ملخص
ارتفع الإنفاق الدفاعي الصيني بنسبة سبعة في المئة ليصل إلى نحو 314 مليار دولار. وشكلت بكين 50 في المئة من إجمال الإنفاق العسكري في آسيا وأوقيانوسيا. وتستثمر بثبات في تحديث جيشها وتوسيع قدراتها في مجال الحرب السيبرانية وترسانتها النووية.
بدا حلف شمال الأطلسي في قمته الأخيرة التي انعقدت في لاهاي كما لو أنه لن يتمكن من أداء المهام الأمنية والسياسية العريضة والواسعة التي أخذها على عاتقه منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، كما كان يفعل قبل اندلاع الحرب الأوكرانية من دون زيادة الإنفاق الدفاعي إلى أقصى حد ممكن، على رغم أن الوقائع السياسية الراهنة والحقائق الميدانية الجديدة تتطلب معالجة قضايا أوسع نطاقاً تتجاوز مجرد الانتظام في سباق تسلح جديد هو الأوسع والأشمل والأول من نوعه منذ انتهاء الحرب الباردة.
خلال الأعوام الستة التي انقضت منذ آخر حضور لدونالد ترمب في قمة حلف شمال الأطلسي خلال ولايته الأولى، شهد العالم تغيراً جذرياً. وتعرض نظام التنسيق الأمني الدولي القديم لاختبارات قاسية بسبب جائحة كورونا، وحرب شاملة في أوروبا تدور رحاها على الأراضي الأوكرانية، وإعادة توزيع عالمية للقوة مدفوعة بعودة روسيا إلى الحلبة الدولية وبصعود الصين وأزمة الغرب. وتشكل حقائق الأمن الدولي الجديدة تحديات جديدة للولايات المتحدة وحلفائها الذين صار ينقصهم اليقين ويساورهم الشك حول دورها في حمايتهم وتأمين مظلة نووية لهم.
حال عدم يقين
بالنسبة إلى أوروبا يشكل هذا وضعاً معقداً نوعاً ما، فمن بين القوى العظمى الحديثة، التي تزداد تناقضاتها حدة، يبدو الاتحاد الأوروبي الحلقة الأضعف. لم تكن السياسة الخارجية والأمن قط نقطة قوته، وعندما يعود العالم إلى نموذج الواقعية، يبرز هذا الضعف بصورة خاصة. في الواقع تمثل دول أوروبية كبرى الاتحاد الأوروبي مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبولندا، أحياناً تنضم إليها بريطانيا، لكن المصالح الاستراتيجية لهذه الدول تبقى مختلفة. والآن أصبح لديها قواسم مشتركة أكبر بسبب الحرب الروسية - الأوكرانية والتهديدات المرتبطة بها، لكن هذا لا يكفي لحماية مصالحها بفاعلية.
في ظل هذه الظروف اكتسبت قمة "الناتو" في لاهاي أهمية خاصة، إذ حضرتها كل من الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين بتوقعات ومخاوف متباينة. لهذا اتفق الحلفاء خلالها في شأن قضايا رئيسة، واختلفوا حول أخرى، فاتفقوا مثلاً على زيادة الإنفاق الدفاعي، وتفاوتت مواقفهم من الحرب الروسية - الأوكرانية، وخطر تعرض "الناتو" للتفكك، ودوره في هيكل الأمن الدولي.
وواجه "الناتو" تحديات جسيمة عشية انعقاد القمة، معظمها لا يتعلق فقط باختلاف الأولويات، بل أيضاً بالتغيرات الموضوعية التي يشهدها العالم. ومن أجل الحفاظ على هذا الحلف الذي لا يزال الاهتمام بوجوده واستمراره قائماً بقوة بين الدول الأعضاء، اضطر قادة دوله صاغرين إلى النزول عند رغبة ترمب بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، لأن لا أحد منهم يرغب في فقدان هذه الأداة الموثوقة والفعالة لأمنهم الجماعي.
التزام دفاع جماعي
ففي قمتهم الأخيرة في لاهاي في الـ24 والـ25 من يونيو (حزيران) الماضي، أكد الحلفاء مجدداً "التزامهم الصارم الدفاع الجماعي"، إذ اتفقوا على زيادة الإنفاق الدفاعي إلى خمسة في المئة من إجمال الناتج المحلي خلال العقد المقبل، على رغم وجود بعض المرونة في ما يتعلق بالمبلغ الذي سيجري التزامه للدفاع عن خطوط المواجهة. وقد حصلت إسبانيا على استثناء مثير للجدل من خلال وعدها بتحقيق هدف الإنفاق الدفاعي لحلف الناتو بكلفة أقل.
