف بـ"مسرح الغضب" من خلال مسرحيته المؤسسة "أنظر إلى الوراء بغضب" معلناً منذ البداية أنه إنما ورفاقه في التيار، يضعون نصب أعينهم التخلص من "وصاية برتولد بريخت" الأيديولوجية عليهم

من الواضح أن ليس ثمة بين مسرحيات الكاتب الإنجليزي جون أوزبورن (1929 – 1994) عمل لحقه من الظلم، النقدي في الأقل، مقدار الظلم الذي أحاق بمسرحيته "لوثر" (1961) التي تتوسط مساره الإبداعي ونظر إليها عدد كبير من النقاد نظرتهم إلى عمل فني همه إعادة الاعتبار إلى الجانب البريختي في إبداع
أوزبورن الذي كان قد أسس، قبل ذلك، التيار الذي عرف بـ"مسرح الغضب" من خلال مسرحيته المؤسسة "أنظر إلى الوراء بغضب" معلناً منذ البداية أنه إنما ورفاقه في التيار، يضعون نصب أعينهم التخلص من "وصاية برتولد بريخت" الأيديولوجية عليهم.

ولئن كان أوزبورن قد لفت الأنظار حقاً عند بداياته في عام 1956 مع هذه المسرحية بالمعركة الكبيرة التي أعلنوا خوضها ضد بريخت فإن الحكاية سرعان ما بدت من نوع تلك الحكايات التي يخوضها الصغار ما إن يشبوا عن الطوق ضد كبارهم متوخين إحداث صدمة ترضي غرورهم الفتي. وذلك أنهم جميعاً ما لبثوا بعد سنوات قليلة من ثورة مسرح الغضب، وبعد أن تيقنوا جميعاً أن بريخت رحل ولن يعود– والحدثان، مسرح الغضب وموت بريخت تزامناً في العام نفسه، 1956– حتى خففوا احتقانهم ضد صاحب "أوبرا القروس الثلاثة" و"دائرة الطباشير القوقازية".

ولقد كان ذلك بالنسبة إلى أوزبورن بدءاً من مسرحيته "المدرب" (1957) التي سرعان ما وصفت بأنها بريختية خالصة... غير أن الذروة الحقيقية للعودة إلى بريخت تمثلت بالنسبة إلى أولئك النقاد أنفسهم في مسرحية عام 1961 مستشهدين على ذلك بالتتابع في بطولة المسرحيتين بين لورانس أوليفييه في دور آرشي رايس "المدرب"، وألبرت فيني، في دور "لوثر" من دون أن يعني ذلك في الحقيقة شيئاً.

عودة إلى جوهر "الغضب"

غير أن الحقيقة لم تكن كذلك. إذ مهما كان من شأن موضوع "لوثر" أن يبدو وكأنه يسير على خطى موضوع "غاليلو" كما صوره بريخت في مسرحيته التاريخية الشهيرة، فإن مسرحية أوزبورن تنتمي في الحقيقة ولو بصورة مباشرة إلى "أنظر إلى الوراء" بغضب ومن ثم يمكن احتسابها في سياق ذلك التيار الذي سيقول أوزبورن ورفاقه دائماً إنه لم يولد إلا من رحم ثلاثة مخلفات من الماضي القريب أو البعيد: الصراع بين الأجيال، الذي تمثل بالنسبة إليهم فنياً بصراعهم ضد التيار المسرحي الذي يعبر عنه مسرح التقليدي تيرنس راتيغان، وعلى الضد من المؤسسة البريطانية التي كانوا قد رصدوا انهيارها من خلال "هزيمتها" في العدوان الثلاثي الذي شنته مع الفرنسيين والإسرائيليين ضد مصر للحفاظ على قناة السويس في عام 1956، وأخيراً من خلال فورة آداب وفنون الطبقات العاملة البريطانية خصوصاً متضافرة مع قيامة فنون شعبية جديدة لا سابق لها في التاريخ البريطاني ولا حتى الأوروبي. كل ذلك على خلفية الحرب الباردة وانطلاق الأفكار الجديدة من وجودية وماركسية مشاكسة على الاشتراكيات التقليدية.

والحقيقة أن قراءة أكثر جدية وتاريخية يمكن أن تقرأ بها مسرحية "لوثر" لجون أوزبورن، لن تلبث أن تضعنا في صلب منطلقاته الإبداعية، لا في صلب المسألة البريختية تحديداً وإن كان لا بد لنا في السياق أن نتلمس نوعاً من تخفيف الحدة ضد بريخت نتج من رحيله بل حتى عن "اكتشاف" أنه لم يكن ستالينياً إلى الحدود التي كان يوصف بها، وأن عودته إلى ألمانيا "الشرقية" بعد منافي الحرب العالمية الثانية، قد وضعته على تماس سلبي مع تلك الستالينية التي كانت على أية حال من أبرز مناوئي مسرحه!

الصراع مع الأب

مهما يكن من أمر فقد يكون من المفيد التوقف هنا عند مسرحية "لوثر" نفسها لنذكر أنها مؤلفة أصلاً من 12 لوحة تتوزع على ثلاثة فصول تحاول وإلى حد كبير أن تتبع السياق التاريخي المعهود لحكاية مؤسس البروتستانتية نفسه، ذلك الداعية الديني الذي تصدى ذات يوم لما عده مركانتيلية الكنيسة البابوية متذرعاً بكون الكنيسة قد راحت تتاجر بصكوك الغفران مطالباً بكنيسة تعود إلى جذور الدين وبساطته، محتجاً على ممارسات لا تتفق مع تعاليم السيد المسيح (ونعرف طبعاً أن ذلك "الاحتجاج" هو الذي أعطى للمذهب الجديد وهو مذهب إصلاحي أولاً وأخيراً، اسمه فعرف دائماً بالمذهب البروتستانتي أي الاحتجاجي) وهذا الأمر لا تبتعد عنه المسرحية على أية حال. لكنها من ناحية أساسية تتعامل مع الحكاية كلها تعاملاً عائلياً وكأننا هنا في بيت جيمي بورتر بطل "أنظر إلى الوراء بغضب" ونتفرس في صراعه مع عائلته التي تمثل بالنسبة إليه السلطة السياسية التي لا بد له لكي يفتح آفاقاً مستقبلية له ولحياته، من أن ينتصر في صراعه معها، بمعنى أن يجسد غضبه على السلطة العليا من خلال تمكين غضبه على السلطة العائلية الصغرى.

ومن هنا لئن كان الصراع الذي يخوضه الراهب "الأغسطيني" في إرفورت الألمانية ضد الفاتيكان هو جوهر حكاية مارتن لوثر ومذهبه الاحتجاجي الإصلاحي، فإن ليس من الصدفة أن يفتتح أوزبورن لوحات مسرحيته بإجبار والد الطالب الفتي مارتن ابنه، على الالتحاق بدير تقليدي. ففي ذلك الإرغام الذي يحتج عليه الفتى نفس قوة القهر الذي تمارسه السلطات الكنسية العليا. وما اللوحات الباقية في المسرحية سوى تصوير متواز للصراع الذي يخوضه راهب شاب غاضب ويتطلع إلى الغد، على الضد من سلطات تتدرج في تصاعدها من الأب الحقيقي المهيمن على حياة ابنه وصولاً إلى ذلك الأب الكبير المهيمن على سدة العرش الفاتيكاني.

الغضب والظروف المخففة

وهكذا من المشهد الأول الذي يدخل الصراع العائلي مباشرة في ارتباطه بالصراع الديني ومن ثم الاجتماعي والسياسي، إلى المشهد الأخير بلوحته الختامية، حيث يعانق مارتن لوثر ابنه الوليد في حركة واعدة تفيدنا بوعد بأنه لن يمكن أن يرضى أبداً لابنه أن يعاني معه، ومن ثم مع السلطات العليا، ما عاناه هو تجاه أبيه حتى وإن كان الكاتب يجعل للأب هانز ومنذ مفتتح المسرحية ظروفاً مخففة إذ يجعله يبدي شكوكاً جدية ولكن مبهمة، تجاه ما يلاحظه من إفراط في التدين في الدير الذي يريد لابنه الانضمام إليه.

ومهما يكن من أمر، فلا بد من أن يلفت نظرنا على طول المسرحية ولوحاتها وفصولها، ذلك التناقض الذي يجعله الكاتب جزءاً من ردود فعل متعددة يبديها هانز لوثر والد مارتن الذي، وربما بالاستناد إلى أبعاد تاريخية، يمكن سيكولوجياً في الأقل أن يعد نوعاً من التخفيف المبرر للدور السلبي للأب في لعبة الغضب المتبادل بين الأجيال، حتى وإن كنا نراه بين لوحة وأخرى وبين فصل وآخر، كالشبح يظهر ويختفي حيناً عبر صراع ما مع ابنه، وحيناً عبر مواقف ساخرة من السلطات العليا تحفز الابن وتدفعه في طريق الاحتجاج وقد كف ذلك الاحتجاج في لحظات– مسرحية وإن لم تكن تاريخية– عن أن يكون مجرد صراع أجيال يتحول صراعاً محقاً ضد ممارسات تقف بالتعارض مع المصالح المشتركة للأكثرية.

لحظات شكسبيرية

بل ثمة لحظات لا يتوانى فيها جون أوزبورن عن أن يقول لنا في مسرحيته إن مارتن لوثر نفسه كان يمر في حقب يكون فيها هو نفسه مسؤولاً عن صعوبة خوضه علاقة حقيقية بينه وبين أبيه. ولعل في وسعنا أن نعزو هذا البعد إلى شكسبيرية ما، تتجلى في عجز هاملت عن الاستجابة لرغبات أبيه المشروعة.

ولعل ما يعزز هذا البعد ما نعرفه من أن أوزبورن نفسه كان قد بدأ في تلك المرحلة من مراحل إنتاجه المسرحي "يبحث" عن لقاء ما يجمع لديه بين شكسبير وبريخت ولكن دائماً تحت مظلة حال الغضب. الغضب الذي يحركه أوزبورن على أية حال، وفي الفصل الثالث واللوحات الأخيرة من المسرحية حين يرينا أن لوثر نفسه سيتحول في نهاية الأمر، بدوره إلى سلطة أخرى وذلك حين يرفض البروتستانتي الإصلاحي المؤسس، أن يدعم الفلاحين الألمان في مطالبهم المحقة، وذلك في الوقت نفسه الذي نجده فيه منضماً إلى العائلة من خلال اقترانه هو نفسه براهبة سابقة وإنجابه ولداً منها يبدو في المشهد الأخير وكأنه يعلق عليه آماله الكبرى بانتصار أكثر قوة في... صراع الأجيال.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة