ملخص
بقدر تعدد وتصاعد وقائع العنف مجتمعياً في مصر تتـفـرّق أسباب ظهوره أولاً وانتشاره ثانياً، فما بين عوامل اجتماعية وأخرى دينية وثقافية، متضافر معها كذلك أسباب اقتصادية وأمنية وسياسية تتجلى السلوكيات العدوانية، إذ تنسجم كل تلك الأسباب مع بعضها بعضاً بمقادير متباينة فينتج عنها الخلل أو التحلل الأخلاقي الذي يتجسد عنفاً،
شهد الشارع المصري تحوّلات اجتماعية عديدة خلال السنوات الأخيرة، لكن ما يبدو لافتاً هو الاتجاه نحو سلوك العنف بين بعض أفراد المجتمع، فعلى الرغم من أنه لا توجد إحصاءات رسمية تفيد بنسبة العنف في المعاملات اليومية بين المصريين فإن مطالعة عابرة لأخبار الحوادث والجرائم تشير إلى أن ثقافة العنف أصبحت منتشرة، بل ومتحوّلة من لفظي معتاد إلى بدني تستخدم فيه الأسلحة البيضاء وأحياناً النارية والأدوات الحادة، فضلاً عن أن المقاطع المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي أو التغريدات التي يشتكي أصحابها من تعرضهم لإيذاء من قِبل آخرين تكشف إلى أي مدى أصبحت الظاهرة حاضرة في لغة التواصل المجتمعي الإنساني بين المصريين.
وقبل أيام، عرفت مصر وقائع عنف عديدة، فمن جنوب البلاد حيث مدينة أسوان ذُبح مسن على يد نجله إلى شمالها في مدينة بلطيم قُتل طفل على يد ثلاثة من أصدقائه برصاص ناري سكن رأسه عدة أيام، وما بينهما من حوادث متفرقة، على نحو اعتداء طالب على والدته بـ 16 طعنة بسكين في الغربية، ومقتل شاب في منطقة فيصل بالجيزة حاول الدفاع عن أحد أفراد أسرته من واقعة تحرش، وكذلك الحادثة التي عُرفت إعلامياً بطفل المرور الذي تعدى على أحد أصدقائه بعصا بيسبول فأودعه المستشفى بين الحياة والموت.
وفي شارع الهرم نشبت مشاجرة بين ضابط شرطة وسائق على أولوية المرور، قتل على أثرها الأول الثاني بالرصاص، كما اعتدى شخصان بآلة حادة على تاجر ذهب بأحد شوارع رشيد فأردياه قتيلاً بسبب خلافات مالية، وفي أسيوط لقي أستاذ أكاديمي مصرعه في مشاجرة مسلحة سببها خلافات عائلية، بينما قتل ضابط شرطة بأحد البنوك بآلة حادة في محافظة الفيوم حاول فض اشتباك بين أحد العملاء وموظف البنك.... والقائمة تطول.
وبقدر تعدد وتصاعد وقائع العنف مجتمعياً في مصر تتـفـرّق أسباب ظهوره أولاً وانتشاره ثانياً، فما بين عوامل اجتماعية وأخرى دينية وثقافية، متضافر معها كذلك أسباب اقتصادية وأمنية وسياسية تتجلى السلوكيات العدوانية، إذ تنسجم كل تلك الأسباب مع بعضها بعضاً بمقادير متباينة فينتج عنها الخلل أو التحلل الأخلاقي الذي يتجسد عنفاً، وفق ما رصده محللون اجتماعيون في حديثهم إلى "اندبندنت عربية".
هل فقد الإنسان المصري تسامحه؟
يعرّف الاجتماعيون العنف بأنه سلوك أو فعل يتسم بالعدوانية يصدر عن طرف قد يكون فرداً أو جماعة أو طبقة اجتماعية بهدف استغلال وإخضاع طرف في علاقة قوة غير متكافئة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، أي إلحاق الأذى بالآخرين عن طريق استخدام القوة، وهو ما يعني التخلي عن التسامح في العلاقات الإنسانية، فهل الشخصية المصرية تميل إلى العدوانية والعنف بطبيعتها؟ وإذا كانت الإجابة لا فكيف فقد الإنسان المصري تسامحه مع الآخر؟ ولماذا ومتى؟
من جانبه يُبدي أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة سعيد المصري تحفظه على استخدام مفهوم "الشخصية المصرية" في الخطاب الثقافي والسياسي، واصفاً إياه بـ"غير الدقيق"، ومفضّلاً استخدام مصطلحي "المجتمع المصري" أو "الثقافة الشعبية المصرية" حينما يكون الحديث مرتبطاً بظواهر اجتماعية كما العنف. مؤكداً أنه "لا توجد دلائل علمية على وحدة المصريين في سمات شخصية واحدة".
