ملخص
تأتي هذه المبادرة في ظل تصاعد سريع للعنف بين الطرفين، الذي خلف مئات القتلى والجرحى، بخاصة بعد إعلان وزارة الصحة الإيرانية مقتل أكثر من 400 شخص، معظمهم من المدنيين، إضافة إلى إصابة أكثر من 3 آلاف جراء الهجمات الإسرائيلية بالصواريخ والطائرات المسيرة.
شهد الشرق الأوسط تصعيداً غير مسبوق بعد إعلان الولايات المتحدة تنفيذ ضربات دقيقة استهدفت ثلاث منشآت نووية استراتيجية في إيران، وهي "فوردو" و"نطنز" و"أصفهان". تأتي هذه الضربات في سياق تصاعد التوترات بين إيران وإسرائيل، اللتين تخوضان تبادلاً مكثفاً للهجمات والصواريخ منذ أسابيع عدة، وسط مخاوف من انزلاق النزاع إلى مواجهة شاملة.
في ظل هذه الأجواء المتوترة، تحركت القوى الأوروبية، بقيادة فرنسا وألمانيا وبريطانيا، لاحتواء الأزمة دبلوماسياً. وقد أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مبادرة تفاوضية تهدف إلى إعادة إيران إلى طاولة الحوار، مؤكداً أن الحل السياسي هو السبيل الوحيد لتفادي التصعيد العسكري الخطير.
وبين الدبلوماسية الأوروبية والصواريخ المتبادلة، يقف الشرق الأوسط على حافة هاوية، في مشهد يعكس صراعاً مفتوحاً تتسابق فيه الجهود الدولية لاحتوائه قبل الانفجار الكبير.
في جدوى المبادرة
في تصريح للصحافية الفرنسية شارلوت د. أورنيلاس، أعربت عن تشكيكها في جدوى المبادرة الدبلوماسية التي طرحها الرئيس إيمانويل ماكرون، معتبرة أنها تفتقر إلى الوضوح حيال وسائل التفاوض المعتمدة. موضحة أن ثمة تبايناً في نهج التعامل مع إيران، فـ"سابقاً، منح الرئيس الأميركي دونالد ترامب مهلة مدتها 60 يوماً لإيران للانخراط في مفاوضات، لكن إسرائيل لم تنتظر طويلاً، إذ شنت هجومها في اليوم الـ61 مباشرة بعد انتهاء المهلة".
وفي قراءتها للأهداف العسكرية، أكدت د. أورنيلاس أن الإستراتيجيات تختلف بصورة جذرية بين الأطراف المعنية، موضحة أن إسرائيل لم تخف نياتها، فقد عبر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بشكل صريح عن هدفين واضحين: الأول يتمثل في تدمير البرنامج النووي الإيراني وإبطاء وتيرته، أما الثاني، الذي بات معلناً على نحو متزايد، فهو السعي إلى تغيير النظام الإيراني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضافت أن الموقف الفرنسي يتباين مع هذا الطرح، إذ يقبل الرئيس إيمانويل ماكرون بالهدف الأول المتعلق بالحد من التهديد النووي، لكنه يرفض بشدة الانخراط في أي مسعى إلى تغيير النظام في طهران.
واختتمت بالقول "حتى استهداف المواقع النووية لا يكفي لحل المشكلة، لأن إيران تمتلك كوادر بشرية مؤهلة تأهيلاً عالياً في المجال النووي، مما يجعلها قادرة على إعادة بناء برنامجها بسرعة وفعالية".
في المقابل، يرى محللون أن هذه الخطوة الأوروبية تمثل محاولة جادة لمنع تدهور الوضع إلى مواجهة عسكرية أوسع تحمل تداعيات كارثية على الشرق الأوسط والعالم، إذ يرون أن نجاح المفاوضات قد يفتح الباب أمام تخفيف التوتر، ويمهد الطريق لحل سياسي مستدام يضمن أمن المنطقة واستقرارها ويحد من الأخطار الأمنية والإنسانية المتفاقمة.
وتأتي هذه المبادرة في ظل تصاعد سريع للعنف بين الطرفين، الذي خلف مئات القتلى والجرحى، بخاصة بعد إعلان وزارة الصحة الإيرانية مقتل أكثر من 400 شخص، معظمهم من المدنيين، إضافة إلى إصابة أكثر من 3 آلاف جراء الهجمات الإسرائيلية بالصواريخ والطائرات المسيرة. كذلك أفادت وكالة "إيسنا" بمقتل أربعة مقاتلين من الحرس الثوري في هجوم إسرائيلي استهدف معسكر تدريب في تبريز، التي تتعرض لقصف منتظم منذ بداية الصراع.
ووفقاً لمنظمة "نشطاء حقوق الإنسان" ومقرها واشنطن، فقد أسفرت الضربات الإسرائيلية على إيران عن مقتل 865 شخصاً في الأقل وإصابة 3396 آخرين، وحددت المنظمة هوية 363 مدنياً و215 من أفراد قوات الأمن بين القتلى.
إلى جانب هذه الخسائر، يدرك المجتمع الدولي، وعلى رأسه القوى الأوروبية، أن استمرار التصعيد سيؤدي إلى زعزعة أمن المنطقة بأكملها، مع أخطار متصاعدة على الأمن الإقليمي والدولي.
ويظل الملف النووي الإيراني محوراً رئيساً في تدخل أوروبا، إذ يزداد القلق من احتمال تطوير إيران أسلحة نووية، مما يدفع باريس ولندن وبرلين إلى البحث عن حلول سياسية تضمن بقاء البرنامج النووي الإيراني سلمياً، بعيداً من أي تهديد أمني مباشر لدول المنطقة والعالم.
الدور الفرنسي
من جهته، يرى الأستاذ في جامعة فرساي، طارق وهبي، أن التفاوض يبقى الوسيلة الأفضل والأنجح لوقف الحروب، مشيراً إلى أن خيار "الاحتواء" لا يُعد حلاً طويل الأمد، بل قد يزيد من تعقيد فرص الاجتماع الدولي والتوصل إلى تسويات فعلية. كذلك يشدد على أن مفهومي الأمن والسلام، وفقاً لمعايير الأمم المتحدة، لا يمكن تحقيقهما إلا عبر مجلس الأمن، لا من خلال مبادرات فردية تتولاها بعض الدول.
وفي ما يتعلق بالدور الفرنسي في قيادة المبادرات الأوروبية الخاصة بالملف الإيراني، ومدى نجاح باريس في لعب دور الوسيط المحايد، يرى وهبي أن محاولة الرئيس إيمانويل ماكرون فرض رؤية دبلوماسية بعد قمة مجموعة السبع جاءت كرد فعل على انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب من البيان الختامي، ورغبته في تجاوز الموقف الدولي الموحد. وقد سعى ماكرون، بحسب وهبي، إلى ترسيخ مبدأ احترام القانون الدولي، وبخاصة في سياق التعامل مع الضربات الإسرائيلية ضد إيران ومحاولة واشنطن الانجرار نحو دعم عسكري غير مباشر لها.
لكن على رغم هذه المحاولات، يشير وهبي إلى أن فرنسا غير مؤهلة فعلياً لأداء دور الوساطة الحقيقية، خصوصاً بعدما أعلنت استعدادها لمساندة إسرائيل في حال اندلاع الحرب، وهو ما يكشف، برأيه، عن تناقض كبير في الموقف الفرنسي: بين الرغبة في الحلول الدبلوماسية من جهة، والميل لمجاراة المواقف الأميركية والإسرائيلية من جهة أخرى. هذا التناقض يعكس ارتباكاً في المبادرة الفرنسية التي تهدف نظرياً إلى منع التصعيد العسكري الذي يهدد بإشعال المنطقة بالكامل.
وفي ما يخص الرسائل الدبلوماسية الموجهة من خلال هذه المبادرة إلى إيران وإسرائيل ودول المنطقة، يوضح وهبي أن باريس تحاول إعادة التذكير بأهمية العودة إلى الشرعية الدولية كمرجعية أساسية في حل النزاعات، وهو ما ركز عليه الرئيس ماكرون حين أشار إلى فشل محاولات تغيير الأنظمة بالقوة، كما جرى في ليبيا والعراق.
ويضيف وهبي أن فرنسا لا تزال تؤمن بأن الحلول العسكرية تزيد من التوتر، وتُبعد الأطراف عن فرص التفاهم، في حين أن خيار تغيير النظام الإيراني مطروح ضمنياً، لكن من دون وضوح حول الجهات التي يمكن التعامل معها لتحقيق هذا الهدف، وهو ما قد يرسم مستقبلاً جديداً للعلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة.
من جانب آخر، يشدد وهبي على أن فرنسا تسعى إلى ضمان عدم انسحاب إيران من اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، إذ أن مثل هذا الانسحاب قد يعقد مستقبل أي مفاوضات مقبلة.
أما بخصوص توقيت الإعلان عن العرض التفاوضي الفرنسي، فيرى وهبي أن التوقيت جاء قبيل توجيه الولايات المتحدة ضربتها، التي أجهضت فعلياً المبادرة. وعلى رغم ذلك، يعتقد أن المبادرة لا تزال تحاول وقف الأعمال العسكرية، خصوصاً بعد تصعيد إسرائيل لهجماتها على إيران، ما يجعل وجود تحرك سياسي ودبلوماسي يحمل شيئاً من التفاؤل ضرورة إقليمية ودولية.
ما بعد الضربة
في هذا الإطار يقول المحلل السياسي في الشأن الفرنسي نبيل شوفان، إنه على رغم الضربة الأميركية التي استهدفت المفاعلات النووية الإيرانية فإن إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون يمثل تأكيداً لعزم أوروبا، خصوصاً الترويكا الأوروبية التي صاغت ورعت الاتفاق النووي لعام 2015 (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا)، على تولي زمام المبادرات الدبلوماسية بنفسها، بدل انتظار الموافقة أو التوجيه الأميركي.
ويضيف شوفان "في الوقت نفسه فإن المبادرة تظهر عرضاً متكاملاً يشمل وقف تخصيب اليورانيوم، وتحديد أنشطة الصواريخ الباليستية، وتقليص دعم الجماعات في الإقليم، كبديل عن الخيار العسكري الذي قد يؤدي إلى تصعيد، وهو عرض يناسب الولايات المتحدة في حال وافقت عليه طهران".
ويتابع "يبدو أن أوروبا، وفرنسا من أمامها، تريد أن تبدأ باكراً في صوغ هذا العرض لأنها تؤمن أنه لا يوجد حل عسكري نهائي، وهي مصممة على عدم تكرار سيناريو الإقصاء الأمني، كما حدث خلال الجولات التفاوضية في سلطنة عمان وإيطاليا".
ويؤكد شوفان أن باريس تحافظ على دبلوماسية التوازن الدقيق، إذ تقترح عرضها وهي حليفة لإسرائيل مؤكدة أن أمنها أولوية بالنسبة إلى أوروبا، لكنها في الوقت ذاته تحاول أن تحافظ على صورتها كوسيط مقبول وقادر على التواصل مع طهران، وهو ما نجحت فيه حتى الآن.
ويشير إلى أنه على رغم أن رد طهران حتى الآن ووصفها العرض بـ"غير الواقعي" كونه يطالب بوقف التخصيب الكامل والدخول في مفاوضات في شأن الصواريخ، فإن فتح قنوات الحوار مجدداً يعد أمراً إيجابياً في ظل الحرب الدائرة في الإقليم.
ويفيد شوفان أن إعلان ماكرون يؤكد أن أوروبا ترى في قبول عرضها خطوة تتطلب تقديم ضمانات ملموسة بشروط صارمة، باعتبارها فرصة أخيرة للتوصل إلى حل دبلوماسي قد يثني الولايات المتحدة عن التورط بشكل أوسع في الحرب.
ويعتقد أن الإعلان يشكل ضغطاً استباقياً على إسرائيل، إذ يعبر من جهة عن التزام أوروبا حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، لكنه في الوقت ذاته يحذر من خطر التصعيد العسكري الشامل، ويؤكد أنه لا يوجد حل عسكري نهائي، مما يستدعي اللجوء إلى التهدئة والدبلوماسية لتفادي اندلاع حرب إقليمية شاملة.
وفي رأي شوفان، يأتي الإعلان كاستثمار في نافذة دبلوماسية في وقت حرج تدور فيه الحرب، ولكن أيضاً وسط توافق وتنسيق كبيرين بين باريس ولندن وبرلين، إذ وضعت الدول الثلاث برنامجاً تفاوضياً واحداً يرسخ صورة اتحاد أوروبي متماسك، لكن الخيار العسكري الأميركي قد يؤدي إلى انقسامات أوروبية في شأن الانضمام إلى الجهد العسكري الأميركي في حال حدثت تطورات وتوسعت الحرب، إضافة إلى أن جلب طهران إلى طاولة المفاوضات سيصبح أكثر صعوبة، خصوصاً أنها اعتبرت العرض "غير واقعي" حتى قبل الضربات، فكيف بعد الضرب، ولكن مع ذلك قد تشكل الضربات والضغط العسكري فرصة لفتح نافذة على الدبلوماسية إذا خاطبت أوروبا طهران سريعاً بخطة واضحة ومقبولة، ومعروف عن فرنسا وأوروبا أنها تقدم دائماً العروض الدبلوماسية على الفعل العسكري، لذا ما إن تتوقف الضربات ستتوسع شرعية إعلان الترويكا الأوروبية كحل نهائي لإيقاف العنف.
يبقى مستقبل العرض الأوروبي بانتظار رد فعل إيراني واضح سواء بالرفض المدفوع بالغضب الوطني بعد الضربات القاسية، أو قبوله كطريق للخروج من الأزمة، وفي نهاية المطاف فإن العالم بحاجة إلى أوروبا التي لن تفقد دورها كفاعل سياسي قوي، خصوصاً في السياق الجيوسياسي الراهن.