Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كونشالوفسكي مخرج سوفياتي بروح نهضوية

"ميكائيل أنجلو" المشروع الذي انتظر 40 عاماً وزوال إمبراطورية قبل أن يتحقق

أندريه كونشالوفسكي: حياة الفنان كإنسان (ويكيبيديا)

ملخص

صحيح أن فيلم كونشالوفسكي هذا الذي عُرف بأكثر من عنوان واحد، فهو تارة "ميكائيل أنجلو"، وطوراً "الخطيئة" بين عناوين أخرى، لم يكن الفيلم الوحيد الذي حققته السينما عن ذلك الفنان النهضوي الكبير، بل هناك من قبله فيلم رائع ومرجعي حققته هوليوود في عام 1965 عنوانه "اللذة والألم" من إخراج جوزيف مانكفيتش، ويعد عادةً مرجعياً في الأفلام التي تحكي حياة الفنانين الكبار ومعاناتهم.

في عام 1980 وخلال انعقاد واحدة من أهم دورات مهرجان موسكو السينمائي، بالنسبة إلى كاتب هذه السطور في الأقل، وفي مقابلة "شبه سرية" أجريناها، كما أجرى غيرنا مثلها، مع المخرج السوفياتي، في ذلك الحين، أندريه كونشالوفسكي، وكان موضوعها فيلمه "سيبرياد" الذي لم يقيض لنا أن نشاهده حينها إلا في عرض جانبي خاص، إذ كانت للسلطات السينمائية في الاتحاد السوفياتي اعتراضات كثيرة على الفيلم تحول دون عرضه عرضاً عاماً، ولو في مهرجان كان يشهد تجاوزات على المحظور تلفت النظر. إذاً، يومذاك دار الحديث حول عمل كونشالوفسكي بصورة عامة، وحول "سيبرياد" بصورة خاصة، وإلى حد ما، حول "زميله" المغضوب عليه رسمياً، أندريه تاركوفسكي. وخلال تلك الجزئية من الحديث، لاحظنا أن نظرة إلى كونشالوفسكي بدت حالمة وغريبة ما إن أتينا على ذكر فيلم "أندريه روبليف" من إخراج تاركوفسكي. ومن المعروف أن هذا الفيلم يتحدث عن فنان نهضوي روسي عانى ما عاناه تحت حكم القياصرة، بسبب فنه، بالتحديد، وقدر المشاكسة في ممارسته هذا الفن. وكنا نعرف، كما يعرف كونشالوفسكي أن مشكلة هذا الفيلم، بالنسبة إلى السلطات الحزبية في موسكو، تكمن في مقدار الذاتية التي تطغى عليه وتسير على العكس من الأيديولوجية السائدة. والحقيقة أن تلك النظرة كانت في حاجة إلى استطراد بدا بعيداً يومها عن همومنا، لكنه استطراد سيجد جوابه بعد ذلك بنحو 40 سنة. ولسوف يكون استطراداً عنوانه "لكل فنان روبليفه"، تجلى في فيلم حققه كونشالوفسكي نفسه في عام 2019 ولكن ليس عن أندريه روبليف بل عن "ميكائيل أنجلو بوناروتي" الفنان النهضوي الإيطالي الذي يعد عادةً، بمنحوتاته الرائعة وهندسته العمرانية الاستثنائية، ولكن بخاصة في رسومه الجدارية داخل كاتدرائية "سيستين" في الفاتيكان، بخاصة "الخليقة" و"يوم القيامة"، واحداً من أعظم الفنانين في التاريخ.

8 سنوات عجاف

صحيح أن فيلم كونشالوفسكي هذا الذي عرف بأكثر من عنوان واحد، فهو تارة "ميكائيل أنجلو"، وطوراً "الخطيئة" بين عناوين أخرى، لم يكن الفيلم الوحيد الذي حققته السينما عن ذلك الفنان النهضوي الكبير، بل هناك من قبله فيلم رائع ومرجعي حققته هوليوود في عام 1965 عنوانه "اللذة والألم" من إخراج جوزيف مانكفيتش، ويعد عادةً مرجعياً في الأفلام التي تحكي حياة الفنانين الكبار ومعاناتهم، بل إن هذا الفيلم لقوته وروعته، يبدو كسد يحول دون فن السينما والدنو مجدداً من عالم ميكائيل أنغلو، بخاصة أنه يحكي تحديداً عن الصراع الذي يفترض قيامه بين الفنان والبابا يوليوس الثاني من حول رسوم "سقيفة الخليقة" في الكاتدرائية المذكورة. ولا شك في أن كونشالوفسكي قد وجد نفسه، بدوره أمام ذلك العائق فماذا فعل كي يتجاوزه؟ بكل بساطة توجه ناحية أخرى. لم يتوقف عند معاناة فنان النهضة الكبير خلال انهماكه في العمل، ولم يهتم بصراعه مع البابا، بل لم يهتم كثيراً بالتوثيق لفنه بصورة عامة، بل توقف أمام معاناته كإنسان اختار للتعبير عن إنسانيته فناً إلهياً. وهكذا صور كونشالوفسكي، خلال ثماني سنوات من حياة ميكائيل أنغلو، هي السنوات بين 1512 و1520 التي لا تحمل فيها سيرته أية إنجازات فنية كبيرة. فهو في العام الأول كان قد انتهى من رسم عشرات الأمتار المربعة التي تحمل ملحمته البصرية الخالدة "الخليقة" التي أوصاه عليها يوليوس الثاني، بينا سيبدأ في العام الآخر 1520 بنحت ذلك القبر الجليل والعظيم، قبر آل مديتشي في مدينة فلورنسا بناءً على طلب البابا الفاتيكاني الثاني ليون. ومن هنا ليس ثمة في فيلم كونشالوفسكي مشاهد حقيقية، حميمية أو استعراضية تصور لنا شيئاً من حياة الفنان خلال عمله على ذينك العملين الجليلين، بل الحياة التي عاشها الفنان بين العمل الأول والعمل الثاني. وهو اختيار تبين لنا حين شاهدنا الفيلم أنه لئن كان قد شكل مهرباً للفنان من الوقوع في تكرار للفيلم الهوليوودي لن يكون حميداً بالنسبة اليه، شكل له أيضاً موضوعاً بالغ الجدة يدنو من جوهر حياة الفنان وفنه من داخل الحياة و"خارج" الفن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تفسير لاحق

"أنا لم أشأ أصلاً أن أحقق فيلماً يحكي عن إنجازات ميكائيل أنجلو الفنية، بل استخدمت موضوعاً يتعلق بفترة السنوات العجاف في حياة ميكائيل أنجلو، لكي أصور رجل النهضة وقد بدا لي ذا عبقرية فنية استثنائية من دون أن يمنعه هذا من أن يغرق في عالم الغيبيات وعبادة المال... بمعنى يجعله يبدو إنساناً طبيعياً لا فناناً أثيرياً منزهاً. فالفنان فنان بالطبع، لكنه إنسان أيضاً. ونحن الذين إذ نختار له صورته انطلاقاً من نظرتنا المثالية إلى فنه، نصنعه على شاكلة رغباتنا لا كما هو في حقيقته". والحقيقة أن كونشالوفسكي في كلامه هذا عن فيلمه بعد عرضه في أحاديث صحافية عدة، عرف كيف يموضع فيلمه بعيداً من فيلم مانكفيتش ويعطيه دلالة بالغة الخصوصية، ولكن بالغة الصدق والواقعية المنطقية في الوقت نفسه. ومن هنا إذ اكتفى الفيلم بألا يركز من بين أعمال ميكائيل أنجلو كلها إلا على منحوتته "موسى" التي كانت آخر ما أنجزه الفنان من أعماله الكبرى قبل انتقاله إلى كارار، فإنه تلمس من خلال التصوير الجانبي لمرحلة إنجاز تلك المنحوتة أن يمعن في واقعيته التي تضعه وفيلمه بالتعارض مع المشروع البطولي الذي حكم فيلم عام 1965. فطوال الساعتين وربع الساعة تقريباً اللتين يشاهد المتفرج خلالها ما "حدث" لميكائيل أنجلو خلال سنواته العجاف، لا يمكنه أن يراه إلا كإنسان، بل إنسان عادي وشديد العادية يعيش حياته متطلعاً إلى هموم صغيرة لا علاقة لها بالمجد الكبير الذي كان يتطلع إليه وهو معتلي السقالات الخشبية يحدق دائماً للأعلى، وهو منكب على رسم السقيفة ليدمدم بعد ذلك نوعاً من اللازمة اللحنية "رباه إن رسومي تبدو لي عاجزة عن فتح الدروب لي كي أصل إليك... رباه إنني ضائع، ضائع". ولئن كان فيلم كونشالوفسكي قد أبدع في استذكار تلك اللحظات، فإن كثراً من النقاد أخذوا على الفيلم أنه لم يعرف كيف يستفيد من تلك الجزئية لكي يتجه بعض الشيء نحو الغوص في موضوع "كان من شأنه أن يثري الفيلم من دون أن يبتعد كثيراً عن السياق الذي اختطه المبدع الروسي لفيلمه".

ابتعاد متعمد

ولكن، هل كان كونشالوفسكي غير واعٍ بتلك الإمكان التي رأى أولئك النقاد أنه قد أضاعها أو لم يحسن استغلالها؟ على الإطلاق، بل كان واعياً بها تماماً. وكان على وعي تام بأن عليه أن يضيعها وأن يتجنبها. فمرة أخرى لا بد من القول إن المبدع الروسي تعمد هنا أن يقف على نقيض تام مع سلفه الأميركي الكبير، إذ ومن دون أن يبدو أنه إنما يسعى إلى تكامل بينهما من خلال "سيرة" الفنان النهضوي الكبير، أراد أن يقدم الوجه الآخر للميدالية، وتحديداً من خلال التركيز بأكثر ما يمكن من الواقعية على "الإنسان في الفنان"، الإنسان الحقيقي ليس في معاناته وأحلامه وانصرافه ليلاً نهاراً إلى "تبرير فنه وربطه بحياته وتأرجحه بين الذكريات والأحلام، وبين صناعة المجد، وما إلى ذلك"، بل في واقعيته ومادية حياته، تلك المادية التي كثيراً ما جرت العادة، ولا سيما في إبداعات تعرض حياة الفنانين، أن تقدم من خلال تطلعاتهم للعب أدوار في السلطة كوسيلة للوصول إلى المجد، أو من خلال علاقات غرامية مستقيمة أو ضالة أو ما شابه ذلك، ولكن ها هو الآن فنان حقيقي وواقعي بدا لأزمنة طويلة أيام القمع الذي ساد الحياة الفنية، بخاصة، آخر عقود الإمبراطورية السوفياتية، أقرب إلى الامتثال حتى حين سلوكه درب المنفى، حيث في حوار شهير له مع أخيه نيكيتا ميخالكوف تبدى، وهو منشق، أكثر امتثالية من هذا الأخير الذي كان يبدو، نظرياً، أقل امتثالية حتى وهو خاضع للمنطق الحزبي، يحاول في كل لحظة وحين أن يخضع رفاقه فناني الداخل لمنطقه هذا.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة