ملخص
ربما يكون من المبالغ فيه افتراض أن ترمب تبنى أخيراً قضية أوكرانيا وتحول بصورة نهائية إلى مسار لا عودة فيه، لأن استئناف الإمدادات العسكرية يعد في أحسن الأحوال عودة للوضع السابق الذي كان فيه الدعم العسكري الأميركي ينتهي ببطء وليس فجأة، وفي ظل الضغوط التي من المحتمل جداً أن تتجدد بين قيادات كتلة "ماغا" (لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى) والتي تمثل القاعدة الشعبية للرئيس ترمب، من الجائز أن يعود الرئيس الأميركي لمساره القديم.
كانت تصريحات دونالد ترمب باستئناف تقديم الأسلحة الأميركية إلى أوكرانيا بمثابة انقلاب آخر في سياسة الرئيس الأميركي الذي كثيراً ما أعرب عن تشككه في المساعدات الأميركية لأوكرانيا، وقبل أشهر فقط وبّخ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في المكتب البيضاوي، قائلاً إنه لم يكُن ممتناً بما فيه الكفاية للدعم الأميركي، فما السبب وراء هذا التحول؟ وكيف يمكن أن يغير ذلك من طبيعة الصراع أو التأثير في إمكان الحل السياسي؟
تقلب مستمر
كثيراً ما شكك ترمب في إرسال مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا، فمنذ توليه منصبه في يناير (كانون الثاني) الماضي، لم يعلن عن أية حزم مساعدات جديدة لأوكرانيا مقارنة بما تعهد به الرئيس السابق جو بايدن بتقديم مساعدات عسكرية لكييف بقيمة 65 مليار دولار، وعلى رغم تعرض أوكرانيا لقصف جوي وتراجعها تدريجاً على الأرض، لم يقدم الرئيس الأميركي أية التزامات جديدة، ولا تزال عشرات مليارات الدولارات من المساعدات لأوكرانيا التي أقرها الكونغرس العام الماضي غير ملتزم بها.
وبينما كافح ترمب لإيجاد حل للحرب الوحشية التي ادعى كمرشح رئاسي أنه يستطيع إنهاءها في غضون 24 ساعة، لم يخصص الكونغرس الذي يهيمن عليه الجمهوريون أموالاً جديدة، ولم يتضمن مشروع قانون الضرائب والإنفاق الذي يصفه ترمب بالجميل والكبير الذي وقعه أخيراً ليصبح قانوناً، أية أموال لأوكرانيا، حتى المبالغ الضئيلة المخصصة لكييف في موازنة "البنتاغون" العادية ستُقلص أكثر بموجب طلب الموازنة للسنة المالية 2026.
لكن ترمب الذي وبّخ مع نائبه جي دي فانس الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على الهواء مباشرة في المكتب البيضاوي لأنه لم يكُن ممتناً على نحو كافٍ للمساعدات التي تقدمها واشنطن، اجتمع مرة أخرى به لتهدئة الأجواء على هامش جنازة بابا الفاتيكان، وفي الـ25 من يونيو (حزيران) الماضي، عقد اجتماعاً آخر مع زيلينسكي خلال قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) في لاهاي بدا أنه سار بصورة جيدة بعدما طلب زيلينسكي المساعدة في الدفاع عن أوكرانيا ضد الهجمات الجوية الروسية المكثفة على المدنيين، وأبدى استعداد بلاده لشراء المعدات العسكرية ودعم مصنعي الأسلحة الأميركيين، مما جعل ترمب يبدي انفتاحه قائلاً "إنهم يريدون صواريخ باتريوت المضادة للصواريخ، وسنرى ما إذا كان بإمكاننا توفير بعضها".
صدمة وعودة
لكن في الأول من يوليو (تموز) الجاري، صدم "البنتاغون" أوكرانيا وحلفاء الولايات المتحدة عندما أعلن عن وقف كل شحنات صواريخ "باتريوت" إلى أوكرانيا، إلى جانب صواريخ "ستينغر" المضادة للطائرات والصواريخ دقيقة التوجيه وصواريخ "هيلفاير" وقذائف "هاوتزر" وصواريخ "سبارو" جو-جو من النوع الذي تستخدمه مقاتلات "إف-16"، علماً أن عدداً كبيراً من هذه الأسلحة سُلّم بالفعل إلى مستودعات أمامية في بولندا انتظاراً لنقلها عبر الحدود، مما عكس كل شيء يتعلق بتطمينات ترمب.
وعكس توقف إدارة ترمب المتكرر للمساعدات تجاهلاً لما فعلته كييف لاسترضاء الرئيس الأميركي تحت ضغط من البيت الأبيض، إذ وقع الأوكرانيون اتفاقاً يمنح الولايات المتحدة حقوقاً واسعة لاستغلال المعادن الأوكرانية النادرة، ووقعت كييف على اتفاق وقف إطلاق النار الذي اقترحته واشنطن والذي تجاهله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين علناً، لكن كل ذلك لم يجدِ نفعاً بالنسبة إلى المسؤولين الأوكرانيين الذين أبدوا استياءهم الشديد من تكرار ترمب ومبعوثه ستيف ويتكوف، تصريحات الكرملين وإشادتهما بشخصية بوتين.
ثم في تراجع آخر مفاجئ، عاد ترمب ليشير إلى إرسال بعض الأسلحة الدفاعية للأوكرانيين، قائلاً "يجب أن يكونوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم"، معرباً عن خيبة أمله في الرئيس الروسي لعدم تحركه لإنهاء الحرب، مما يثير لدى حلفاء الولايات المتحدة كثيراً من الشكوك والقلق بسبب سياسة التذبذب وعدم اليقين التي تتقلب بها الإدارة الأميركية.
هل ضلل "البنتاغون" ترمب؟
قدمت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) تعليق شحنات الأسلحة لأوكرانيا كجزء من عملية مراجعة لضمان احتفاظ أميركا بمخزونها الخاص من هذه الأسلحة، فصرح المتحدث باسم "البنتاغون شون بارنيل الأربعاء الماضي بأنه لا يمكن للولايات المتحدة توفير الأسلحة للجميع في مختلف أنحاء العالم، كما صرحت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولاين ليفيت بأن تعليق توريد الأسلحة إلى أوكرانيا يأتي في إطار مراجعة معيارية لكل الأسلحة والمساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة حول العالم وليس فقط لأوكرانيا، وأن وزير الدفاع بيت هيغسيث هو من أمر بإجراء مراجعة عالمية للأسلحة والمساعدات لضمان توافق كل ما يقدم منها مع مصالح أميركا.
لكن يبدو أن ما قدمه "البنتاغون" والبيت الأبيض كان مضللاً في معظمه، فصحيح أن معظم دول الغرب تعاني نقصاً في أسلحة الدفاع الجوي، مثل صواريخ "باتريوت" التي تعترض الصواريخ الباليستية وصواريخ "كروز"، لكن الأسلحة التي ترسل إلى أوكرانيا الآن تأتي من خطوط إنتاج المقاولين (شركات إنتاج السلاح)، وليس من مخزون القوات الأميركية نفسها، كما لم يحدث انقطاع مماثل في إمدادات الأسلحة لإسرائيل التي استخدمت إلى جانب أميركا، كثيراً من صواريخ الدفاع الجوي الاعتراضية لصد الصواريخ الإيرانية في حرب الأيام الـ 12 الأخيرة بحسب ما يشير الخبير في الشؤون الروسية والأوروبية كريستيان كاريل.
وأفادت صحيفة "وول ستريت جورنال" بأن ترمب أبلغ الرئيس زيلينسكي بأنه لم يأمر بتعليق شحنات الأسلحة خلال مكالمة هاتفية الأسبوع الماضي، مما يعني أن القيادة المدنية لـ"البنتاغون" تجاوزت الرئيس في تحديد سياسة دفاعية عليا، كما أن الشكوك حول ما أعلنه "البنتاغون" عن مراجعة المخزون الأميركي من أنواع الأسلحة الدفاعية بدأت تتزايد في الكونغرس، حيث وصف السيناتور الديمقراطي ريتشارد بلومنثال، عضو لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، هذه الحجة بأنها "مضللة وربما مخادعة"، ويبدو أن شكوكه تأكدت من خلال تقرير لشبكة "أن بي سي نيوز" يفيد بأن مراجعة داخلية لـ"البنتاغون" خلصت إلى أن تزويد أوكرانيا بالأسلحة لن يؤثر في جاهزية الجيش الأميركي.
وشكك جيك سوليفان مستشار الأمن القومي خلال إدارة بايدن في هذا العذر، مجادلاً بوجود طرق للحفاظ على الإمدادات إلى أوكرانيا من دون المساس بجاهزيتها، وفي الوقت نفسه أعلن ثلاثة أعضاء ديمقراطيين في مجلس الشيوخ الخميس الماضي فتح تحقيق في أسباب رفض الإدارة الواضح تطبيق عقوبات جديدة على موسكو والذي يقاومه ترمب.
ليست أوكرانيا فقط
ومع ذلك يصرّ المتحدث باسم "البنتاغون" على أن عملية تقييم الشحنات العسكرية حول العالم لا تزال سارية، وهي جزء لا يتجزأ من الأولوية الدفاعية المتمثلة في مبدأ "أميركا أولاً"، مما يعني أنه لا يزال من الممكن حجب بعض الأسلحة عن أوكرانيا.
ولا يبدو أن هذه السياسة من قبل "البنتاغون" تستهدف أوكرانيا فقط، بل تمتد إلى أبعد من ذلك، إذ نسبت وسائل إعلام أميركية قرار تجميد الإمدادات إلى وكيل وزارة الدفاع للشؤون السياسية إلبردج كولبي، المعروف بدعوته إلى تركيز الجهود الدفاعية الأميركية على الصين، وتقليص جهود مساعدة أوكرانيا أو القضاء عليها تماماً.
ليس هذا وحسب، إذ أطلق كولبي مراجعة أخرى لـ"اتفاقية أوكوس"، وهي اتفاقية تاريخية أبرمتها إدارة بايدن مع لندن وكانبيرا لمساعدة الأستراليين في امتلاك أسطولهم الخاص من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، بما في ذلك استثمار مليارات الدولارات في أحواض بناء السفن الأميركية، فطعن كولبي علناً في الصفقة، وتساءل عن قرار بيع ثلاث غواصات نووية من طراز "فرجينيا" إلى البحرية الأسترالية.
وخلال قمة حلف شمال الأطلسي لم يتناول الاجتماع الشكوك المتزايدة حول مدى التزام واشنطن أمن أوروبا، في وقت بدا أن شركاء الولايات المتحدة استوعبوا درساً مفاده بأن وعود الدعم الأميركية أصبحت الآن مشروطة ومتقلبة، بل في بعض الحالات زائلة، إذ إن كندا، الصديقة الوفية للولايات المتحدة على مدى الأعوام الـ 100 الماضية، وجدت نفسها في مواجهة تصريحات البيت الأبيض التي تشكك في وجودها كدولة مستقلة، كما أن الدنمارك التي وقفت إلى جانب الولايات المتحدة طوال ما يسمى "الحرب العالمية على الإرهاب"، اضطرت إلى التعامل مع رئيس أميركي ألمح إلى أنه قد يرسل جنوده لغزو غرينلاند التابعة لها إذا لم تسلمها كوبنهاغن، مما يثير استهجاناً حول كيف يمكن أن تكون عضواً في تحالف دفاعي مع دولة يقول رئيسها إنها يمكن أن تهاجمك.
استياء مبرر
لكن الإحباط الذي شعر به ترمب بعد هجوم روسيا على كييف ومدن أوكرانية أخرى بأكبر عدد طوال الحرب من الطائرات المسيّرة والصواريخ التي أطلقت دفعة واحدة، والذي جاء بعد ساعات قليلة من مكالمة هاتفية بين ترمب وبوتين، ربما يكون أحد أبرز العوامل التي دفعت الرئيس الأميركي إلى اتخاذ هذا المنعطف الحاد في سياسته تجاه الحرب، بخاصة أن ترمب لم يخفِ استياءه حيال بوتين الذي كان يصف علاقته به عادة بعبارات أكثر تفاؤلاً.
