Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عيسى مخلوف يستحضر باريس ومبدعيها برؤية شخصية

 كتاب بين الذكريات والسرد والمقاربات النقدية المتعددة الحقول 

" لي دو ماغو" مقهى الذاكرة الثقافية في باريس (أ ف ب)

ملخص

قد يصنف كتاب الشاعر عيسى مخلوف "باريس التي عشت، دفتر يوميات"، في باب اليوميات، وأدب الرحلة المعاصرة، لكنه كشف عن أبعاد إنسانية ووجدانية عند عدد من الفنانين والشعراء اللبنانيين والعرب والأجانب الذين كان التقاهم، وعايشهم في باريس.

يروي الشاعر عيسى مخلوف خبر نزوله في باريس، أوائل الثمانينيات من القرن الـ20 هرباً من أتون الحرب الأهلية، شأن مئات، بل آلاف من مواطنيه، وقاصداً إياها من كاراكاس، موطن أقاربه وذويه، لمتابعة تحصيله العلمي فيها، بعد أن اطلع على أهم موارد الثقافة والإبداع في الأدب الأميركي اللاتيني الإسباني اللغة.

ولكن باريس لم تكن للكاتب عيسى مخلوف منهلاً لعلمه فحسب، الدكتوراه في العلوم الاجتماعية والأنتروبولوجيا الثقافية، بل كانت له أيضاً معبراً إلى عوالم أرحب، وسبلاً إلى أساليب عيش وفنون، ووجهات نظر حداثية في الغالب، وحاملة آفاقاً إنسانية وروحية ملونة ومتجددة على الدوام. هذا ولم يفت الكاتب أن يعقد صلات مع كثيرين ممن صنعوا مجد باريس الأدبي والفني والفكري، ومن كانوا لا يزالون نشطين وأحياء حتى أواخر القرن الـ20، ومن طبعوا الفن والعلم والفكر الإنساني والأدبي بطابعهم، ومن تأثرت بهم غالب النخب الثقافية العربية ذات الثقافة الفرنكوفونية، بحكم عمله الإعلامي والصحافي، كما أشرنا. وبين عمله واكتسابه العلمي وعيشه لحظات باريس الهادرة فناً وأدباً واجتماعاً، راحت تتبلور صورة مدينة الأنوار في ذهنه، فأخذت تفارق تصوره الرومنسي الأول عنها، لترتسم صورتها الواقعية الساطعة، من مطلع القرن الـ20، إلى ختامه، التي انطبعت بطابع الثورة على التقليد والإبداع والتجديد، التي يجهد الكاتب، الشاهد على تجلياتها، أقله في الربع الأخير من القرن، باعتبارها "مرحلة ذهبية يتعذر حصرها واختصارها في مؤلف واحد"، قبل أن "تتهاوى تحت ضربات المال الذي يلغي كل ما يتعذر تسليعه وتحويله أداة للمنفعة المادية".

دروب الإبداع

في الفصل الأول من الكتاب الذي جعله الكاتب عينة شديدة الانتقاء، دالة على مجمل الحركة الفنية والإبداعية الحاصلة في الربع الأخير من القرن الماضي في مدينة الأنوار باريس، يخص بالذكر عدداً من المبدعين والمبدعات، رسماً ونحتاً، وتأليفاً أدبياً، بدءاً بإيتيل عدنان (1925-2021)، وصليبا الدويهي (1915-1994)، وشفيق عبود (1926-2004)، وآدم حنين (1929-2020). فيروي لنا، بصورة عكسية، بعضاً من أواخر أيامها بباريس، وهي مريضة ولا تطمع بمزيد من الأدوية، لأن "ما من أدوية للشيخوخة"، إلى المهم والأهم في مدرستها اللونية التي أمكن لها أن ترسخها، على امتداد أكثر من 60 عاماً، مرت في خلالها بمراحل كثيرة، من الرومنسية، إلى الانطباعية، مروراً بالفن الياباني وغيره. أما الأهم في لوحة إيتيل عدنان، بحسب عيسى مخلوف، فهو أنها "تجربة، لا مجرد معرفة"، يمتزج فيها المزاج بالألوان والأبعاد، وتختلط فيها اللحظة المعيشة بالطبيعة، باعتبارها المعنية الأولى بتسليط الضوء عليها، بخلاف الثقافة الفنية الغربية التي تولي الأشخاص اهتماماً كبيراً.

ولما كانت الفنانة إيتيل عدنان كاتبة وشاعرة أيضاً، وملتزمة بالقضية الفلسطينية، فقد أفرد لها الكاتب مخلوف حيزاً يتحدث فيه عن التزام الشاعرة الدفاع عن القضية الفلسطينية، وقضية تحرير المرأة، إضافة إلى تفكيرها العميق في الحب والمرض والموت والزمن العابر، ومن تلك الاقوال: "الجسد مكان المقدس / يتفجر بالحياة ولا يدوم إلا برهة"، و"يوماً ما، لن تشرق الشمس في   موعدها، ولن يكون النهار. في غياب النهار، يغيب الليل أيضاً. القلوب هي التي تتوقف، لا الأمواج ولا الأنهار".

قامات فنية

أما صليبا الدويهي، أحد رواد الفن اللبناني، فيروي الكاتب آخر لقاءات معه بباريس، قبيل انطفائه، وعودته للبنان "ميتاً، عظاماً يدفنونها بين أهلي وفي التلال والأودية" على حد ما أجابه، ذات يوم، حين سأله عن زمن عودته لوطنه، بعد توالي الأخبار عن أحداث الحرب الأهلية فيه. وفي النبذة الموجزة عنه بالكتاب إشارة إلى أهم ما تركه الفنان من بصمات إبداعه، وهي زجاجيات لكنائس كثيرة نفذها، ومنها زجاجيات كنيسة القديس شربل، وهي من أجمل الزجاجيات الملونة في الشرق الأوسط، بعدما قصفتها مدافع الميليشيات المسلحة. وفيها كلام على تجارب الدويهي، الذي وإن تأثر بالتيارات الفنية الغربية، فإنه بقي يستلهم البيئة اللبنانية، مع ميل ثابت إلى التجريد الهندسي، في أواخر أعماله. وهو القائل: "يلزمنا، لكي نقترب من البعد الروحاني في الفن، أن نستعمل الواقع بأقل قدر ممكن، لأن الواقع يتناقض والبعد الروحاني".

ومن طليعة الرواد كان شفيق عبود، الهابط من بلدته المحيدثة (بكفيا) إلى بيروت، فإلى باريس ليباشر مسيرته الفنية الكبرى التي جعلت منه مدرسة فنية جديرة بالاقتداء. وقد عرف الكاتب مخلوف الفنان عبود في أواخر أيامه، وأدرك تحولاته وتجاربه الفنية، من التجريد الغنائي، إلى الشغف الخاص برواية الحكايات في لوحته، وانتهاء بإيمانه بأن للفن قدرة على التعبير عن أهم مواضيع الإنسان، ويقول: "وحده الفنان يفجر المستقبل، لذا فهو وحده يعرف الخوف. الهواة يلعبون، يتسلون، يركضون وراء الواجهات، وحده الفنان الحقيقي ينتحر في صناعة المستقبل..".

وإذ يعرف الكاتب بالنحات الفنان المصري آدم حنين يركز على صفات الفنانين السابقين، رواد الفن اللبناني الحديث، بالكلام على أهم ما تركه من آراء في النحت، تجسدها أعماله منحوتاته مثل الطائر، وقرص الشمس، والمسلات، وغيرها. ومن تلك الآراء لزوم تشرب الفن المصري القديم، واستيعاب التراث النحتي المصري، ومن ثم العمل على الإضافة إليه. فعلى سبيل المثال، لو أراد أن ينحت شكل الطير، فما عليه سوى التقاط حركة الطيران من دون أن يحاكي عالمه. وفي حال قصد نحت الأشياء، يتعين عليه أن يوقظ روح الأشياء فحسب، وفق تعبير أوكتافيو باث.