وعليه، يذهب المصري إلى أنه "علمياً لا يمكن ربط أي حوادث عنف بميول عدوانية يتسم بها كل المصريين". موضحاً المجتمع المصري "متنوع في مناطق ثقافية مختلفة وشرائح طبقية متباينة وفئات تعليمية متعددة، إضافة إلى اختلافات أخرى بحسب النوع والعمر والديانة والمكان (حسب الريف والحضر والبدو والمناطق الساحلية)". مشدداً على أنه "لا يجوز التعميم المبالغ فيه بالقول إن المجتمع المصري فقد قدرته على التسامح، نظراً لوجود اختلافات في درجات التسامح والتعصب والتطرف بين كثير من السكان في المجتمع".
وبينما تجزم أستاذ علم الاجتماع بجامعة بنها هالة منصور، أن الشخصية المصرية "لم تكن يوماً تميل إلى العنف والعدوانية"، إذ إنها بوجه عام تتسم بـ"قدر من الطيبة والتسامح، وقادرة على التفاعل الإيجابي مع الآخر وتقبله"، مستشهدة بـ"استيعاب المجتمع المصري جنسيات متباينة بودّ" فإنها في الوقت ذاته تشير إلى أن المجتمع شهد تغيرات أنتجت "أنماطاً من الشخصيات تختلف عن بعضها، من بينها من هو غير سويّ" وفق تعبيرها.
وتقدّم منصور تشريحاً اجتماعياً تاريخياً موجزاً يدلل على أن ظاهرة العنف تشهد ارتفاعاً من خلال جرائم أصبحت غريبة على المجتمع، ما تراه "وضعاً طبيعياً"، خصوصاً أن المجتمع المصري "شهد هزات عنيفة أثرت في الشخصية بداية من تحوّل نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري، وثورة يوليو (تموز) 1952 وما تبعها من متغيرات اجتماعية، وبعدها نكسة 1967 التي أثرت في ثبات ويقين الإنسان المصري، ثم عودة الروح في انتصار أكتوبر (تشرين الثاني) التي بددها الانفتاح الاقتصادي وما صاحبه من صعود أصحاب الأموال وتدهور الحالة الاقتصادية إلى أن وصلنا إلى العام 2011 وانفجار الشارع المصري وما تبع ذلك من مشكلات اجتماعية واقتصادية أفقدت المجتمع عديداً من القيم الاجتماعية الأصيلة". مشددة على أن الشخصية المصرية "أبعد أن يكون العنف طابعاً أصيلاً بها".
في السياق ذاته يصف أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية وليد رشاد زكي، الإنسان المصري بـ"السماحة"، معتقداً أن الأمر "يعود إلى جغرافية مصر حيث وسط العالم"، وفق تصوره. لكنه في الوقت ذاته يؤكد أن تحوّلات اجتماعية، وقيمية، ونفسية وشخصية طرأت على المجتمع جعلته ينحو إلى العنف سلوكياً.
الدراما... المتهم دائماً
في كثير من الأحيان يتغير السلوك البشري بفعل التقليد والمحاكاة، الذي يعرّف علمياً بنظرية التعلُّم الاجتماعي، إذ يكتسب الإنسان سلوكه وتصرفاته من خلال التعلم والقدوة. ومن هنا تشير دراسات اجتماعية عديدة إلى ما تسميه بـ "العنف المتلفز"، الذي يتشبّع من خلاله الجمهور بالسلوك العدواني من مشاهد العنف في الدراما.
وفي الرؤية ذاتها، تحمّل هالة منصور الدراما والقائمين عليها في مصر المسؤولية الأولى والأساسية للعنف المجتمعي. تقول، "المجتمع المصري أصيب بعدوى كبيرة من المظاهر الدرامية السيئة والممارسات العنيفة غير المبررة، بعدما أصبحت المسلسلات والأفلام مراكز تجريب على الجريمة والبلطجة، إذ تسرّب شعور عام بأن ما تصوّره الدراما هو حالة عامة بالمجتمع، إضافة إلى أن الشاشة تقدم هؤلاء البلطجية وكأنهم نجوم مجتمع، بالتالي تصبح البلطجة والعنف نوعاً من أنواع الرجولة أو البطولة".
وبينما جعلت منصور الدراما المسؤول الأساسي عن العنف فإن وليد زكي يراها "عاملاً مساعداً" في تفشي العنف. موضحاً "لا يجوز على الإطلاق أن نقول إن الدراما لعبت دوراً رئيساً في المجتمع المصري، لكن أدت دوراً مع الشباب والنشء، باعتبارهم الفئة الأكثر تأثراً بالأحداث الدرامية أو السينما، فاتجه البعض إلى تقليد الشخصيات والانبهار بها ومن ثمَّ الاحتذاء".
لكن سعيد المصري يرى أن ربط العنف بالدراما بشكل مباشر فيه "قدر من التبسيط". ففي تقديره الدراما العنيفة "لا تؤثر سلباً في سلوك الجمهور إلا في حالتين فقط هما: الفئات الهشة من المشاهدين والمضطربين سلوكياً سواء من الناحية النفسية أو الاجتماعية الذين يخلطون بين الواقع والخيال، فيقلدون سلوك الممثلين في العنف، والحالة الثانية تتعلق بالتأثيرات التراكمية البعيدة المدى لوجود مشاهد عنف مكثفة، إذ هذا التكثيف بعيد المدى يمكن أن يخلق استجابات عنف تحت تأثير المحتوى الدرامي العنيف".
ما يعتقده متخصصو علم الاجتماع من أن الدراما سبب في نشر العنف يراه أهل الفن تحاملاً غير مبرر، وتجاهلاً للصورة الكاملة للمجتمع المصري، وفي القلب منها وسائل التواصل الاجتماعي وما أحدثته. يقول الناقد الفني طارق الشناوي، في مقال بعنوان "عنف الواقع وقسوة الدراما" (2014)، "تحميل الدراما كل خطايا المجتمع يحمل قدراً من التسرع والاستسهال. نهايات القتل والاغتيال على الشاشة هي نتاج لعنف وقبح علينا أن نواجهه أولاً في الشارع قبل أن نبدد طاقتنا في ملاحقة مستحيلة للصورة عبر الفضائيات".
ويتساءل الشناوي، "هل على الدراما أن تجمّل الواقع وتغض الطرف عما نراه ونعايشه من قبح أم أن دورها الأساسي هو الفضح والكشف؟ هل الجريمة تنتظر بالضرورة حافزاً خارجياً يدفعها للانطلاق، أشهر قاتلتين في التاريخ المصري والعربي المعاصر ريا وسكينة أقدمتا على الجريمة البشعة وقتلتا العشرات قبل انتشار السينما واختراع التلفزيون؟ وأخيراً هل الشارع المصري الآن هو نفسه الشارع في الخمسينيات من القرن الماضي".
وتقريباً منذ العام 2016 تأتي الوجبة الدرامية في مصر خصوصاً برمضان محمّلة بمشاهد عنف وسلاح وتجارة مواد مخدرة، إذ أصبحت تلك الخلطة التي تبلورت درامياً مع مسلسل الأسطورة بطولة محمد رمضان وإخراج محمد سامي حاضرة في غالبية الأعمال كان آخرها مسلسل "سيد الناس" للفنان عمرو سعد والمخرج ذاته الذي واجه انتقادات مجتمعية عديدة.
وتوازياً مع الدراما تحفل أغاني المهرجات، التي تحصد ملايين المشاهدات على قنوات يوتيوب في مصر ولا تخطئها الأذن في الشوارع ووسائل المواصلات، بكلمات تتغنى بالسلاح واستخدامه والعنف على وقع موسيقى ودقات صاخبة مع أصوات تشبهها.
في أحد المهرجانات الذي يفخر المؤدي بسلاحه ويسأل هل من معارك؟ تقول كلمات الأغنية، التي حصدت أكثر من 40 مليون مشاهدة رغم إنتاجها منذ أشهر قليلة: "أنت دخلت في شارع خطر لازم تطلع منه بدم... باصحى باسن سلاحي وبانزل أقول هل يوجد حد طالبني... حد عاوز يتعارك أنا موجود مين فيكو عايز يلاعبني... واقف بالكسّاحة والكلب بادوّر على أبطال تحاربني".
وفي مقطع آخر يقول المؤدي "أنا زيّ ما أنا... شادد حيلي بتعامل ملكي وميري... صاحبي دراعي، قرشي زميلي، وسلاحي في جنبي وجاهز". محدداً مصير من يفكّر في مواجهته بأن "اللي بييجي معايا في حكاية بنحطوا جنب الأموات".
يشار إلى أن الكلمات المقتبسة من المهرجان هي التي لاقت تفاعلاً واسعاً من قِبل المستمعين، إذ علقوا عليها بأنها "الأفضل، والأجمد والأجرم والأموت والأفجر"، وأخيراً "طرش الطرش"، ما يعني أنها في مصاف المهرجانات وفق مستمعيها.
أي دور للظروف الاقتصادية الضاغطة؟
ثمة اتفاق بين فقهاء علم الإجرام أن الظروف الاقتصادية المتدنية للمجتمعات تمثل أرضاً خصبة لارتكاب السلوك الإجرامي ومنه العنف، وهو ما يشير إليه وليد رشاد زكي، الباحث الرئيس لدراسة موسّعة بعنوان "الجرائم البارزة في المجتمع المصري الأسباب والتداعيات وسُبل المواجهة"، إذ يربط بين جرائم العنف المرتبطة بالسرقة والظروف الاقتصادية من ناحية وكذلك العنف داخل الأسر الذي يكون ناتجاً عن ضغوط اقتصادية بين الزوجين في الإنفاق ما يولد نوعاً من أنواع الجرائم.
الأمر ذاته يؤكده سعيد المصري، يقول "بدلاً من أن توحّد الأزمة الاقتصادية الأسر فإنها يمكن أن تفرّقهم بالعنف الذي يقوّض رصيد التضامن الاجتماعي بينهم". موضحاً "يمكن لبعض مظاهر العنف أن تحدث داخل الأسر المحدودة الدخل بسبب عدم القدرة على إدارة حياتهم اليومية في ظل ندرة الموارد المالية، قد تحدث مشاجرات بين الزوج والزوجة وكلاهما يتهم الآخر بالتقصير رغم أن السبب الحقيقي لهذا التقصير يرتبط بارتفاع مستويات التضخم".
وتتفق هالة منصور مع الرؤية ذاتها من أن الظروف الاقتصادية الصعبة تؤدي إلى ضغط نفسي لدى العائلات المصرية يُترجم إلى عنف. لكنها تشير إلى تفشي "ظاهرة الفساد في المجتمع المصري بدرجة كبيرة"، على حد وصفها. موضحة "الظروف الاقتصادية ضاغطة على كل فئات المجتمع، لكنها وسيلة مربحة للفاسدين والقادرين على استغلال المواقف مما يؤدي إلى ظهور حالات العنف داخل المجتمع نتيجة لذلك".
وتعيش مصر ظروفاً اقتصادية ضاغطة، فمنذ العام 2016 أجرت القاهرة إصلاحاً اقتصادياً، كان مأمولاً أن يكون طموحاً على المستويين الرسمي والشعبي، تضمّن إصلاحات مالية ونقدية، ألقت بتداعيات سلبية على حياة المصريين بعدما تعرّض برنامج الإصلاح لمحطات تعثر عديدة منها أزمة الحرب الروسية وكورونا.
وعلى أثر الإصلاح الاقتصادي فقد الجنيه المصري أمام الدولار الأميركي نحو 40 في المئة من قيمته (اقترب من 50 جنيهاً بعدما كان في 2016 نحو 7 جنيهات مطلع العام و20 جنيهاً في نهايته)، ما انعكس في ارتفاع أسعار غالبية السلع اليومية والأساسية، وكذلك قفزات متتالية بنسب التضخم (ارتفع إلى 16.8 في المئة مايو الماضي) والبطالة (بلغت معدل 6.4 في المئة من إجمالي قوة العمل)، ورفع جزئي للدعم عن الوقود والخبز، وأخيراً فقدت رواتب المصريين قيمتها، فارتفعت نسبة الفقر في البلاد حسب تقديرات البعض إلى ما يجاوز الـ 50 في المئة.