ووصف الأمين العام لحلف "الناتو" رئيس الوزراء الهولندي السابق، مارك روته، روسيا بأنها "التهديد الأكثر أهمية ومباشرة" للحلف.
ويمثل هدف الإنفاق الجديد، الذي من المقرر تحقيقه على مدى الأعوام الـ10 المقبلة، قفزة بقيمة مئات المليارات من الدولارات سنوياً مقارنة بالهدف الحالي البالغ اثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
ونقلت وكالات الأنباء عن أحد مسؤولي الاستخبارات في الحلف، من دون أن تسميه، القول "كلنا نريد ردع روسيا من خلال إظهار القوة، وبتعزيز قدراتنا. ولكن على الجانب الآخر، ستكون هناك حسابات بوتين الخاصة في مرحلة ما تتعلق بما إذا كان يعتقد أنه قادر على تحقيق النصر. علينا أن نتأكد من أنه لا يخطئ التقدير".
فبناءً على الرؤية الشاملة للسياسة الخارجية الأميركية، كان من المهم لترمب أن يجعل أوروبا حليفاً يتحمل كلفة الدفاع عن نفسه في الأقل، لذلك ارتبطت القضية الرئيسة للقمة بزيادة الإنفاق الدفاعي للحلفاء إلى خمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي تلبية لرغبة ونهج واشنطن الجديد.
واللافت أن حلف شمال الأطلسي الذي عاش فترة استقرار وازدهار بعد سقوط نده حلف وارسو، شهد تجاذبات وتغييرات كبيرة على يد الرئيس الأميركي ترمب، الذي فرض رفع الإنفاق الدفاعي، ونجح في ذلك عبر إعادة ترتيب سياسات الحلف. ووافق الحلف على تخصيص خمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق العسكري بحلول عام 2035، منها 3.5 في المئة للقوة العسكرية، والباقي لتعزيز الدفاعات السيبرانية. هذا الارتفاع في الإنفاق يمثل عبئاً ثقيلاً على بعض الدول الأعضاء مثل إسبانيا التي أنفقت 1.28 في المئة فقط من ناتجها المحلي عام 2024، إضافة إلى سلوفينيا وبلجيكا اللتين لم تصل موازنتيهما إلى الحد الأدنى المطلوب أي 1.5 في المئة.
لكن هذه القفزة النوعية والكمية في الموازنات العسكرية لن تكون سهلة على الإطلاق، بسبب تباين مصالح الدول الأوروبية والمشكلات الخطرة في اقتصاداتها. فاعتباراً من عام 2024، لم تحقق سوى 23 دولة من أصل 32 عضواً في حلف الناتو "المعيار" السابق البالغ اثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وسيكون من الصعب على كثر من الأعضاء زيادة الإنفاق الدفاعي بسرعة إلى خمسة في المئة، لا يرى بعضهم حاجة ملحة إلى ذلك، خلافاً لما يفعله جيران روسيا المنضوون في الحلف.
وشهدت ألمانيا تحركات جدية لتعزيز جهودها الدفاعية في ظل استمرار الهجوم الروسي على أوكرانيا، إذ أكد المستشار الألماني فريدريش ميرتس أن بلاده لا يمكنها الركون إلى شعور زائف بالأمن، مشدداً على ضرورة مضاعفة الجهد الدفاعي. ووصف ميرتس قيادة العمليات في ألمانيا بأنها قلب الجيش مشيداً باحترافيتها وقدرتها على التخطيط والتنسيق مع حلف شمال الأطلسي. تأتي تصريحاته وسط دعوات متزايدة لزيادة موازنة الدفاع واستعداد ألمانيا لمواجهة أي تهديدات خارجية.
في الوقت نفسه حضر المستشار الألماني السابق أولاف شولتز، معتبراً أن هناك توهماً في شأن خطط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا، مؤكداً أنه يعتزم التمسك بتوسيع حربه هناك، ولا ينبغي السماح له بتغيير موازين القوى.
وحدها إسبانيا تظل مترددة في الالتزام الكامل الاتفاق الجديد، لكن ترمب أصر على قبول الجميع، معتبراً أنه سيتولى بنفسه التفاوض مع مدريد لضمان ذلك. يوضح هذا الموقف كيف فرض ترمب أجندته وسياسته داخل أكبر تحالف عسكري في العالم، مؤكداً ضرورة رفع الإنفاق الدفاعي وتغيير قواعد اللعبة.
فترمب أكد من جديد أن الجميع سيقبل بما يريد "سأتفاوض مباشرة مع إسبانيا، سأفعل ذلك بنفسي، سيدفعون، سيدفعون مزيداً بهذه الطريقة. عليك أن تطلب منهم العودة والدفع، هل أنت صحافي؟ أطلب منهم العودة، عليهم الانضمام إلى جميع الدول التي تدفع خمسة في المئة".
زيادة الإنفاق العسكري يعبر عن قلق حقيقي لدى دول "الناتو"، بخاصة الأوروبية منها، فضلاً عن أنها رد فعل لمطالب ترمب بالحفاظ على الحماية الأميركية للدول الأعضاء، خصوصاً في أوروبا الشرقية التي تشعر بتهديد روسي مباشر. وأوضح مراقبون أن الخطر الروسي يتصاعد على أبواب الاتحاد الأوروبي، وتحديداً في بولندا ورومانيا، حيث يوجد تعاطف شعبي ملموس مع موسكو.
بالتطرق إلى ألمانيا، يمثل الاتفاق على تخصيص خمسة في المئة من الناتج المحلي للإنفاق الدفاعي تحولاً كبيراً لدى أكبر اقتصاد أوروبي، بخاصة أن سياسة الإنفاق الأوروبية كانت تركز على عدم تجاوز عجز الموازنة ثلاثة في المئة. هذا التوجه الجديد سيؤدي إلى إعادة هيكلة موازنات دول الاتحاد الأوروبي كلها، بما في ذلك ألمانيا التي أعلنت استعدادها للقيام بكل ما يلزم للحفاظ على أمن أوروبا الداخلي والخارجي، لا سيما في مواجهة الهجمات السيبرانية الروسية التي قد تستهدف الانتخابات الأوروبية المقبلة.
لكن التحديات الاقتصادية والاجتماعية تبقى كبيرة، فزيادة الإنفاق العسكري ستعني أعباء جديدة على دافعي الضرائب الأوروبيين، بخاصة الطبقات الوسطى والفقيرة التي تعاني أصلاً من تداعيات الحروب والأزمات الاقتصادية. وأكد المستشار الألماني أن العجز في الموازنة والدين العام سيزداد، وهو واقع مشترك مع فرنسا التي وصلت نسبة ديونها إلى 140 في المئة من الناتج المحلي، في حين تستعد لتخصيص نحو 840 مليار يورو (990 مليار دولار) لإنفاق دفاعي يسهم في تطوير الجيش الألماني ليصبح الأبرز في أوروبا.
هذه السياسات تعكس رسالة مزدوجة، فهي موجهة داخلياً لطمأنة الشعوب الأوروبية، ورد على الاتهامات الروسية التي تقول إن هذه الزيادة في الإنفاق هي عبء على المواطنين. ويبقى السؤال حول كيفية توازن هذه الدول بين تعزيز قدراتها الدفاعية والحفاظ على برامج الرعاية الاجتماعية في ظل أزمات اقتصادية وركود متوقع.
على صعيد آخر لم تكشف فرنسا حتى الآن عن تفاصيل خطة التمويل التي ستغطي أكثر من 500 مليار يورو (589 مليار دولار) خلال السنوات المقبلة لتقوية دفاعها، فيما تستمر بعض الدول، مثل إسبانيا، في معارضة زيادة الإنفاق الدفاعي بسبب مخاوفها من ارتفاع العجز وتأثيره في الاقتصاد الداخلي.
تسعى أوروبا إلى بناء سياسة دفاعية أطلسية موحدة، على رغم التفاوت الواضح بين الدول من جهة القدرات العسكرية والموازنات المخصصة، وهو تحد كبير تواجهه القارة في وقت يتصاعد فيه التوتر مع روسيا.
رد فعل بوتين!
ورداً على هذه الخطوة، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين السبت الماضي، إن نفقات حلف شمال الأطلسي ستستخدم في عمليات الشراء من الولايات المتحدة، وتسمى هذه الخطوة "شؤون ناتو" وليس روسيا.
"لكن الآن هذا هو أهم شيء، نحن نخطط لخفض الإنفاق الدفاعي، بالنسبة إلينا عام 2026 والعام التالي 2027، على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة، نخطط لذلك". وقال بوتين إنه لا يوجد اتفاق نهائي بين وزارات الدفاع والتمويل والاقتصاد.