دروب أدبية وأدباء

وفي الفصل الثاني من الكتاب، وهو الأكبر، يفرد الكاتب حيزاً مناسباً لكل من الأدباء الذين تعرف إليهم شخصياً، وأجرى معهم لقاءات وسبر، بمرجعيته العلمية والإنسانية، أعماق ذاته وأعماله. ومن هؤلاء جان جينيه (1910-1986) الذي يعرف به ولداً لقيطاً، ربي من غير أهل، وجنح، ثم عاد واتخذ الكتابة منفذاً للتعبير عن سخطه من استبعاد المجتمع له، فكانت له أعمال، مثل "يوميات اللص" و"الخادمتان" و"أربع ساعات في شاتيلا" الذي سرد فيه وقائع مجزرة صبرا وشاتيلا في حق الفلسطينيين من سكان المخيمين. وهنا استطرد الكاتب إلى الحديث عن المجازر في غزة، وكيف أن الطيارين باتوا يستهدفون أطفال غزة بأبشع صورة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي كلامه على الكاتب والمثقف الفلسطيني إدوارد سعيد (1935-2003) الذي تعرف إليه لماماً، في أثناء مقابلة أجرتها الإعلامية الراحلة جيزال خوري معه، وكان في طور مرضه الأخير، يكشف مخلوف عن أهمية ما طرحه إدوارد سعيد من أن الغرب مخاتل في استشراقه، وأن غالب المستشرقين الأجانب نظر إلى الشرق باعتباره مجالاً ممكناً أو متخلفاً للاستعمار، وأن قضايا التحرر الوطني التي كثيراً ما نادى بها المثقفون والمسيسون في بلادنا، لم تكن لتقى آذاناً صاغية لدى النخب الغربية، ومنها المستشرقون.

وثمة كلام أيضاً على شاعر فرنسي، التقاه لدى بلوغه باريس، وهو إيف بونفوا (1923-2016) الذي كانت له آراء قيمة في الشعر، وفي الوظيفة الشعرية، منذ أن كان محاضراً في "الكوليج دو فرانس"، إلى جانب آثاره الشعرية التي بلغت أصداؤها العالم العالم العربي، وتلقفها بشغف الشعراء والمنابر الثقافية، وترجموها إلى العربية. ومن مآثر بونفوا أنه آخى بين الشعر والفن، إذ جعله صنواً لازماً له، وفتح أبواباً كانت لا تزال موصدة بين الشعر واللغة، وبين الشعر والفلسفة.

مصاحبة الأعماق

قد لا تكفي مقالة واحدة للإحاطة بما تضمنته شواهد الكاتب عيسى مخلوف، وسردياته، وشهاداته في الكبار من الفنانين والشعراء والباحثين الذين استكثر فضلهم عليه، وعلى الأجيال العرب في منفاهم الاختياري أو الإجباري باريس، ومنهم صلاح ستيتية الشاعر اللبناني الفرنسي، وآسيا جبار، ومارسيل بروست، لم لا؟ وسعد الله ونوس، وفيليب جاكوتيه، وأمجد ناصر، وفاروق مردم بيك، وبورخيس، وغيرهم. إلا أن الشيق في مصاحبة هؤلاء، وتفتيق أسرارهم، واستذكار مآثرهم، هو مقاربته كلاً منهم بما يكشف عن أعماق كانت لا تزال متوارية عن أنظار العامة، بفضل ثقافة يطل بها على الأبعاد، وتكون معينة القراء على تقدير منجزه ومقاسمة الكاتب إقراره بفضله ومكانته. وهنا، يجدر الالتفات إلى اختلاط الأنواع (الأجناس) الأدبية في الكتاب، بين سرد وتعليق وتعليل وتحليل معمق واستشراف، وكلها تمضي ببعض مؤانسة لازمة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة