ملخص
يرى مراقبون أن تصاعد الأعمال المعادية للمسلمين في فرنسا يعود لأسباب عدة، أولها الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد منذ سنوات، إذ شهدت فرنسا تراجعاً كبيراً في القدرة الشرائية وارتفاعاً في معدلات التضخم، مما دفع بمواطنين كثر إلى الانتقال من الطبقة المتوسطة إلى الطبقة الفقيرة، وأسهم في تغذية مشاعر الغضب والتطرف، ويعتبر آخرون أن الطبقة السياسية الفرنسية تتحمل جزءاً من المسؤولية.
في تصاعد مقلق يعكس تنامي موجات الكراهية والتمييز، أعلنت السلطات الفرنسية تسجيل ارتفاع حاد في الأعمال المعادية للمسلمين خلال النصف الأول من عام 2025، بحسب ما أعلنته وزارة الداخلية الفرنسية يوم الخميس الثالث من يوليو (تموز) الجاري. فقد سجلت 145 حالة خلال الفترة ما بين يناير (كانون الثاني) ومايو (أيار) الماضيين، مما يمثل ارتفاعاً بنسبة 75 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024، التي شهدت 83 حادثة.
الأشد خطورة في هذه المعطيات هو تضاعف الاعتداءات الجسدية على الأفراد بما يزيد على ثلاث مرات، لتصل إلى 99 حالة تمثل أكثر من ثلثي الحوادث المسجلة، مما يسلط الضوء على تصعيد غير مسبوق في العنف الموجه ضد الجالية المسلمة في فرنسا، ويثير تساؤلات ملحة حول أسباب هذه الظاهرة. ويأتي هذا التصعيد في سياق متوتر، كان من أبرز محطاته مقتل الشاب المالي أبو بكر سيسي في مسجد بمقاطعة غارد نهاية أبريل (نيسان) الماضي، في حادثة هزت الرأي العام وأعادت تسليط الضوء على تنامي موجة الكراهية.
وفي سياق تصاعد مشاعر العداء ضد المسلمين، أوردت تقارير إعلامية، استناداً إلى معطيات وردت في كتاب بعنوان "فرنسا، تحبها ولكنك تغادرها"، من تأليف أوليفييه إستيف وأليس بيكار وجوليان تالبان، أن فرنسا تشهد تنامياً مقلقاً في ظاهرة الإسلاموفوبيا. ويسلط الكتاب الضوء على مناخ التمييز والعداء المتزايد، الذي يدفع عدداً من المسلمين الفرنسيين إلى اتخاذ قرار الهجرة.
ووفقاً لما ورد في هذه التقارير، فقد غادر نحو 200 ألف مسلم فرنسي، معظمهم من أصحاب الكفاءات والمؤهلات التعليمية العالية، متجهين نحو دول توصف بأنها أكثر انفتاحاً وتعدداً ثقافياً مثل بريطانيا وكندا. ويحمل الكتاب الطبقة السياسية الفرنسية قسماً كبيراً من المسؤولية عن تفاقم هذه الظاهرة، مشيراً إلى قرارات حكومية مثيرة للجدل، من بينها حل منظمات معنية برصد وتتبع الإسلاموفوبيا، مما أسهم في إشاعة مناخ من التضييق.
عوامل تغذي العداء للمسلمين في فرنسا
يرى المحلل السياسي رامي خليفة العلي أن "تصاعد الأعمال المعادية للمسلمين في فرنسا يعود لأسباب عدة، أولها الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد منذ سنوات، منذ أزمة ’السترات الصفراء‘، حين شهدت فرنسا تراجعاً كبيراً في القدرة الشرائية وارتفاعاً في معدلات التضخم، مما دفع بمواطنين كثر إلى الانتقال من الطبقة المتوسطة إلى الطبقة الفقيرة، هذه الأوضاع الاقتصادية المتردية أسهمت في تغذية مشاعر الغضب والتطرف". ويضيف العلي أن "الطبقة السياسية تتحمل جزءاً من المسؤولية، إذ عمدت إلى تحميل المهاجرين تبعات الأزمة الاقتصادية، على رغم أن لا علاقة لهم بها في الواقع، فهي أزمة تتعلق بالسياسات الاقتصادية وإدارتها".