وتساءل بوتين "لكن بصورة عامة يفكر الجميع في هذا الاتجاه. وأوروبا تفكر في كيفية زيادة الإنفاق، والعكس صحيح، إذاً من يستعد لبعض أنواع الأعمال العدوانية؟ نحن أم هم؟".
ويرى الرئيس الروسي أن "النزعة العسكرية الغربية ترتكز على فوبيا عدوانية موسكو، لكنهم يقلبون كل شيء رأساً على عقب"، ويضيف أن "روسيا خدعت بخصوص عدم توسع (الناتو) شرقاً، فعلى رغم الوعود بعدم التمدد شبراً واحداً، كانت هناك موجات عدة من التوسع".
وفي اجتماع مع رؤساء وكالات الأنباء العالمية في الـ19 من يونيو الماضي، وصف بوتين المزاعم التي تتحدث عن تخطيط روسيا لمهاجمة الدول الأوروبية وحلف شمال الأطلسي بأنها "أكاذيب وهراء". وقال "هذه هي الكذبة الفادحة نفسها التي يحاولون إقناع شعوب دول أوروبا الغربية بها. نحن ندرك أن هذا هراء، أليس كذلك؟ من يقول هذا لا يصدقه بنفسه".
وقال بوتين في مؤتمر صحافي عقب محادثاته مع وزير خارجية لاوس ثونغسافان فومفيهان، "أعتقد أن هناك تهديداً، بالطبع، التهديد يزداد سوءاً، وهذا تهديد لدافعي الضرائب في دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، الذين سلبوا ببساطة على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، وبدلاً من استخدام الموارد التي جرى تلقيها من خلال الضرائب لحل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية الأكثر حدة وتفاقماً، يجري استخدام هذه الأموال لتمويل حرب لا معنى لها في أوكرانيا".
واعتبر أن العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة "بدأت تشهد نوعاً من الاستقرار"، مشيراً إلى أن "التحسن يعود للجهود التي يبذلها دونالد ترمب". وجدد بوتين تأكيده أنه يكن "احتراماً كبيراً" لترمب، معرباً عن استعداده للقاء به، لكنه قال "عقد مثل هذا اللقاء يتطلب تحضيراً دقيقاً... وهو ممكن جداً". وتابع "بوجه عام، وبفضل الرئيس ترمب، بدأت العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة تتجه نحو التوازن في بعض الجوانب"، لافتاً إلى أنه "لم يحسم كل شيء في المجال الدبلوماسي، لكن الخطوات الأولى قد اتُّخذت، ونحن نحرز تقدماً إلى الأمام".
وفي تناقض مع توجه "الناتو" لزيادة موازنته العسكرية، قال الرئيس الروسي، إن بلاده "تواجه تحديات في الموازنة في شأن الإنفاق العسكري"، معلناً نيته خفض الإنفاق في مجال الدفاع.
وأشار بوتين، خلال مؤتمر صحافي في اختتام أعمال اجتماع المجلس الاقتصادي الأوراسي الأعلى، الذي عقد في العاصمة البيلاروسية مينسك أواخر يونيو الماضي، إلى أن رفع النفقات العسكرية في روسيا تسبب في ارتفاع التضخم، مضيفاً أن "الإنفاق العسكري يمثل 13.5 تريليون روبل (153 مليار دولار) من إجمال الناتج المحلي الروسي البالغ 223 تريليون روبل (2.55 تريليون دولار)". ولفت إلى أن "روسيا تخطط لخفض الإنفاق العسكري في المستقبل، على عكس الغرب"، على رغم أن الموازنة الدفاعية لروسيا سجلت زيادة 25 في المئة خلال العام الحالي لتبلغ 6.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى مستوى لها منذ نهاية الحرب الباردة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتعكس الأرقام الرسمية أن 32 في المئة من إجمال النفقات العامة الروسية للعام الحالي مخصصة للقطاع الدفاعي، مما يسلط الضوء على مركزية العسكرة في السياسة المالية. ومع ذلك اتهم بوتين حلف شمال الأطلسي بزيادة الإنفاق العسكري بناءً على توهمه "عدواناً روسياً غير موجود".
وعزت الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي زيادة هدف الإنفاق الجماعي من اثنين في المئة إلى خمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال الأعوام الـ10 المقبلة، إلى ما وصفته بأنه "تهديد طويل الأمد تشكله روسيا"، فضلاً عن ضرورة تعزيز الصمود المدني والعسكري.
وبينما تنفي موسكو نيتها مهاجمة أي دولة عضو في حلف "الناتو"، تنفق أكثر من 32 في المئة من موازنة هذا العام على الدفاع.
لافروف يحذر!
من جهته، أعلن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن موسكو تخطط لخفض إنفاقها العسكري، مشيراً إلى أن الإنفاق الدفاعي الروسي يشكل حالياً 32 في المئة من إجمال الموازنة العامة للعام الحالي. واعتبر أن مساعي الناتو إلى زيادة موازناته الدفاعية قد تفضي في نهاية المطاف إلى انهيار التحالف ذاته، موضحاً أن خطط الدول الأوروبية لزيادة الإنفاق الدفاعي تشكل تهديداً لمواطنيها.
وفي رده على تصريحات وزير الخارجية البولندي رادوسلاف سيكورسكي، التي قال فيها إن سباق التسلح بين روسيا والغرب قد يعجل بسقوط نظام الرئيس فلاديمير بوتين كما حدث مع الاتحاد السوفياتي، قال لافروف "إذا كان سيكورسكي يرى نفسه نبياً، فلعله يتنبأ بأن الارتفاع الكارثي في موازنات الدفاع داخل دول الناتو، حسب تقديري، سيؤدي إلى انهيار المنظمة نفسها".
منذ بدء الغزو الروسي الواسع لأوكرانيا عام 2022، بعد ثمانية أعوام من النزاع في شرق البلاد، وروسيا تنفي مراراً الاتهامات الغربية بأنها تعتزم مهاجمة أي من دول الناتو. وقد حذرت موسكو وواشنطن على حد سواء من أن مثل هذه الخطوة قد تشعل فتيل حرب عالمية ثالثة.
دعوة إلى خوض سباق تسلح!
على خط موازٍ، قال عضو لجنة الدفاع في مجلس النواب الروسي (الدوما)، فيكتور زافارزين، إنه ينبغي على موسكو تطوير مجمعها الصناعي العسكري الخاص بها لموازنة خطط الاتحاد الأوروبي لزيادة الإنفاق الدفاعي.
وحديث زافارزين كان ضمن تعليقه على اقتراح مفوض الدفاع الأوروبي أندريوس كوبيليوس بإنشاء "جيش من الطائرات المسيرة" في الاتحاد الأوروبي تحسباً لأي صراع عسكري محتمل مع روسيا.
وأشار إلى أن قمة حلف شمال الأطلسي عقدت في اليوم السابق، وبعدها وافقت الدول الأعضاء في التحالف على زيادة الإنفاق الدفاعي إلى خمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035. وذكر "صافحهم ترمب بقبضته، وقال شيئاً، ثم طار بعيداً. من الواضح أنهم سيزيدون الموازنة، لكن ذلك سيأتي بنتائج عكسية، لن يتمكنوا من سحب ثلاثة في المئة، بل خمسة...".
وبحسب قوله فإن الاتحاد الأوروبي يهدف إلى زيادة إنتاج المسيرات، إذ إنها "أصبحت في المقدمة"، وأضاف "إنهم الآن، بطبيعة الحال، سيكلفون جميع أعدائهم بمهام لبناء المصانع وتحسين الإنتاج وما إلى ذلك".
"بالطبع، لا يمكن القول إنهم لا يمتلكون تطورات، فهم يمتلكونها. هناك مسيرات في جميع أنحاء العالم - في إيران، وفي الغرب، وفي كل مكان. لذلك، مهمتنا هي جعل كل شيء قوياً ومتيناً، بحيث يكون هناك توازن"، وفق عضو لجنة الدفاع في مجلس الدوما.
وأشار زافارزين إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وضع أيضاً مهمة تطوير هذه المنطقة. وقال "لدينا فرع جديد من الجيش - قوات الأنظمة غير المأهولة - وهم أيضاً يسلكون هذا المسار. وقد أظهر الصراع مع أوكرانيا أهمية هذه المسألة".
وفي وقت سابق، قال مفوض الدفاع الأوروبي أندريوس كوبيليوس في مقابلة تلفزيونية إن الاتحاد الأوروبي يجب أن ينشئ جيشاً من 3 ملايين مسيرة في حال نشوب صراع عسكري مع روسيا.
وأوضح أن "روسيا يمكن أن تمتلك نحو 5 ملايين مسيرة، وهذا يعني أننا نحتاج إلى قدرات عسكرية أكبر لتحقيق النصر. إذا كان الأوكرانيون في حاجة إلى 4 ملايين، فإننا نحتاج إلى نحو 3 ملايين مسيرة للصمود مدة عام واحد إذا بدأت الحرب اليوم". وأضاف أن أوروبا يجب أن تشكل الآن فرقاً من المهندسين والمصنعين جاهزة لزيادة إنتاج المسيرات.
واشنطن!
ومن المفارقات أن واشنطن التي دعت حلفاءها في "الناتو" لزيادة نفقاتهم الدفاعية لمستويات غير مسبوقة، قالت هي نفسها على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية تامي بروس، إن الكلف الدفاعية المتزايدة لمنظمة حلف شمال الأطلسي "يبدو أنها تزعج" روسيا لأنها أظهرت عودة الحلف إلى دوره كقوة مضادة.
وجاء البيان رداً على تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي وصف في وقت سابق قرار زيادة الموازنة الدفاعية للدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي إلى خمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بأنه خطوة "عبثية" من شأنها أن تؤدي إلى انهيار الحلف.
وقال بروس "ما نعرفه، ويبدو أنه يزعج روسيا، هو حقيقة أن حلف شمال الأطلسي سيعود بقوة إلى جذور تأسيسه كقوة مقاومة، كما كان منذ البداية".
واعتبر المحلل السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، راي مكغفرن، أن حلف الناتو أسهم بنفسه في دفع روسيا نحو اتباع سياسة مستقلة وقائمة على الاكتفاء الذاتي. وأوضح في مقابلة مع صحيفة ألمانية، أن موسكو تبنت سياسة مستقلة قائمة على الاكتفاء الذاتي، نتيجة ما وصفه بـ"الاستفزازات المتكررة" من قبل دول الحلف.
وقال مكغفرن إن "الناتو" تبنى منطقاً قديماً يعود إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى مفاده "إذا أردت السلام، فاستعد للحرب"، منتقداً ما وصفه بانفصال قادة الحلف عن دروس التاريخ وسعيهم وراء "تفوق أخلاقي وهمي"، كما حصل قبيل كارثة عام 1914.
وأضاف أن سياسات "الناتو" أوصلت رسالة واضحة إلى موسكو بأنه مستعد لانتهاك القانون الدولي، مما دفع روسيا إلى تحديث جيشها وتعزيز ترسانتها العسكرية. وأشار إلى أن الجيش الروسي أصبح اليوم أقوى مما كان عليه عام 2022 مستشهداً بالصواريخ المتوسطة المدى الحديثة مثل (أوريشنيك)، التي يصعب على الغرب التصدي لها.
الاتجاه نحو العسكرة!
في عام 2024 وصل الإنفاق العسكري العالمي إلى 2718 مليار دولار، بزيادة قدرها 9.4 في المئة على عام 2023، وهي أكبر زيادة سنوية منذ نهاية الحرب الباردة في الأقل. وقد ارتفع الإنفاق العسكري في جميع مناطق العالم، مع تسجيل أسرع الزيادات في أوروبا والشرق الأوسط، وفقاً لدراسة استقصائية نشرها معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.
خلال عام 2024 زادت أكثر من 100 دولة حول العالم موازناتها الدفاعية. وارتفع الإنفاق العسكري في أوروبا (بما في ذلك روسيا) بنسبة 17 في المئة ليصل إلى 693 مليار دولار، وكان المحرك الرئيس للنمو العالمي عام 2024. وزادت جميع الدول الأوروبية، باستثناء مالطا، إنفاقها العسكري في ذلك العام.
كم تنفق أوكرانيا وروسيا على الأسلحة؟
ارتفع إجمال الإنفاق العسكري لأوكرانيا بنسبة 2.9 في المئة ليصل إلى 64.7 مليار دولار، أي ما يعادل 43 في المئة من الإنفاق العسكري الروسي. وفي عام 2024 تحملت أوكرانيا العبء العسكري الأكبر، إذ تمثل نفقات الدفاع 34 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
ووصل الإنفاق العسكري لروسيا عام 2024 إلى نحو 149 مليار دولار، بزيادة قدرها 38 في المئة على عام 2023 وضعف ما كان عليه عام 2015. ويمثل هذا 7.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا و19 في المئة من إجمال الإنفاق الحكومي في البلاد.
كما يشير دييغو لوبيز دا سيلفا، الباحث البارز في برنامج الإنفاق العسكري وإنتاج الأسلحة التابع لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، إلى أن "أوكرانيا تنفق حالياً جميع عائداتها الضريبية على جيشها". ويعتقد أيضاً أنه في ظل هذه المساحة المالية المحدودة سيكون من الصعب على أوكرانيا مواصلة زيادة إنفاقها العسكري.
كم زاد الإنفاق العسكري لدول "الناتو"؟
زادت جميع الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي إنفاقها العسكري بحلول عام 2024. وبلغ المبلغ الإجمالي 1506 مليارات دولار، أو 55 في المئة من الإنفاق العسكري العالمي.
ومن بين الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي البالغ عددها 32 دولة، أنفقت 18 دولة ما لا يقل عن اثنين في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على قواتها، وفقاً لمنهجية معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، ارتفاعاً من 11 دولة عام 2023، وهو أعلى معدل منذ أن اعتمد حلف شمال الأطلسي إرشادات الإنفاق عام 2014.
وارتفع الإنفاق العسكري في ألمانيا بنسبة 28 في المئة ليصل إلى 88.5 مليار دولار، مما جعل ألمانيا الرائدة في أوروبا الوسطى والغربية والرابعة على مستوى العالم.
ويقول الباحث في برنامج الإنفاق العسكري وإنتاج الأسلحة في معهد ستوكهولم لأبحاث السلام لورينزو سكارازاتو "للمرة الأولى منذ إعادة التوحيد، أصبحت ألمانيا تمتلك أكبر موازنة عسكرية في أوروبا الغربية".
وارتفع الإنفاق العسكري في بولندا بنسبة 31 في المئة إلى 38 مليار دولار عام 2024، وهو ما يمثل 4.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لبولندا.
في عام 2024 زادت المملكة المتحدة إنفاقها العسكري بنسبة 2.8 في المئة ليصل إلى 81.8 مليار دولار، مما يجعلها سادس أكبر منفق على الدفاع. أما فرنسا فقد جاءت في المرتبة التاسعة، بزيادة إنفاقها العسكري بنسبة 6.1 في المئة ليصل إلى 64.7 مليار دولار.
أما الإنفاق العسكري الأميركي فارتفع بنسبة 5.7 في المئة ليصل إلى 997 مليار دولار، وهو ما يمثل 66 في المئة من إجمال إنفاق حلف شمال الأطلسي و37 في المئة من الإنفاق العسكري العالمي عام 2024. وخُصص جزء كبير من موازنة الولايات المتحدة لعام 2024 لتحديث قدرات الجيش الأميركي وترسانته النووية للحفاظ على التفوق الاستراتيجي على روسيا والصين.
وأنفقت الدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي ما مجموعه 454 مليار دولار، وهو ما يمثل 30 في المئة من إجمال إنفاق التحالف.
وتشهد الموازنات العسكرية نمواً أيضاً في الشرق الأوسط. ويقدر الإنفاق العسكري في الشرق الأوسط عام 2024 بنحو 243 مليار دولار، بزيادة قدرها 15 في المئة على عام 2023 و19 في المئة على عام 2015.
وارتفعت موازنة الدفاع الإسرائيلية عام 2024 بنسبة 65 في المئة لتصل إلى 46.5 مليار دولار، وهي أكبر زيادة سنوية منذ حرب عام 1967. وقد تأثرت هذه الزيادة، بطبيعة الحال، باستمرار حروب إسرائيل في غزة ومع "حزب الله" في لبنان. وارتفع العبء العسكري الإسرائيلي إلى 8.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ثاني أعلى معدل في العالم.
وانخفض الإنفاق العسكري الإيراني عام 2024 بنسبة 10 في المئة بالقيمة الحقيقية ليصل إلى 7.9 مليار دولار فحسب، على رغم انتظام البلاد في صراعات إقليمية ودعمها وكلاء إقليميين، وقد حد تأثير العقوبات في إيران بشدة من قدرتها على زيادة الإنفاق.
الصين تعمل على تعزيز قوتها العسكرية
ارتفع الإنفاق الدفاعي الصيني بنسبة سبعة في المئة ليصل إلى نحو 314 مليار دولار. وشكلت بكين 50 في المئة من إجمال الإنفاق العسكري في آسيا وأوقيانوسيا. وتستثمر بثبات في تحديث جيشها وتوسيع قدراتها في مجال الحرب السيبرانية وترسانتها النووية.