حتى الآن، حاول ترمب استمالة بوتين بإغراءات التقارب الدبلوماسي والصفقات المربحة، لكن هذه المرة استخدم عصا خفيفة على أمل في أن تحدث تأثيراً يحسن من فرص التفاوض والحل السلمي ويمنع انتصار موسكو، من خلال الإعلان عن إرسال الأسلحة الدفاعية إلى أوكرانيا، في وقت أطلقت روسيا خلال الأسبوع الماضي نحو 1270 طائرة مسيّرة و39 صاروخاً ونحو 1000 قنبلة انزلاقية قوية على المدن الأوكرانية بحسب زيلينسكي، كما يسعى الجيش الروسي الأكبر حجماً أيضاً جاهداً إلى اختراق بعض النقاط على طول خط المواجهة الذي يبلغ نحو 1000 كيلومتر، حيث تعاني القوات الأوكرانية ضغوطاً شديدة.
وترافقت الضغوط على الجبهة مع تجديد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف رفض الكرملين وقف إطلاق النار ومطالبه الثابتة بنزع السلاح وتغيير النظام في أوكرانيا والقضاء على الأسباب الجذرية للحرب التي عرّفها لافروف بأنها توسع "ناتو"، والتمييز المزعوم الذي تمارسه أوكرانيا ضد الناطقين بالروسية، كما أكد لافروف أن روسيا تعارض وقف إطلاق النار لأن أوكرانيا وحلفاءها سيستغلون فترة التوقف لإعادة تنظيم وتشكيل الجيش الأوكراني، كما تطالب موسكو بالاعتراف الدولي بضم روسيا لمقاطعات لوغانسك ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون وشبه جزيرة القرم، مما يفسره معهد دراسة الحرب الأميركي على أنه يعني عدم اهتمام الكرملين بمفاوضات سلام صادقة ورفض أية تسوية للحرب لا ترضخ لمطالبه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مواجهة تلاعب بوتين
على رغم أن الرئيس ترمب لا يزال يحلم بعقد صفقة كبيرة مع بوتين، فإنه بدأ يدرك أن الرئيس الروسي يتلاعب به، فهو لا يريد إنفاق مزيد من المال على مساعدة أوكرانيا في الفوز، ولكنه لا يريدها أن تنهار خلال عهده، وربما يدرك أن هزيمة أوكرانيا ستكون ضربة جيوسياسية للولايات المتحدة، وقد تكون أشد وطأة من انهيار أفغانستان بعد انسحاب أميركا عام 2021، وهو الانسحاب الفوضوي المهين الذي لم يتعافَ بايدن أبداً منه ولم يكفّ ترمب عن توبيخه حياله.
ولهذا فإن قرار دعم ترمب أوكرانيا هو قرار يستند إلى الحس السليم، إذ شهدت أوكرانيا خلال الأسابيع الأخيرة أعنف عمليات القصف بالطائرات المسيّرة والصواريخ منذ بدء الهجوم الروسي الشامل قبل ثلاثة أعوام، وكان وقف المساعدات الأميركية، بخاصة صواريخ "باتريوت" وغيرها من صواريخ الدفاع الجوي، بمثابة إطلاق يد لروسيا في هذه الحرب.
درس معبّر للغاية
ومع ذلك، ربما يكون من المبالغ فيه افتراض أن ترمب تبنى أخيراً قضية أوكرانيا وتحول بصورة نهائية إلى مسار لا عودة فيه، لأن استئناف الإمدادات العسكرية يعد في أحسن الأحوال عودة للوضع السابق الذي كان فيه الدعم العسكري الأميركي ينتهي ببطء وليس فجأة، وفي ظل الضغوط التي من المحتمل جداً أن تتجدد بين قيادات كتلة "ماغا" (لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى) والتي تمثل القاعدة الشعبية للرئيس ترمب، من الجائز أن يعود الرئيس الأميركي لمساره القديم.
ولمَ لا، ففي أعقاب قرار "البنتاغون" تجميد شحنات الأسلحة بداية الشهر الجاري، نشر خبير السياسة الخارجية الأوكراني أوليكساندر كرايف تعليقاً على "فيسبوك" يجسد فيه وضع أوكرانيا مع الولايات المتحدة، فأوضح أن كييف عملت بجد لفعل كل شيء أراده الأميركيون فقط لتستفيق من وهم التحول المفاجئ لواشنطن، مما يعد من وجهة نظره درساً جيداً جداً ومعبراً للغاية لكل من تايوان وإسرائيل وأوروبا ولكل من يعتبر ترمب شريكاً وصديقاً.