وبحسب مؤشر قياس الجريمة في قاعدة البيانات (نامبيو) خلال عام 2024، فإن مصر تحتل المركز الـ 18 أفريقياً في معدلات الجريمة بمعدل 47.3، والـ 65 عالمياً، والثالث عربياً، بسبب تفشي ارتكاب الجرائم المختلفة. لكن تلك القياسات تتناقض مع الرواية الرسمية في مصر التي تذهب إلى أن معدل الجريمة في البلاد شهد انخفاضاً، إذ قال وزير الداخلية محمود توفيق في تصريحات احتفالاً بعيد الشرطة المصرية الـ 73 (يناير 2025) إن معدل الجريمة انخفض 14 في المئة عن العام الذي سبقه.
مؤسسات التنشئة غائبة والأسر تبني أجساداً لا عقولاً
يبقى رهان مواجهة الظواهر الاجتماعية الشاذة في المجتمعات كافة قائماً على مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأساسية في البلاد، خصوصاً أن غالبية حوادث العنف التي رُصدت مؤخراً يأتي النشء عاملاً مشتركاً بين غالبيتها، فمن التعليم التي تحوّلت مدارسها إلى ساحات للعنف، مروراً بالثقافة التي تخلت عن دورها في تهذيب المجتمع المصري سلوكياً وثقافياً مثلما كان، إلى الإعلام الغارق غالبيته في قضايا الترند وملاحقته بعيداً عن الهدف الأسمى وهو بناء الإنسان، في وقت يواجه تحديات رقمية وافتراضية تؤثر في الأجيال المقبلة.
يصف سعيد المصري أوضاع مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأساسية في مصر بـ "المأسوي"، إذ إنها "عاجزة عن أداء دورها الاجتماعي". موضحاً "نظامنا التعليمي يتسم بالضعف الشديد، والمؤسسة التعليمية غير قادرة على القيام بأدوار ثلاثة محورية في حياة ما يقرب من 25 مليون طالب (الأطفال والنشء والشباب)، وهي: البناء المعرفي، وبناء المهارات المهنية، وبناء الوعي الاجتماعي". محذراً "لدينا ما يقرب من 18 مليون مراهق في مرحلة فارقة من أعمارهم لا يجدون مؤسسات تعليمية وثقافية وإعلامية تستهدف بناء وعيهم ووجدانهم".
وفي شأن المؤسسات الثقافية والإعلام يقول المصري، "غير مهيأة للقيام بدور محوري في التنشئة الاجتماعية، بخاصة في ظل عدم ارتباط سياساتها الثقافية بالتنمية البشرية، وفي إطار ضعف إمكانياتها، وفي ظل انتشار الإعلام الجديد الذي يخترق حياة الأطفال والنشء والشباب ويبتلع طاقتهم وجهدهم واهتمامهم بكل سهولة، إذ أصبحت وسائل الإعلام الوعاء الذي يحتكر كل المتناقضات: التسلية، وتشتيت الانتباه، والتوعية، وتزييف الوعي، ونشر التعصب، وتسطيح الوعي والتدين، والتحرش، وممارسة الفاحشة، والعنف.. الخ".
بدورها تربط هالة منصور بين خطاب المؤسسات الثلاث: التعليم، والثقافة والإعلام ومدى ظهور العنف أو انعدامه في المجتمع، في إشارة إلى إخفاقها في رسالتها، مؤكدة أنه "إذا كانت لغة التعليم مع لغة الثقافة مع رسالة الإعلام قادرة على إرساء القيم الإيجابية وتعزيز قيم الإنسانية والإنسان، والحفاظ على الحقوق ومناهضة كل ما هو سلبي هنا ستكون البيئة طاردة أو مقاومة للعنف، لكن إذا فشل التعليم وتحولت الثقافة والإعلام إلى أداة داعمة للعناصر الفاسدة في المجتمع أو تروّج بطريقة أو بأخرى للقيم الفاسدة هنا تكون مؤازرة لظاهرة العنف في المجتمع".
وفي سياق التنشئة يظل دور الأسرة سابقاً وفاعلاً ومؤثراً، بوصفها المؤسسة المجتمعية الأسبق على التعليم والثقافة والإعلام، فإلى أي مدى تراجع دور الأسرة؟ وما أسباب ذلك؟ ولماذا غابت سلطة الأب والأم المرجعية في وقت بدت سلطات أخرى أكثر تأثيراً على رأسها الإلكترونية؟
يتفق سعيد المصري وهالة منصور على أن طاقة الأسرة المصرية انصرفت إلى بناء الأجساد بدلاً من العقول. موضحين، في حديث شبه متطابق، أن غالبية الأسر، خصوصاً شرائح الطبقة الوسطى ومحدودي الدخل، تواجه معضلة كبيرة في رعاية الأبناء، إذ تدبير الأعباء المادية للطعام والكساء والإنفاق على مصروفات التعليم وتدبير احتياجاتهم اليومية، ما يعني الانشغال فقط بتوفير لقمة العيش، ومحاولة النجاة لمجرد البقاء على قيد الحياة هم وأولادهم، وفق توصيفهما.
ويزيد المصري بالقول، "في الشرائح الفقيرة يستخدم الأطفال مورداً اقتصادياً يُعين على تحمل نفقات الأسرة، وفي ظل هذا الوضع يمكن للصغار في شرائح اجتماعية محددة أن يكتسبوا ثقافة خارج الأسرة تجعل العنف أسلوباً للحياة".
ويشير وليد رشاد زكي إلى ما يسميه "وهنْ العلاقات"، فالأسر المصرية، وفق تقديره، "تعاني وهناً اجتماعياً، أصبحت معه العلاقات الأسرية ضعيفة، فأصابها التآكل على مستوى العائلة الكبيرة أولاً، وتآكل للعلاقات على المستوى الجيراني ثانياً، وتآكل في العلاقات على مستوى الصداقة ثالثاً، وأخيراً على مستوى الأسرة الصغيرة، والسبب في ذلك التحوّل التكنولوجي، إذ بدأت الغالبية تنزع إلى المجتمع الرقمي والافتراضي، ومن ثم تبتعد عن الحياة الاجتماعية".
وأمام الضغوط يبدو لافتاً حدوث تحولات في التربية والتنشئة بمصر أسرياً فبعدما كان دور الأسرة متقدماً الصفوف والسلطة المرجعية الأولى إذ به يتراجع وسط مصاعب الحياة وحداثتها التي عجزت غالبية الأسر عن مواكبتها فاضطرت إلى إسناد أمر التربية إلى مؤسسات خارجية، على نحو الحضانات التعليمية ومحفظي القرآن والأحاديث في المنازل الذين تولوا المهمة بدلاً من الأب والأم، وكذلك البرامج الصيفية التي تشتمل على برامج تعليمية ودينية تعتمد التلقين، بعيداً عن ممارسات الأصول والأخلاق والقيم المجتمعية المصرية التي ترسخت عبر الزمن من خلال الأسرة في تعاملها مع الآخر.
القانون المصري والعنف... علاقة مربكة
تذهب بعض التفسيرات إلى أن المعتدي يلجأ إلى عنفه، لإيمانه بأن حقه المسلوب لن يعود إلا عنفاً، فيما يشبه الاستهانة بالقانون، وما يتسرّب إلى العقل الجمعي من أن القانون لم يعد رادعاً بشكل كافٍ وناجز، وهو ما تتخوّف منه هالة منصور مشددة على ضرورة "سرعة تطبيق القانون، وعدم وجود أي نوع من التأثير في القائمين على تطبيق القانون، لأن ذلك يقاوم الظواهر السلبية في المجتمع، وعلى رأسها العنف". محذرة من أنه "إذا ضعفت المؤسسات القانونية بالمعنى الاجتماعي والمجتمعي ولم تصبح غير قادرة على تطبيق العدل فإن ذلك سيكون باباً خلفياً لانتشار العنف والبلطجة".
يصف سعيد المصري العلاقة بين القانون والعنف في مصر بـ"المربكة". موضحاً "ليس كل عنف يمثل جريمة، وليست كل جريمة تنطوي على عنف، بالتالي فإن دور القانون محصور فقط في مواجهة السلوك الإجرامي المنصوص عليه في مواد قانونية محددة". لافتاً إلى أن المجتمع لديه رغبة دائمة في الإفراط في القوانين، وهذا السلوك يعني أننا نحمّل أجهزة العدالة والشرطة مسؤوليات ليست من اختصاصها بل من اختصاص مؤسسات اجتماعية عجزت عن تأدية واجبها في الدعوة للحد من العنف.
وفي تقدير المصري فإنه يمكن لممارسات العنف أن تتفشى في ظل وجود ثلاثة أسباب تُضعف القانون عن القيام بدوره، وهي ميل المجتمع إلى تحييد القوانين وعدم احترامها، وبطء عمليات التقاضي بما يخل بالعدالة الناجزة، وأخيراً الاحترام المجتمعي للأقوياء، بخاصة الذكور حين ينتهكون القانون ويتحولون إلى أبطال في الثقافة الذكورية مثل نموذج محمد رمضان (الأسطورة، والبرنس والديزل وجعفر العمدة). على حد وصفه.
ولطالما واجهت إجراءات ومسارات تطبيق القانون المصري انتقاداً بشأن تأخرها فإن المحامي القانوني عمرو عبد السلام يقول "لدينا سرعة في البت في كل القضايا المطروحة. في الماضي حينما كنا نرغب في رفع دعوى ننتظر عاماً واثنين وثلاثاً أمام محكمة أول درجة، لكن الآن لم يعد هذا موجوداً، القضية يمكن أن يبتّ فيها نهائياً خلال عام، وهذه مدة قياسية لتحقيق العدالة". وفق تقديره.
وبينما يشدد عبد السلام على أنه لا تأخر في العدالة بمصر ولا عيب في القانون أيضاً، الذي وصفه بـ"الكافي والرادع في هكذا الظواهر" فإنه أبدى تخوفه مما يحدث حالياً من رفع الرسوم القضائية المبالغ فيها في بعض المحاكم على المتقاضين، قائلاً "لن يلجأ إلى القضاء سوى القادرين مادياً لتوكيل محام ودفع رسوم المحاكم العالية التكلفة، هنا يمكن أن تحدث زيادة في معدل جرائم العنف بين الأفراد، وهذا سيؤثر سلباً في الأمن العام والسلم الاجتماعي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
متلازمة الإحباط والعنف
وتفنّد ورقة بحثية بعنوان "تصاعد العنف في المجتمع المصري: أسبابه ومظاهره وأبعاده وسبل العلاج" (2013) أسباب العنف في البلاد. مبرزة إحدى النظريات السوسولوجية المفسّرة للظاهرة، التي تشير إلى تلازمية "الإحباط والعدوان"، إذ إن الإحباط العام يؤدي إلى العنف، بما يعد نتيجة مباشرة لعدم العدالة وعدم المساواة والفقر ونقص الفرص المتاحة داخل المجتمع. وفق الدراسة.
ويذهب البحث، الذي اطلعت عليه "اندبندنت عربية"، إلى أن "الشعب المصري لديه كم هائل من الإحباط على مقومات مختلفة". كان واضحاً في "فقدان الأمل بالمستقبل على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بخاصة لدى الشباب، الذين لم يوفقوا في الحصول على فرصة عمل توفر لهم حياة كريمة".
وتشير الدراسة، التي أعدّها الدكتور أسامة اللبان، إلى أن المجتمع المصري حالياً يعيش أجواءً تخالف الطبيعة الأخلاقية الهادفة التي اعتادها، إذ "التلوث السمعي والبصري والأخلاقي المتمثل في الضوضاء والإزعاج والقمامة والأخلاقيات المتدنية والخادشة للحياء في الشوارع والميادين".
ولم يغفل البحث الأسباب الاجتماعية التي شرّحها على نحو "شيوع بعض القيم السلبية مثل الفهلوة والانتهازية والنصب والكذب والكسب السريع وغير المشروع والرشوة والمحسوبية وما تمثله من ظلم اجتماعي". وكذلك عوامل دينية تمظهرت في تنامي الفكر الديني الذي يكفر الآخر ويستبعده، وضعف التربية في المدارس وانتقالها إلى دور العبادة وممارسة الشحن النفسي تجاه الآخر. وأخيراً أسباب أمنية تتمثل في الاكتفاء بالمعالجة الأمنية للظواهر السلبية دون المعالجات السياسية والاجتماعية والاقتصادية "ما أدى إلى استمرار العنف يوماً بعد يوم".
وأخيراً قدم البحث، المنشور في مجلة البحوث القانونية والاقتصادية كلية الحقوق جامعة المنوفية، أسباباً سياسية لظاهرة العنف تجلّت في الجمود السياسي بالبلاد، وعدم الاستماع إلى الأصوات الأخرى المنادية بالإصلاح، وانتشار الفساد بشكل واسع ومستفز، مع ضعف محاولات السيطرة عليه في المجتمع، والبيروقراطية الحكومية وما تؤدي من زيادة معاناة المواطن المصري في الحصول على حقوقه.