حدث ذلك عند بداية ستينيات القرن العشرين. حينها لم يكن كثر من الناس قد سمعوا بذلك السينمائي السوفياتي الشاب أندريه تاركوفسكي الذي كان قد فاز منذ حين بالأسد الذهبي لمهرجان البندقية السينمائي وكان بعد في الثامنة والعشرين من عمره وقد حقق فيلمه الأول الفائز يومها "طفولة إيفان". وللوهلة الأولى كان الفيلم ينتمي إلى نوعين سينمائيين برعت فيهما السينما السوفياتية من دون أن يخاطر أي فيلم يحقق ضمن إطارهما بخوض صراع ضد السلطات الرقابية كان ينتهي غالباً بفوز هذه الأخيرة وإحداث تعديلات في الفيلم إن لم يكن منعه تماماً. وبالنسبة إلى فيلم تاركوفسكي هذا، كان يمكن أن يمر كما تمر بسهولة تلك الأفلام المنتمية من ناحية إلى السينما الحربية التي تمجد البطولات السوفياتية في "الحرب الوطنية الكبرى" (وهو الاسم السوفياتي الرسمي للحرب العالمية الثانية)، ومن ناحية أخرى إلى الأفلام البطولية التي غالباً ما تكون بطولتها للفتيان والأطفال. كان يمكن للفيلم أن يمر وهو مر بالفعل في بلاده التي رحبت بفوزه الإيطالي، فبلد الشيوعية الأم كان يمر حينها بفترة تتسم بقدر ما من الليبرالية الخروتشيفية، لكن الأوضاع لم تكن كذلك لدى شيوعيي أكبر بلدين شيوعيين خارج الكتلة الاشتراكية.
ستالينيو الخارج
في فرنسا وإيطاليا كانت بقايا قوية من الشيوعية الستالينية لا تزال ماثلة ولا سيما في القضايا الثقافية. وكان النقد السينمائي متقدماً إلى درجة أن النقاد الشيوعيين في البلدين فهموا "طفولة إيفان" بأفضل وأدق مما فهمه النقاد السوفيات، وأدركوا عمق البعد الروحي الذي يهيمن عليه فانصبّت اللعنات وبدأ الرجم ينتشر في صحافة البلدين الشيوعية ما استدعى في نهاية الأمر تدخلاً من ... جان بول سارتر الكاتب والفيلسوف الفرنسي الشهير الذي كان يعيش حينها في إيطاليا حيث استفزه مقال غير متعاطف مع الفيلم نشرته صحيفة "الأونيتا" لسان حال الحزب الشيوعي الإيطالي. صحيح أن سارتر لم يكن ولن يكون أبداً ناقداً سينمائياً معتبراً، هو الذي سيكون سيء الحظ مع السينما دائماً، لكنه مع ذلك امتشق قلمه التحليلي والحاد وكتب رسالة إلى الصحيفة الإيطالية وجهها إلى محرر الشؤون الثقافية فيها، وسرعان ما نشرته الصحيفة على شكل مقال ليعتبر بالتحديد فاتحة اهتمام فلسفي وفكري بسينما تاركوفسكي ودعماً للفيلم على أعلى المستويات، حتى من دون أن يتسم المقال بأية أبعاد تقنية أو حتى جمالية. لقد انصب اهتمام سارتر على ما يقوله الفيلم وليس على الكيفية التي يقول بها. لكن هذا كان مقبولاً منه فهو في نهاية الأمر ناقد ومفكر كبير وتدخله السينمائي ولو على طريقته الخاصة مرحب به.
اكتشاف فلسفي
هذا المقال الذي نشر بالإيطالية أولاً كما أشرنا سيعود سارتر وينشره في الفرنسية في الجزء السابع من مجموعة كتاباته النقدية المعروفة بـ"مواقف" ليصبح لازمة لا بد من التوقف عندها في كل ما يكتب عن تاركوفسكي لاحقاً. لقد ساهم المقال في صنع مجد السينمائي، لكنه ساهم كذلك في ترسيخ مجد ما لسارتر في مجال الكتابة عن السينما، ولو أننا نعرف أنه لن يعيد الكرة بعد ذلك أبداً. غير أن هيمنة سارتر على الحياة الأدبية الفرنسية، ثم عمق البعد الفكري للمقال كانا أمرين لا يستهان بهما، بل يعتد بهما، بخاصة أن تطور سينما تاركوفسكي الفكري في أفلامه التالية ولو أن عددها قليل، أتى متطابقاً مع الأبعاد الروحية التي رصدها سارتر في ذلك الفيلم، وفي وقت لم يكن النقد العالمي قد بدأ حتى في استكشاف تلك الأبعاد التي سيكون إنغمار برغمان من آخر وأوفى المتحدثين عنها عند نهايات حياة تاركوفسكي حين حقق هذا الأخير فيلمه الختامي "القربان". فما الذي قاله سارتر في اختصار ليثنّي عليه برغمان في نهاية المطاف؟ قال بكل بساطة إن تاركوفسكي الذي نظر كثر إلى فيلمه الأول بكل إكبار على أنه "يمثل ثورة عارمة في توجهات السينما السوفياتية"، إنما هو روسي في عمق أعماقه. بالنسبة إلى سارتر كانت "ثورة تاركوفسكي" روسية لا سوفياتية. ويقيناً أن هذا التوصيف الذي قد لا يلفت الأنظار اليوم بل حتى من شأنه أن يبرر قبول النقد السوفياتي للفيلم في ذلك الحين، كان هو ما أزعج النقد الشيوعي الأوروبي الذي كان لا يعترف بأن ثمة شيئاً يمكنه أن يكون روسياً!
الشاعر والتاريخ والمزاج
وبالنسبة إلى سارتر كان تاركوفسكي روسياً بالمعنى الشاعري والمزاجي والتاريخي للكلمة، وإن لم يكن بالمعنى السياسي. ففيلم "طفولة إيفان" يتحدث عن أربعة أحلام لفتى في الرابعة عشر من عمره. لكن هذا الفتى لا يعيش أحلامه على أرض الواقع وإن كان يفضل ذلك. فهو يخوض الحرب الوطنية الكبرى من خلال رؤساء له من العسكريين يستخدمونه لجمع معلومات عن جيوش الغزو الألماني للأراضي السوفياتية. وهو يحقق من النجاح في مهمته ما يجعل رؤساءه يرغبون بإدخاله مدرسة ضباط الصف تقديراً لشجاعته وتفانيه، بينما يرغب هو في متابعة نفس المهمة التي نجح فيها، رغبة صوفية مشوبة بقدر كبير من الإيمان. ومن هنا ينتهي به الأمر بأن يقبض الألمان عليه ويسوقوه إلى الإعدام. غير أن هذا التلخيص الذي قد يجعل من مآثر إيفان حلقة بطولية تستخدم لتمجيد الحرب كما يفعل العديد من الأفلام السوفياتية "المماثلة" لا يفي الفيلم حقه بالنظر إلى أن تاركوفسكي، وبحسب سارتر دائماً، لم يسع في فيلمه إلى تمجيد الحرب، بل صوّر وجهها القبيح مركزاً كيف أنها تفقد الطفولة براءتها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه على رغم أن تاركوفسكي كانت له خلال تلك المرحلة من تاريخ بلاده، نفس السن التي يجعلها لإيفان، وعلى رغم أن سارتر قال مراراً وتكراراً في مقاله إن الفيلم يحمل قدراً كبيراً من سيرة حياة الفتى الذي كانه السينمائي، فإن هذا أصر في وجه "معلومة" سارتر كما في وجه كل الذين تبعوا هذا الأخير في كتابتهم عن صاحب "طفولة إيفان"، أصر على أن طفولته تختلف كلياً عن طفولة بطله قائلاً: "كانت طفولتي مختلفة كلياً عن طفولة إيفان الذي عاش الحرب كبالغ ومقاتل. لكني لا يمكن أن أنفي أن كل الأطفال الروس من عمري قد عاشوا طفولة بالغة الصعوبة. ومن هنا فإن القول بأن هناك ما يربط بين إيفان وأندريه، ليس أكثر من تذكير بشراكة الألم التي ربطت طفولة إيفان بطفولة أبناء جيله من الروس الذين كنت أنا واحداً منهم بالطبع".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
...وهكذا تكلم برغمان
ونعرف طبعاً أن هذا الفيلم سجل البداية الحقيقية لسينما أندريه تاركوفسكي (الذي رحل عام 1987 منفياً من بلاده بعد معاناة مع المرض الذي قضى عليه)، السينما التي انطبعت بأبعاد روحية مدهشة تحتوي تحفاً مثل "أندريه روبليف" و"ستالكر" و"المرآة" و"سولاريس" و"نوستالغيا" الذي صوره في إيطاليا، إضافة طبعاً إلى "القربان" أخيره الذي صوره في السويد والذي قال برغمان بعد مشاهدته: "عندما اكتشفت أول أفلام تاركوفسكي، كان الأمر بالنسبة إلي أشبه بمعجزة حقيقية. لقد رأيت نفسي فجأة أمام باب غرفة كان ينقصني حتى ذلك الحين مفتاحها. غرفة كنت أرغب دائماً في دخولها، لكن تاركوفسكي يشعر وهو داخلها أنه على سجيته. فجأة إذاً، وجدت ما يشجعني ويحركني، وجدت أن ثمة شخصاً عبّر عما كنت أرغب دائماً في أن أقوله إنما من دون أن أعرف السبيل إلى ذلك. فإذا كنت أعتبر تاركوفسكي أكبر سينمائيي العالم فما هذا إلا لأنه أضاف إلى الفن السينمائي – في خصوصيته – لغة جديدة تتيح له أن يلتقط الحياة كظاهر، والحياة كحلم".