كما يشير العلي إلى عامل آخر لا يقل أهمية، وهو "تصاعد خطاب أقصى اليمين وانتشار الحركات الشعبوية في أوروبا عموماً، وفي فرنسا بصورة خاصة. وتجلى ذلك في وصول حزب ’الجبهة الوطنية‘ من أقصى اليمين إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وتحقيقه تقدماً ملاحظاً في كل استحقاق انتخابي"، وبالتالي كل ذلك في تقدير رامي خليفة العلي "يدفع إلى نمو هذا الخطاب المعادي المهاجرين".
يؤكد المحلل السياسي رامي خليفة العلي أن "أحد الأسباب الرئيسة وراء تصاعد الأعمال المعادية للمسلمين في فرنسا يتمثل في الدور الذي لعبه الإعلام الفرنسي خلال السنوات الماضية، إذ أصبح المهاجرون، وخصوصاً المسلمون منهم، هدفاً مباشراً أو غير مباشر للاتهامات المرتبطة بالأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي مرت بها البلاد".
ويلفت العلي إلى أن "الهجمات الإرهابية التي وقعت في باريس في عام 2015، على رغم كونها حوادث أمنية بحتة، شكلت نقطة تحول خطرة وأسهمت في تأجيج الخطاب المعادي للمسلمين، إذ تركت أثراً عميقاً في الواقعين السياسي والاجتماعي في فرنسا، واستغلت لتبرير مواقف متطرفة تجاه الجاليات المسلمة".
كما يشدد العلي على أن التوترات الاقتصادية والاجتماعية تسهم بدورها في تغذية هذا العداء من زاويتين، الأولى تتعلق بالمواطن الفرنسي البسيط الذي يشعر بأن المهاجرين المسلمين ينافسونه على فرص العمل، بل ويحملهم، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، مسؤولية التدهور الاقتصادي الذي تعانيه البلاد، هذا الشعور يولد حالة من الاحتقان والغضب تجاه المهاجرين".
أما الزاوية الثانية فيبرز فيها العلي ما يسمى بـ"الأفضلية الوطنية" التي تدعو إليها زعيمة أقصى اليمين مارين لوبان، التي تنادي بمنح الأولوية في الاستفادة من المساعدات الاجتماعية للمواطنين الفرنسيين الأصليين. ويرى أن "بعض فئات المجتمع، وخصوصاً من الطبقات الفقيرة، ينظرون بعين الريبة إلى استفادة بعض المهاجرين من هذه المساعدات، مثل السكن الاجتماعي والتعويضات، مما يعمق الإحساس بالظلم ويؤجج الكراهية تجاه المسلمين والمهاجرين عموماً".
السياسة والاقتصاد وراء تصاعد معاداة المسلمين
يرى المحلل السياسي طارق وهبي أن "تصاعد الأعمال المعادية للمسلمين في فرنسا مرتبط بسياق سياسي واجتماعي معقد، يتمثل أساساً في تحميل المهاجرين، خصوصاً من هم من أصول شمال أفريقية ودول الساحل، مسؤولية عدد كبير من مشكلات المجتمع الفرنسي". ويشير وهبي إلى أن "هؤلاء المهاجرين يعانون تمييزاً واضحاً في أبسط حقوقهم، مثل حقهم في أماكن العبادة، إذ قامت بعض البلديات بمنعهم من ممارسة شعائرهم الدينية".
انطلاقًا من ذلك، يوضح طارق وهبي أن "هذه الظروف دفعت قطاعات واسعة من المجتمع الفرنسي إلى اتخاذ مواقف حادة – إن لم نقل متطرفة – تجاه المهاجرين، لا سيما المسلمين منهم". ويشير إلى أن "أرقام الأعمال المعادية للمسلمين هذا العام مرتبطة جزئياً بما يحدث في غزة، مما أدى إلى نوع من المواجهة داخل الأراضي الفرنسية بين تيارين، أحدهما مؤيد لفلسطين والآخر لإسرائيل".
وفي ما يتعلق بدور التوترات الاجتماعية والاقتصادية في تصاعد مشاعر الكراهية تجاه المسلمين، يؤكد وهبي أن "هناك تهميشاً واضحاً في الضواحي الفرنسية، حيث تتركز غالبية المسلمين، مثل ضواحي باريس ومرسيليا وليون، إذ يصل معدل بطالة الشباب في تلك المناطق إلى نحو 31 في المئة، مقارنة بمعدل وطني لا يتجاوز سبعة في المئة".
وبحسب رأي طارق وهبي، فإن "هذا التهميش الاقتصادي يولد شعوراً عميقاً بالإقصاء الاجتماعي، كما أن هناك من يروج لفكرة أن الأسر المهاجرة، حتى تلك التي تقيم بصورة قانونية وتحمل بطاقات إقامة وتعمل داخل فرنسا، تحصل على مساعدات اجتماعية تعتبرها بعض الفئات الفرنسية ’امتيازات مسروقة‘. هذا التصور يغذي مشاعر التمييز والكراهية، ويستغله سياسيون من أحزاب مثل ’التجمع الوطني‘ وحزب السياسي الفرنسي إريك زيمور، عبر الدعوة إلى حصر هذه المساعدات بالفرنسيين فقط، مما يزيد من توتير العلاقة بين مكونات المجتمع".
من جانب آخر، يشير وهبي إلى أن "تصاعد الأعمال المعادية للمسلمين غالباً ما يكون مرتبطاً بأحداث سياسية أو دولية معينة، فمثلاً حادثة مقتل رجل من مالي، إضافة إلى جريمة مقتل أبوبكر سيسي في أبريل 2025، والهجوم والطعن في مدينة ميلوز، غالباً ما تصنف من وسائل الإعلام على أنها ’أعمال فردية‘، بدلاً من تسميتها جرائم كراهية، مما يثير غضباً شعبياً واسعاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى طارق وهبي أن "هذه الحوادث تأتي في سياق عوامل متعددة، منها سياسات الدولة الفرنسية تجاه الإسلام والمسلمين، إضافة إلى الأزمات الإقليمية كصراع الشرق الأوسط، وتوتر العلاقات مع تركيا وقطر في شأن التمويل الإسلامي، سواء الثقافي أم السياسي". ويضيف أن "تيار أقصى اليمين في فرنسا، الذي يحاكي خطابات الشعبوية، يلعب دوراً رئيساً في تأجيج الانقسام داخل المجتمع، مما يهدد ما يعرف بالأمن الاجتماعي، ويخلق بؤراً بشرية متطرفة قادرة على القيام بأعمال خارجة عن القانون".
أما عن دور الإعلام الفرنسي في هذا السياق، فيوضح وهبي أن "المشهد الإعلامي السائد، لا سيما عبر شبكات مثل ’سانيوز‘ و’أوروبا 1‘، يروج لخطاب يميني يكرس مفاهيم مثل ’اختراق الإسلام للمجتمع‘، ويستخدم مصطلحات مثل ’الإسلاموية‘ و’الانفصالية‘. كما يلاحظ تصنيف بعض الجرائم باعتبارها ’حوادث عادية‘، بدلاً من توصيفها كجرائم كراهية أو حتى إرهاب، مما يقلل من وعي المجتمع بخطورة الظاهرة ويشجع على تكرارها". ويضيف وهبي أن "غياب سردية بديلة في القنوات ذات الانتشار الواسع – مثل ’تاف 1‘ و’فرانس 2‘ يفاقم المشكلة، إذ لا تطرح هذه القنوات روايات مضادة ولا تسلط الضوء على التجارب الإنسانية للمسلمين، مما يترك المجال مفتوحاً أمام الخطابات السلبية".
وفي تحليله لسبب تضاعف الهجمات على المسلمين ثلاث مرات خلال خمسة أشهر فقط، يقول طارق وهبي "شهدت نهاية الربع الأول من عام 2025 موجة تصعيد كبيرة، إذ ارتفعت الأعمال المعادية للمسلمين بنسبة 72 في المئة خلال الفترة من يناير (كانون الثاني) إلى مارس (آذار)، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024، وذلك بحسب إحصاءات وزارة الداخلية الفرنسية. لقد حمل الخطاب الرسمي – سواء من وزراء أو عبر بيانات الدولة – رائحة تأييد ضمني، باستخدام تعابير مثل ’الإسلاموية‘، وهو ما أعطى بعض مرتكبي هذه الأعمال شعوراً بالشرعية والتغطية السياسية."
كما يشير وهبي إلى أن "تحديث الإطار القانوني والتصريحات الرسمية، إضافة إلى قرارات حرمان جمعيات إسلامية من دعم الدولة قبل وقوع تلك الحوادث بأيام، كلها عوامل خفضت "حاجز التحفظ الاجتماعي" وشجعت بعض الأفراد على التعبير عن عدائهم للمسلمين عبر العنف.
وفي ختام تحليله، يؤكد طارق وهبي أن "بعض الأطراف السياسية، مثل حزب الجمهوريين، أسهمت في تأجيج الوضع، فعقب انتخاب وزير الداخلية برونو ريتايو رئيساً للحزب، شن الأخير هجمات كلامية وأيديولوجية ضد المسلمين، ليس فقط من غير الفرنسيين بل حتى ضد الفرنسيين من أصول غير أوروبية. وهذا النوع من الخطاب يغذي مشاعر العنصرية، ويخلق شرخاً اجتماعياً عميقاً، ويقوض مبدأ التنوع الثقافي والاجتماعي في فرنسا".
ويختم طارق وهبي بالقول إن "الانتخابات البلدية المقبلة في مارس 2026 ستظهر إلى أي مدى سيكون هناك صراع بين من يرغب بالعيش لوحده، ومن يسعى إلى إرساء العيش المشترك مع كل مكونات المجتمع الفرنسي".
أوروبا قلقة أيضاً
في سياق متصل، صرحت مديرة وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية سيربا راوتيو في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، "نشهد ارتفاعاً مقلقاً في العنصرية والتمييز ضد المسلمين في أوروبا".
ووفقاً لتقرير صادر عن الوكالة بعنوان "أن تكون مسلماً في الاتحاد الأوروبي"، نشر في أكتوبر 2024، أفاد 47 في المئة من المسلمين الذين شملهم الاستطلاع بأنهم ضحايا للتمييز العنصري. ويمثل هذا الرقم زيادة كبيرة عن نسبة 39 في المئة التي سجلت في الاستطلاع الأخير الذي أجري عام 2016. وبصورة أكثر تفصيلاً، كشف الاستطلاع عن أن المسلمين كانوا في غالب الأحيان ضحايا للتمييز في التوظيف (39 في المئة)، وفي مكان العمل (35 في المئة).
ووفقاً للاستطلاع نفسه، كانت النساء المسلمات اللاتي يرتدين ملابس دينية أكثر عرضة للتمييز العنصري، إذ تعرضت 45 في المئة منهن لحوادث من هذا النوع عند البحث عن عمل.
ختاما، يبقى السؤال مفتوحاً: هل ستتمكن فرنسا من إعادة ضبط بوصلتها نحو التعددية والتعايش، أم ستنجر أكثر وراء تيارات الانقسام والإقصاء؟