ملخص
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لم يترك مجالاً للشك حين أعلن صراحة أن بلاده تدخل "زمن الاضطرابات"، مما يتطلب استعداداً نفسياً واقتصادياً من الداخل الفرنسي لتحمل تبعات مرحلة جديدة، مرحلة ستكون فيها الصناعات العسكرية حجر الزاوية، ليس فقط لحماية الأمن القومي، بل أيضاً كرافعة لتحريك عجلة الاقتصاد. هكذا، يتحول الإنفاق العسكري إلى ورقة أساسية في يد ماكرون.
في ظل الاضطرابات الدولية المتلاحقة، تجد فرنسا نفسها أمام تحولات كبرى في مقاربتها للأمن والدفاع، بل في رؤيتها للاقتصاد نفسه.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لم يترك مجالاً للشك حين أعلن صراحة أن بلاده تدخل "زمن الاضطرابات"، مما يتطلب استعداداً نفسياً واقتصادياً من الداخل الفرنسي لتحمل تبعات مرحلة جديدة ستكون فيها الصناعات العسكرية حجر الزاوية، ليس فقط لحماية الأمن القومي، بل أيضاً كرافعة لتحريك عجلة الاقتصاد. هكذا، يتحول الإنفاق العسكري إلى ورقة أساسية في يد ماكرون.
ووسط هذا التوجه، دعا الفرنسيين إلى تقبل هذا الجهد، واصفاً إياه بأنه "تضامن موقت من الجميع لضمان أمننا واستقلاليتنا"، كما أكد أن "حماية الوطن تتطلب رفع الإنفاق الدفاعي، مع تحميل كل فرد نصيبه من المسؤولية".
وأشار ماكرون إلى أن هذه الزيادة في الموارد ستستخدم لمعالجة نقاط الضعف، ولا سيما تعزيز مخزون الذخيرة وتطوير الأسلحة الدقيقة والطائرات المسيّرة والقدرات الفضائية، إلى جانب توفير "المعدات اللازمة لتنفيذ العمليات اليومية بكفاءة".
وخلال خطابه السنوي للقوات المسلحة الذي يلقى عادة قبل العيد الوطني الفرنسي، كشف ماكرون عن نية تقديم "تحديث لقانون البرمجة العسكرية" للفترة ما بين 2024- 2030 الخريف المقبل.
ومع هذه الزيادات التي تضاف إلى الزيادات السنوية المقررة ضمن قانون البرمجة العسكرية، ستكون موازنة الدفاع تضاعفت تقريباً خلال عقد من الزمن أثناء ولايتي ماكرون، لترتفع من نحو 33 مليار يورو عام 2017 إلى نحو 64.5 مليار يورو بحلول عام 2027.
وفي ظل الحاجة الماسة للحكومة إلى تقليص الموازنة وضبط الإنفاق العام، أكد ماكرون أن المضي قدماً في إعادة التسلح لا يمكن أن يتم عبر الاستدانة.
الإنفاق العسكري لتحريك الاقتصاد الفرنسي
يقول الأستاذ في الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية حسان القبي إن ماكرون يحضّر الفرنسيين نفسياً، بخاصة من الناحية الاقتصادية، لأن المرحلة المقبلة يبدو أنها ستُموَّل من جيوب المواطنين، سواء من خلال فرض ضرائب جديدة أو عبر سياسة تقشفية.
وأوضح أن ماكرون حين يتحدث عن مضاعفة الموازنة العسكرية من 32 إلى 64 مليار دولار، فهو يشير إلى نفقات ضخمة في ظل أزمة اقتصادية عالمية لا تعانيها فرنسا وحدها، بل يشهدها العالم أجمع، بدءاً من تداعيات أزمة "كوفيد" وأزمة الغاز في أوروبا، وصولاً إلى تداعيات الرسوم الجمركية التي يريد الرئيس الأميركي دونالد ترمب فرضها على الاتحاد الأوروبي.
ويرى القبي أن هناك نية فرنسية واضحة لأن تتزعم باريس الجهود الأوروبية، بخاصة في المجال الدفاعي. فمنذ دخول ماكرون إلى قصر الإليزيه، كان مشروعه قائماً على فكرة إنشاء جيش أوروبي موحد، وهي فكرة قد تعود للواجهة اليوم.
ويشير أستاذ الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية إلى أن العقيدة الدفاعية الفرنسية تبدو في طور التغير، إذ تستشعر باريس اليوم خطرا ًكبيراً وغير مسبوق، مما انعكس على سلوك المؤسستين العسكرية والسياسية.
ولعل من أبرز المؤشرات على ذلك، ما صدر أخيراً عن رئيس أركان الجيوش الفرنسية الذي خرج للحديث علناً ليؤكد أن الروس يعتبرون فرنسا العدو الأول لهم. وهذه سابقة في المشهد السياسي والعسكري، تعكس حجم القلق الفرنسي من تطورات الصراع الدولي.
وفي هذا السياق، يوضح القبي أن ماكرون كان يهيئ لهذه المرحلة منذ فترة، بدءاً من لندن، حيث وُقع اتفاق دفاعي نووي مشترك بين باريس ولندن، وكان الاتفاق خطوة استباقية لتحصين فرنسا عسكرياً.
في المقابل، ردت موسكو بتحالف استراتيجي مع كوريا الشمالية من خلال إبرام اتفاقات دفاعية مشتركة، في إشارة واضحة إلى تغيّر خريطة التحالفات في العالم، وإلى أن العقيدة الدفاعية لكثير من الدول أصبحت تتحرك وفق منطق جديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف القبي أن ماكرون لا يخفي مخاوف باريس من احتمال اتساع رقعة الحرب الأوكرانية لتطاول حدود أوروبا الشرقية، على رغم التطمينات المتكررة التي يرسلها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يؤكد دائماً أنه لا ينوي الدخول في حرب مع أية دولة من دول الاتحاد الأوروبي.
لكن من وجهة النظر الفرنسية، يقول القبي "أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم"، ولهذا السبب تصر فرنسا على تعزيز قدراتها الدفاعية والهجومية، مع التشديد دائماً على أن قوتها النووية تبقى في إطار"سلاح ردع"، هدفه في الأساس حفظ السلام وليس خوض الحروب، مما عبّر عنه ماكرون في أكثر من مناسبة.
ومع ذلك، يرى أستاذ الاقتصاد السياسي أن المخاوف الأوروبية لا تزال قائمة، وأوروبا اليوم تنتظر تحركات جديدة من حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ربما من أجل التصعيد ضد روسيا، بخاصة في ظل التوقعات بأن الحرب الروسية- الأوكرانية ستستمر لأعوام طويلة مقبلة.
وفي ما يتعلق بالسؤال، كيف يمكن فهم هذا الربط المباشر الذي قام به ماكرون بين الإنفاق الدفاعي والنمو الاقتصادي؟ وهل هو توجه فرنسي جديد، أم مجرد محاولة لطمأنة الداخل الفرنسي؟ يوضح حسان القبي أن ماكرون لم يأتِ بهذا الربط من فراغ، بل يبدو أن الأوروبيين، خصوصاً الفرنسيين، لاحظوا التأثير الإيجابي الكبير للصناعات العسكرية الروسية في الاقتصاد الروسي.
وعلى رغم تعرض موسكو لحزمة غير مسبوقة من العقوبات وصلت إلى ما يقارب 17 ألف عقوبة، فإن الاقتصاد الروسي تمكن من تجاوز هذه القيود، وسجل نمواً يفوق حتى النمو الذي حققته اقتصادات كبرى مثل ألمانيا خلال الأعوام الأخيرة.
ويضيف أن الصناعات العسكرية الروسية، بإنتاجها الضخم والمتواصل، أثبتت أنها قادرة ليس فقط على الصمود أمام العقوبات، بل أيضاً على تحريك عجلة الاقتصاد.
من هنا، بدأ الأوروبيون يستنتجون أن الإنفاق على الصناعات العسكرية يمكن أن يسهم في دعم النمو الاقتصادي، بدلاً من أن ينظر إليه فقط على أنه مجرد نفقات استهلاكية أو عبء على الموازنة.
وفي هذا السياق، يشير القبي إلى أن هناك بالفعل كثيراً من الدراسات الأكاديمية التي تناولت العلاقة بين الإنفاق العسكري والتنمية الاقتصادية، وخلصت إلى نتائج تؤكد أن هذا الإنفاق يمكن أن يكون محفزاً حقيقياً للنمو. ولهذا السبب، اختار ماكرون الربط بين زيادة الإنفاق الدفاعي وتحقيق التنمية الاقتصادية، كنوع من التبرير السياسي والاستراتيجي، وأيضاً لطمأنة الداخل الفرنسي بأن هذه النفقات ليست عبثية، بل تدخل ضمن رؤية اقتصادية متكاملة.
نحو عقيدة دفاعية أوروبية جديدة
لماذا اختار الرئيس ماكرون استخدام تعبير "زمن الاضطرابات" بهذه الصراحة وفي هذا التوقيت؟ وهل هذا التوصيف يمهد لتغييرات أعمق في السياسة الفرنسية؟
يقول المحلل السياسي طارق واهبي إن ماكرون يستخدم تعبير "زمن الاضطرابات" لوصف المرحلة الحالية، وهي المرحلة التي بدأت منذ فبراير (شباط) عام 2022 بعد دخول روسيا إلى أوكرانيا.
والهدف من هذا التوصيف بحسب واهبي، إعادة توضيح مفهوم التحالفات وكيفية التعاون مع التغييرات الجيوسياسية التي دفعت الحلفاء إلى الإسراع في البحث عن قواعد مشتركة للدفاع عن السيادة والديمقراطية وأن عودة ترمب للحكم في أميركا سرّعت عجلة الخيارات السياسية في الدفع من أجل العسكرة.
في المقابل، ترى أوروبا أن عليها أن تتسلح لأن الشريك الأميركي يضع شروطاً للمساعدة في حمايتها.
وأكد واهبي أنه لا توجد تغييرات عميقة في السياسة الفرنسية بحد ذاتها، ولكن ما تغير هو مقاربة ماكرون للإنفاق العسكري. ففي بداية ولايته عام 2017، كان يسعى إلى تقليص هذا الإنفاق، لكن اجتياح أوكرانيا غيّر المعادلات، كما أن انسحاب فرنسا من أفريقيا كان بمثابة صدمة، حتى بالنسبة إلى الإدارة العسكرية التي كانت ترى في التعاون العسكري مع أفريقيا أولوية ثابتة لأكثر من 60 سنة.
وأضاف أن "زمن الاضطرابات" هو أيضاً زمن الإخفاقات السياسية والدبلوماسية نتيجة غياب حلول حقيقية للنزاعات، مما دفع دولاً عدة إلى العودة لخيار السلاح بأنواعه المختلفة.
ولكن كيف يمكن فهم الربط المباشر الذي قام به ماكرون بين الإنفاق الدفاعي والنمو الاقتصادي؟ وهل هو توجه فرنسي جديد أم محاولة لطمأنة الداخل الفرنسي؟
يجيب طارق واهبي أن ماكرون يحاول اليوم ربط سياسة التسلح بعملية النهوض بالصناعات الدفاعية الفرنسية، سواء من خلال بناء ترسانة جديدة أو تطوير أنظمة دفاعية حديثة يمكن تسويقها وبيعها لدول أخرى، مما يدفع الناتج المحلي الإجمالي إلى الأعلى ويساعد في تحريك الاقتصاد الوطني.
لكنه يحذر في الوقت ذاته، من التساؤل المشروع، من سيشتري هذه الصناعات الفرنسية؟ وكم سيكون حجم الطلب الداخلي والخارجي؟ والأهم، من أين ستأتي الحكومة الفرنسية بالتمويل اللازم لتحقيق هذه الطموحات الدفاعية؟
ويشير إلى أن النمو الاقتصادي لا يتوقف فقط عند قطاع الدفاع، بل يرتبط أيضاً بالخيارات الضريبية للحكومة تجاه الشركات وكيفية تحقيق توازن في الموازنة بين المداخيل والمصاريف.
الدين العام الفرنسي
وهنا ذكّر بأن الدين العام الفرنسي تجاوز 3200 مليار يورو مع بداية العام الحالي، وهذا عامل لا يمكن تجاهله في أية سياسة اقتصادية مستقبلية.
واعتبر واهبي أن ماكرون يوجّه من خلال هذه السياسة رسالة إلى الداخل الفرنسي أيضاً، بخاصة إلى القوى السياسية التي تعرقل تمرير موازناته والتي تلجأ إلى التصويت على حجب الثقة عن الحكومات المتعاقبة، ويرى أن هذه الممارسات تعرقل عمل الدولة وتضع الأمن القومي الفرنسي في خطر.
وفي ما يتعلق بفرضية هل نحن أمام تغيير حقيقي في العقيدة الدفاعية الفرنسية؟ وهل خطاب ماكرون الأخير يعكس خوفاً حقيقياً من تهديدات وشيكة، أم أنه مجرد خطاب استباقي؟
يرى طارق واهبي أن استنتاجات عدة توصلت إليها القيادة الفرنسية منذ بداية الحرب في أوكرانيا دفعتها إلى إعادة التفكير جذرياً في استراتيجياتها الدفاعية، بما في ذلك كيفية تأمين الموارد والخطط اللوجستية لضمان نجاحها.
ومع ذلك، يوضح أن العقيدة الدفاعية الفرنسية لا تزال قائمة إلى حد كبير على استقلالية القرار، لكنها تبقى مرتبطة لوجستياً بالدعم الأميركي من خلال حلف شمال الأطلسي. وأضاف أن الخطاب الأخير لماكرون لم يكُن مفاجئاً، بل جرى التمهيد له منذ فترة عبر تصريحات وزير الدفاع ورئيس الأركان، وجرى الحديث عن توجهات سياسية وعسكرية، بعضها أُرجئ حسمه إلى الخريف المقبل، مثل مسألة إعادة النظر في الخدمة العسكرية أو تعزيز الجيش الاحتياطي.
ويختم واهبي بالقول إن هذا الخطاب يعيد للأذهان ما حدث عام 2017 عندما استقال رئيس الأركان الفرنسي الجنرال دو فيليه احتجاجاً على خفض موازنة الدفاع، مما يعكس أن فرنسا كانت سابقاً تتجه نحو تقليص التسلح، ولكن الحرب في أوكرانيا غيرت كل شيء، ليس في فرنسا فقط بل في كامل الاتحاد الأوروبي.
ويخلص واهبي إلى أن خطاب ماكرون الأخير هو بمثابة تأسيس لمرحلة جديدة في التفكير الأوروبي حول قضايا الأمن والدفاع، في ظل واقع جديد لم تعُد الحروب فيه تقليدية، بل تعتمد على أدوات تكنولوجية متطورة أثبتت فاعليتها في الحرب الأوكرانية، ليس من أجل الانتصار السريع، ولكن لتحقيق تفوق استراتيجي حاسم.
يمكن القول إذاً إن خيارات ماكرون في الربط بين الإنفاق العسكري وتحريك عجلة الاقتصاد تعكس تحولاً جوهرياً في العقيدة الاقتصادية والسياسية لفرنسا، يتماشى مع واقع دولي متغير يفرض على الدول إعادة ترتيب أولوياتها.
وبين السعي إلى ضمان الأمن القومي والاستفادة من ديناميكية الصناعات الدفاعية، تراهن باريس على جعل التسلح وسيلة لتحقيق النمو، وليس مجرد عبء على موازنة الدولة.
ومع أن هذه الاستراتيجية قد تحمل فرصاً اقتصادية، إلا أنها تطرح في المقابل أسئلة مشروعة حول جدواها على المدى البعيد، بخاصة في ظل الأوضاع المالية الصعبة التي تمر بها فرنسا.
وفي كل الأحوال، يبدو أن أوروبا بأكملها، وليس فرنسا وحدها، دخلت فعلاً "زمن الاضطرابات" الذي يعيد ربما تشكيل موازين القوى والتحالفات لأعوام مقبلة.