Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بحثا عن الخزي في عالم يمتلئ بالوقاحة

في كتابه الجديد يبدد الفيلسوف الفرنسي فريدريك غروس العار عن العار مبشراً بقدرته على التغيير

العار لا يزال "حياً، لكننا لا نعرف أين يعيش حياته بالضبط" (غلاف الكتاب- "أمازون")

ملخص

يقول غروس "أعتقد أن الطموح الأساس لكتابي هو أن أعدد معاني ما نسميه العار، ففي نظري أنه بات جوهرياً - في عالمنا الغارق اليوم في الأزمات والحروب - أن نحافظ على تعدد المعاني، وأن ننقذ كرم اللغة التي تتألف من كلمات كثيرة المعاني أو مبهمة، فكان جهدي الأول هو تكثير معاني العار لأبرز ما فيه من حزن وغضب وتحريض... إلخ".

في مواجهة الويلات التي تعيشها الإنسانية حالياً، بدءاً بالتدهور المناخي، وحتى حروب التجويع، فضلاً عن شتى أشكال الظلم التي يفرضها البشر على بعضهم بعضاً، هل يمكن أن يكون العار هو الحل؟ هل يمكن أن يكون الإحساس بالعار، أو حتى بالخجل، مصدراً للقوة السياسية ودافعاً للتغيير؟ هل يمكن أن يكون إحساسنا بالعار من سوء أفعالنا، أو من تقاعسنا عن الفعل، محركاً لنا؟ ولعل سؤالاً مهماً بالقدر نفسه يكون جديراً بالطرح: هل لا يزال الإحساس بالخجل، والخوف من العار، قائمين بيننا، بعد عقود كثيرة من تلقينا أنه لا داعي أصلاً للخجل، لأن ما نفعله أو نكون عليه إن هو إلا نتاج حريتنا الفردية التي على الآخرين احترامها، مهما خالفت الأعراف أو الفطرة؟

يدلي فريدريك غروس الفيلسوف الفرنسي، أستاذ العلوم الإنسانية السياسية في معهد الدراسات السياسية بباريس، مؤلف كتاب "فلسفة المشي" بدلوه في هذا كله. في كتاب عنوانه "فلسفة العار: عاطفة ثورية"، صدرت حديثاً ترجمته إلى الإنجليزية بقلم أندي بليس، يبدد العار عن العار، مشيراً إلى بعض مظاهر حضوره وتأثيره، ومبشراً بقدرته على التغيير.

في حوار حديث معه، قال غروس إن "العنف دائماً يستعمل الكلمات الفقيرة المعاني. ولا تكاد كلمة تصبح أحادية المعنى حتى تكون أمراً أو إهانة. وما يهددنا اليوم هو القبول بأن للكلمات معاني واحدة، لأن اللغة حينئذ تصبح وظيفية جامدة لا تنفع إلا في تبادل المعلومات. واللغة حينما تتيح للمتحاورين أن يختبروا شكوكهم وتردداتهم، تصبح حينئذ فقط بشرية وسلمية".

يمضي غروس في حواره مع ندى طهراني لمجلة "بروتين فيشير"، إلى أنه أراد بكتابه عن العار أن يعدد معاني هذه الكلمة، بعدما بذلت البشرية، أو أقسام مؤثرة منها، خلال العقود الأخيرة جهوداً حثيثة من أجل محو المفردة من قاموسنا، ومن أنفسنا، فلا تكاد تذكر إلا لتأكيد أن العار عديم الجدوى والرحمة، وأنه لا يمكن أن نطور أنفسنا ما بقي يخيم علينا.

ما بعد العار

يقول غروس "أعتقد أن الطموح الأساس لكتابي هو أن أعدد معاني ما نسميه العار، ففي نظري أنه بات جوهرياً - في عالمنا الغارق اليوم في الأزمات والحروب - أن نحافظ على تعدد المعاني، وأن ننقذ كرم اللغة التي تتألف من كلمات كثيرة المعاني أو مبهمة، فكان جهدي الأول هو تكثير معاني العار لأبرز ما فيه من حزن وغضب وتحريض... إلخ".

تستهل نينا باور استعراضها للكتاب ["ديلي تليغراف" – الـ17 من مايو (أيار) 2025] بسؤال عما لو أننا تجاوزنا العار، وبتنا نعيش في "ثقافة ما بعد العار؟"، وعما لو كان يجدر بنا أن نتجاوز الإحساس بالعار؟

"من ناحية يذهب أصحاب الفكر التقدمي إلى أن العار الذي قد يشعر به شخص ما لكونه على سبيل المثال مثلياً أو بديناً هو ميراث من اتهامات تاريخية بالانحراف أو الإفراط يجب أن نزيحه كله جانباً. فـ’ثمة فخر في أن يكون المرء نفسه‘ كما يكتب غروس".

"وفي حين يقبل بعض المحافظين بعضاً من هذا، فإنهم يرون أن العار لا يخلو من قيمة، بعدما أصبح الغرب في القرن الـ21 عديم الحياء في الملبس والمسلك اللذين بات سمتهما الأنانية ومعاداة المجتمع. ووفقاً لهذه الرؤية، أدى تآكل العار تدريجاً - نتيجة للفردانية - إلى انحطاط الثقافة، والتباهي الضار بالسلوك الجامح، وبخاصة عبر الإنترنت، إذ يمكن كما يكتب غروس ’أن تقاس صورة المرء الآن كمياً فيتغير وضعها صعوداً وهبوطاً شأن أسعار الأسهم‘. ويفهم غروس هذه النزعة المحافظة باعتبارها رغبة في الرجوع إلى ’الأخلاقيات العتيقة‘ التي كان الإحساس بالعار فيها جزءاً من التكوين الداخلي للناس".

يرى غروس، بحسب ما تنقل عنه تقول نينا باور، إن الحداثة جعلتنا نعيش في ’مجتمعات بلا شرف‘، واستبدلت بـ’آليات العقاب المستندة إلى القواعد الأسرية والعشائرية‘ سلطة ’كيان قانوني عام (أي الدولة) وتعاملات تجارية (أي الرأسمالية) وتفاعل بين الحريات الشخصية (أي الليبرالية)‘. وفي ثقافة ما بعد الشرف هذه التي نعيشها اليوم، بات يستحيل العقاب بالعار.

"ومع ذلك لا يمكننا أن نتجاوز كلياً الخوف من العار الاجتماعي أو غواية الشماتة في عار الآخرين، وتأملوا البهجة التي ترونها عند تلبس أحد المشاهير بتجاوز الحدود الخفية لمتعة ما، أو صخب الابتهاج عند الهجوم الإلكتروني على شخص". فالعار في ما يرى غروس لا يزال "حياً وفي خير حال، لكننا لا نعرف أين يعيش حياته بالضبط، إذ يوجد في موضع غريب بين الخزي الذاتي ورواسب ما بعد الدين والضغط السياسي".

من أجل الشرف

يستعرض ألكسندر ستيرن الكتاب ["واشنطن بوست" – الـ14 من يونيو (حزيران) 2025] مستهلاً بالتفريق بين الإحساس بالذنب والإحساس بالعار، إذ "يكمن الفارق في فهمنا لمضاد كل من الاثنين. فانعدام الإحساس الذنب - أي البراءة - يعد بصفة عامة أمراً حميداً، في حين أن انعدام الإحساس بالعار، أو الخجل بالأحرى، ليس كذلك بالقطع. فهل يعني هذا أن العار إحساس حميد خلافاً لما يبدو؟ وهل يحرمنا نفورنا من الإحساس بالعار - بحسب ما يتساءل غروس - من مورد ثمين؟".

يرى غروس بحسب ما يكتب ستيرن أن الإحساس بالذنب إحساس عازل يأكلنا من الداخل، في حين أن العار "أمره مختلف، فهو مادة كثيفة مستشرية، وحال موضوعية تغمر المرء دفعة واحدة، وتختلف عن الذنب في بعدها الجمعي، إذ تنزع إلى الانتشار كالعدوى إلى ما يجاوز الفرد. ففي ’مجتمعات الشرف‘ لا يمكن احتواء العار الفردي، فإن عجزت فتاة عن اتباع قواعد المجتمع الجنسية فإن العار سيحل على الجماعة حلول غيمة مكفهرة. ويمكن التكفير عن هذا العار الجمعي، في أقصى صوره، بالقتل من أجل الشرف الذي لا يزال قائماً في بعض الثقافات".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"ويرى غروس أنه مع تلاشي أهمية الشرف في الغرب الصناعي تولت الأسرة البرجوازية مسؤوليات العار عن العشيرة جاعلة العار ’أقل شعائرية وأكثر سيكولوجية‘، وقد كان العار من أفتك أسلحة المجتمع، وهو الذي قيد النساء والطبقات الدنيا والأعراق المضطهدة. وفي حين كان العار ذات يوم ينجم عن أفعال المرء، فقد بات المهمشون مدفوعين دفعاً إلى الإحساس بالخطأ من جراء وجودهم المحض. ويستشهد غروس هنا بقول الشاعر الأفروأميركي الرائد دوبوا ’ما أغربها من تجربة إذ يكون المرء هو نفسه المشكلة‘".

"كان لجانب العار المظلم هذا دور أكيد في تشويه مفهوم العار. وابتداء بحركات التحرر الفردي والجنسي في الستينيات والسبعينيات من القرن الـ20 بات العار مفهوماً باعتباره مشكلة سيكولوجية. وذهب نقاد من أمثال كرستوفر لاش إلى أن محاربة العار المبررة - وإن تكن علاجاً نفسياً واضحاً - قد مضت إلى أبعد مما ينبغي في الارتياب بالعار".

وعلى رغم ذلك، يرى غروس كما سبق القول أن العار لا يزال حاضراً و"حياً، وبخير حال"، ويكفي في رأيه لكي نتأكد من ذلك "أن نتصفح الإنترنت لنرى أن العار لم يلق الهزيمة التامة. ففضائح الإنترنت تشترك في بعض السمات مع ’العار العتيق‘"، وتصلح في رأي الفيلسوف الفرنسي أن تكون بديلاً لآليات العار العتيقة أو البائدة.

غير أن معالجة غروس لعار الإنترنت لا تعترف في ما يرى ألكسندر ستيرن بأن وسائل الإعلام الاجتماعي "بحكم تصميمها عديمة الحياء، إذ هي مصممة لترويج المرء لنفسه. وعليه فإن أطنان التشهيرات، وهي في ذاتها عديمة الحياء، ليست سبلاً لفرض القواعد الأخلاقية، وإنما هي سبل لاستغلال إذلال الآخرين في رفع شأن الذات. فبدلاً من أن يكون تشهير الإنترنت عودة للعار القديم، فإنه يبدو أشبه بمحاولة لاستعمال مفردات أخلاقية في تصفية حسابات افتراضية تافهة".

يضرب ألكسندر ستيرن مثلاً بالرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب، "الذي لا يبدو أنه عاجز عن الإحساس بالخجل، لأن الفضح بالنسبة إليه وضع جيد للعمل، لأنه قربه من قلوب الناخبين الذين كانوا يشعرون شخصياً بالعار" إذ يقيسون أنفسهم إلى النخب. وثمة سبب آخر يتمثل في أن الوقاحة (أو بحسب تجميلها: قول الشيء على حقيقته) ورفض الاعتذار قد أعطياه أصالة لا أخلاقية في مواجهة مؤسسة خاضعة للأهواء فاقدة للثقة. فقد حدث خلال حملته عام 2016 مثلاً أن تباهى ترمب بأنه ’شخص شديد الجشع‘، وسخر من سجل جون ماكين الحربي الناصع".

المتلصص السارتري

"لكن انعدام حياء ترمب أكبر من محض رفض نرجسي للأعراف الاجتماعية التي تعترض طريقه إلى تقدير ذاته، فهو بالأحرى عبادة لآلهة جديدة هي الإشباع الذاتي غير المحدود، وعدم الخضوع المطلق للمحاسبة، والثروة التي تيسر كلا الأمرين. وينزع كتاب غروس إلى التركيز على الجذور السيكولوجية لانعدام الحياء المعاصر مع إهمال النقود التي غالباً ما تكون وقوداً له. فبوسع فاحشي الثراء أن ينسحبوا فعلياً من المجتمع، سواء من فضائه المادي أو من إملاءاته الأخلاقية، فلا يمثل التهديد بالنبذ شيئاً لمن لا يريدون في المقام الأول أن يكون لهم جيران".

"وفي غياب سردية تظهر مدى تحول النقود إلى بديل للشرف، أو تهدد بتحويل العار إلى عقاب في السوق، فإن آمال غروس بأن ينبعث العار ليست أكثر من علامة تضامن تبدو واهية جوفاء، ففي رأيي أن العار لا يكون دافعاً معقولاً للتغيير إلا بقدر ما يكون انعكاساً لما يقدره مجتمع ما بالفعل".

 

يلفت ألكسندر ستيرن النظر إلى ما يعده أفضل أقسام الكتاب، إذ "ينظر غروس في الكونفشيوسية والفلسفة الإغريقية القديمة ليستخرج منهما فهماً إيجابياً للعار. فالعار في الكونفشيوسية ينمي مشاعر التقوى والإحساس بالدين من دون أن يتيح لهما أن يصبحا ’مبالغات ذات أثر عكسي وتظاهراً عديم الجدوى‘. وفي الوقت نفسه يتعلق العار في كتابات أفلاطون وأرسطو بتخيل صورة سلوك الأنا في أعين الآخرين، بما يرغم الأنا على محاكمة نفسها من وجهة نظرهم. ويمضي غروس إلى حد القول إن العار بهذا المعنى هو الغاية الجوهرية للفلسفة: فالتساؤل السقراطي يلحق بنا العار إذ يرغمنا على تأمل جهلنا. وهو يفضح جهلنا وتبعيتنا، ويستلنا من ذواتنا التي قد يدفعنا إلى الاختباء فيها إحساسنا بالذنب".

ويشير غروس أيضاً إلى ما قد يعد أشهر مثال فلسفي للعار، أي شخصية "توم" المتلصص التي ابتكرها جان بول سارتر، إذ يصف سارتر متلصصاً مستغرقاً في دراما خاصة يراقبها خلسة من خلال ثقب مفتاح شقة جاره، حين يستمع فجأة إلى وقع خطوات صاعدة الدرج من خلفه. "وفي لحظة، يتكثف وعيه بنفسه بوصفه موضوعاً لحكم شخص آخر مجهول، ويرى نفسه مرئياً خلال تلبسه بفعل الرؤية. وتشير قصة سارتر هذه إلى أن العار لا يوقفنا عن أن نكون أنفسنا مطلقاً، بل إنه، على العكس، ما يجعل من البشر ما هم إياه، أي يجعلهم مترابطين معتمدين بعضهم على بعض".

في حواره مع ندى طهراني يقول غروس إن "أهمية الشعور بالعار الآن تكمن، في ما يبدو لي، في أن الاحتياج إليه بالغ القوة، ولكن أيضاً بمعانٍ كثيرة، لأن الوضع الإنساني في غزة عار على الإنسانية، وكذلك الضربات الروسية لأوكرانيا. والحديث عن العار في مواجهة مذبحة للمدنيين يكون تعبيراً عن سخط وغضب شديدين من عجز المرء وقلة حيلته، لكن في المقابل، يمكنني القول، على مستوى مجتمعي، إن العار أصبح عاطفة أساسية في زمننا بسبب طبيعة النرجسية المعاصرة، فهي نرجسية خالية من المحبة والبهجة، نرجسية حزينة ومرهقة لأنها تتعلق باستعراض المرء في كل لحظة أنه سعيد وفي خير حال، فنحن نخاطر بأن نكون عبيداً للعار، وفي الوقت نفسه نخاطر بفقدان أي فرصة في اللجوء إلى أنفسنا".

شجاعة الحقيقة

تكتب نينا باور أن فريدريك غروس لا يبدي في "فلسفة العار" اهتماماً كبيراً بسعة معارفه، لكنه يعتمد في كتابه هذا على نطاق استثنائي من الأوصاف الأدبية والدينية والتاريخية والسينمائية والتحليلية النفسية للعار من الممثل والسينمائي جون كاسافيتس إلى فرانز كافكا، ومن اغتصاب لوكريشيا إلى استكشاف بريمو ليفي لعار النجاة من معسكرات الاعتقال. ويقسم غروس العار إلى ثلاثة أنواع: عار ما بعد حدث ما وعار ’لماذا أنا؟‘، وعار العالم".

"وشأن كارل ماركس، الذي أعلن أن ’العار ثورة في ذاته‘، يرى غروس في النوع الثالث من العار، أي عار العالم (مثلما يجسده بريمو ليفي) قدرات كامنة رائعة. نعم، يمكن للعار، وهو مزيج من ’الحزن والغضب‘، أن يقودنا إلى الاكتئاب، والاستياء من الذات و’الانطواء الانفرادي‘، لكن غروس يذهب إلى أنه يمكن أن يقودنا أيضاً إلى صياغة ’مسار ناري مشرق يغيرنا ويضرم نار الغضب الجماعي‘، فالذين يتعرضون للانتقاد بسبب هويتهم، أو يساقون إلى الإحساس بالعار من فقرهم أو عرقهم أو جنسهم، قد يكشف لهم العار الإطار الذي يضم داخله مجتمعاً سياسياً ممكناً. ويكتب غروس ’إننا في حاجة إلى خيال كي نشعر بالعار‘".

"ولكن على رغم أن غروس يقيم حجة نظرية عظيمة للثورية الكامنة في العار، فهو لم يقترب بي قط من اليقين بأن تحويل المرء عاره كيماوياً إلى غضب جماعي في الواقع هو الأسلوب (أو المزاج) الأكثر فاعلية للتغيير الاجتماعي. ولكن غروس يصيب، إذ يشير في موضع ما إلى أن العار هو ببساطة ’التعبير عن رغبة يائسة وصريحة في نيل الإعجاب‘. وفي هذه الحال تكون شجاعة الجهر بالحقيقة والدفاع عنها، مهما ندر أنصارها، هي الطريقة المثلى لمواجهة العار، وكل فرد لديه الشجاعة الكافية هو فرد قادر على القيام بذلك".

العنوان: A Philosophy of Shame: A Revolutionary Emotion

تأليف: Frédéric Gros

الترجمة إلى الإنجليزية: Andy Bliss

الناشر: Verso

المزيد من كتب