وبصورة عامة ارتفعت واردات الأسلحة الأوروبية بنسبة 155 في المئة على مدى الأعوام الأربعة الماضية، مع رد فعل الدول الأوروبية على غزو روسيا أوكرانيا وعدم اليقين في شأن مستقبل السياسة الخارجية الأميركية.
سباق تسلح غير معلن!
يمر العالم حالياً بمرحلة خطرة، إذ ضاقت فجوة القوة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا إلى أدنى حد لها. وهذا يشكك في جميع أسس الأمن الدولي والنظام العالمي المعتاد، الذي وضع وفقاً لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها. لقد أتاحت مؤسسات هذا النظام العالمي ومعاييره - الأمم المتحدة، والتجارة العالمية، والنموذج النيوليبرالي، والقانون الدولي، وحلف شمال الأطلسي، وغيرها كثر - إشعال أو منع بعض الصراعات العنيفة، وإدارة تلك التي لم يكن من الممكن منعها بفاعلية، والحفاظ على الأمن الدولي بصورة عامة.
لكن كل هذا أصبح موضع تساؤل، إذ كان يعتمد على تفوق الولايات المتحدة والغرب ككل في القوة، وهذا التفوق آخذ في التلاشي تدريجاً. قبل عقد من الزمان تفوق الاقتصاد الصيني على الاقتصاد الأميركي من جهة تعادل القوة الشرائية، ومنذ ذلك الحين اتسعت الفجوة بصورة ملحوظة. قبل خمسة أعوام تجاوزت حصة دول "البريكس" في الاقتصاد العالمي حصة دول مجموعة السبع. ويجري إعادة توزيع الثروة، أساس قوة الدول الحديثة، على نطاق عالمي. ومعها يعاد توزيع النفوذ والتحالفات والالتزامات، ويشهد العالم استقطاباً تدريجاً وتزداد حدة التناقضات بين القوى العظمى.
بالنسبة إلى الدول المتوسطة والصغيرة، تغير هذه العمليات نظام الإحداثيات تماماً. فهي تجبر على التكيف وحساب توازن القوى الإقليمي، وأحياناً تبحث عن حلفاء جدد. بعضها، بدلاً من التركيز على الغرب، مستعد لموازنة مصالح دول الجنوب العالمي ومراعاة مصالحها، وبعضها الآخر يتقرب من الصين، وهناك من يسعى إلى الحصول على ضمانات أمنية من الغرب. بصورة عامة يضيق هامش المناورة، ويتزايد احتمال نشوب صراعات إقليمية مختلفة. في الواقع خلال الأعوام الأخيرة لم يقتصر الأمر على ازدياد احتمالية نشوب هذه الصراعات فحسب، بل ازداد أيضاً عددها وشدتها، ومن بينها الحرب الروسية - الأوكرانية.
لذا، بين قمم "الناتو" التي حضرها ترمب، تغير كثير. وتستجيب الإدارة الأميركية لهذه التغييرات بإجراء تغييرات جذرية في الاستراتيجية العامة للدولة، فبدلاً من التدخل الفعال وتعزيز التحالفات ونشر القيم الغربية على نطاق عالمي - وهي السمات المميزة للسياسة الخارجية الأميركية في العقود الأخيرة - تعود الواقعية والبراغماتية والحذر، التي تسمى غالباً بالانعزالية الجديدة، إلى جدول الأعمال. هذه التغييرات قسرية، فتراجع نفوذ الولايات المتحدة وقوتها يجعل السياسة السابقة محفوفة بالأخطار، وهذا الاعتبار حاسم في توجهات ترمب في السياسة الخارجية.
فمهمة ترمب ورؤيته هي إعفاء الولايات المتحدة من الالتزامات والكلف غير الضرورية، والتركيز على المشكلة الرئيسة: الصين. ستحتاج الولايات المتحدة إلى حلفاء يختلفون عن عملائها، إذ إنهم مستعدون لتحمل نصيب كبير من الأخطار والكلف. إن تحويل أوروبا من عميل إلى حليف، والتوصل إلى اتفاقات انتقائية مع روسيا، وإضعاف علاقاتها مع الصين هذه هي تقريباً الوصفة الترمبية لاستعادة عظمة أميركا في ظل الظروف الجيوسياسية الجديدة.