ملخص
يشكل كتاب "باريس بعيون أهلها" (Paris by Paris) الصادر حديثاً عن منشورات "أسولين" (2025) احتفاءً بصرياً بالعاصمة الفرنسية ويرصد تطور المدينة وتحولاتها منذ مطلع القرن الـ20 حتى يومنا هذا، عبر سرد بصري وأدبي.
يضم كتاب "باريس بعيون أهلها" مجموعة من النصوص والصور واللوحات الفنية النادرة يتجاوز عددها 300 موزعة على 370 صفحة، تسلط الضوء على وسط المدينة التاريخي وضواحيها، فتحولها إلى فيلم تؤدي هي نفسها فيه دور البطولة. أعد الكتاب أرييل وايزمان وهارولد كوبر. أما المقدمة فحملت توقيع الروائي والناقد الأدبي فريدريك بيغبيدير.
يبدأ الكتاب بالتأكيد على أن العاصمة الفرنسية شكلت مصدر إلهام لكثرٍ، فاجتذبت المدينة سكانها من كل مكان في العالم. بعضهم وفد من الأقاليم والأرياف الفرنسية، وبعضهم الآخر أتى من جهات الأرض الأربع. واستقر فيها كتاب ومفكرون وفنانون ونحاتون وموسيقيون أدهشتهم باريس بجمالها بعد أن عانى بعضهم الاضطهاد والعنصرية في أوطانهم. باريس التي عاش فيها الكاتب والروائي والشاعر والمخرج الأميركي الكبير بول أوستر، والروائي والرسام هنري ميلر، والشاعر الفلسطيني محمود درويش، والرسامة والشاعرة اللبنانية السورية إيتيل عدنان، وثلة من المفكرين والأكاديميين والأدباء والفنانين العرب والأجانب، قال عنها همنغواي إنها "عيد" عابر بين أحيائها وجاداتها. فمن مونبارناس وسان جيرمان دي بريه وسان سولبيس وحديقة اللوكسمبور والحي اللاتيني إلى الشانزليزيه ومونمارتر وساحة الباستيل، تبدو باريس كمجموعة مدن في مدينة واحدة.
باريس هي مدينة الحياة الليلية وصالات الرقص، وهي ضفاف نهر السين التي تنقسم إلى ضفتين تحملان طابعين متباينين، الضفة اليمنى موطن الأثرياء والمترفين، والضفة اليسرى معقل الشعراء والكتاب والفنانين والمثقفين، حيث تقع جامعة السوربون و"الكوليج دو فرانس" الذي احتضن محاضرات كبار المفكرين مثل ميشال فوكو ورولان بارت وبيار بورديو وكلود ليفي ستروس. وفي هذه الضفة أيضاً تنتشر المحترفات الفنية والمكتبات ودور النشر التي لا تعد ولا تحصى، كما كانت موطناً للفكر الوجودي ممثلاً بجان بول سارتر وسيمون دو بوفوار اللذين اعتادا الجلوس في مقهى "لو فلور" وغيره من المقاهي الشهيرة المنتشرة في أحياء باريس كـ"لو دوم" و"لا روتوند" الذي شهد جلسات موديغلياني ومان راي، و"لا كلوزري دي ليلا" المرتبط باسم إرنست همنغواي، و"لي دو ماغو" الذي كان ملتقى النخبة الفكرية. وباريس أيضاً هي الحدائق والمتاحف والفنادق والمطاعم العريقة التي تتشابك فيها خيوط التاريخ والأدب والغموض، وهي صالات السينما والمسارح ودار الأوبرا ذات الطراز المعماري البديع، وقاعات الحفلات الموسيقية المنتشرة في أرجائها، وأخيراً، معالمها الشهيرة مثل برج إيفل وكاتدرائية نوتردام وقوس النصر وحديقة التويلري وغيرها من الرموز التي تمنح المدينة سحرها المتفرد.
باريس السرية
وتستعرض المجموعة، جنباً إلى جنب، صوراً لأماكن باريسية سرية وأخرى شهيرة وصوراً لشخصيات استثنائية صنعت مجد العاصمة الفرنسية وتاريخها. نعود من خلالها لباريس في حقبتها الجميلة، لـ"كيكي" مونبارناس ونوش وبول إيلويار وأندريه بروتون وبيكاسو وأناييس نان، ولفترة الاحتلال النازي، والوجودية وليالي الجاز في حانات سان جيرمان وأفلام غودار، و"اللوك الجديد" مع صيحات الموضة وأزياء كريستيان ديور وإيف سان لوران وكوكو شانيل، وثورة الفساتين القصيرة مع كوريج وكاردان وباكو رابان، ونتوقف أمام اللوحات التذكارية المثبتة على مداخل أبنيتها، مخلدة أسماء الذين عاشوا فيها. وترصد هذه الصور تحولات المدينة وتغيرها على الصعيدين الاجتماعي والثقافي، مما جعلها المدينة الأكثر زيارة في العالم.
لكن ثمة صوراً لباريس أخرى غير معروفة، تلك التي وصفها ببراعة الكاتب روبير جيرو، باريس المشردين في حي "لا موب" وحانات "لا موف" الحقيرة، وجامعي أعقاب السجائر، والهالات وأسواقها، حيث يقتات الفقراء من بقايا الخضراوات والفاكهة التالفة، بعيداً من الأحياء الراقية.
أما في الشمال الشرقي للضفة اليمنى، حيث يخيم البؤس على شوارع مينيلمونتان، يشاهد القارئ الصور التي التقطها المصور الفوتوغرافي ويلي رونس لمجموعة من الأطفال المصابين بالهزال، والأحياء اليهودية الأشكينازية، ثم الإسبانية، ثم المغاربية والآسيوية. في الكتاب صور لحي "لو ماريه" الذي عاش فيه في ما مضى فيكتور هيغو والمتأنقات، ولحي "بيغال" الذي كان قديماً معقل المجرمين والخارجين عن القانون، وصور لأحياء وشوارع مهمشة ومحطات القطار كتلك التي طالما تجوّل في أرجائها الرسام والشاعر ليون بول فارغ.
في الكتاب أيضاً صور تعود لفترة الستينيات أيام الثورة الطلابية في مايو (أيار) عام 1968 والاضطرابات والتظاهرات وظهور الحواجز والدشم في شوارعها التي ألهمت كثيراً من الأغاني والرسومات الخيالية والشعارات والملصقات، من بينها صور لجدران جامعة السوربون التي كتب عليها "أحبوا بعضكم بعضاً" و"لنستمتع من دون قيود"، إلخ.
وأفردت معدتا الكتاب فصلاً خاصاً مليئاً بصور تعود لفترة رئاسة جورج بومبيدو ترصد ظهور الأبراج والعمارة الحديثة ومتحف بوبورغ للفن الحديث أو "مركز جورج بومبيدو" الذي أطلق عليه الباريسيون سخرية اسم "مصنع الأنابيب"، ثم ما لبثوا أن اعتادوا على وجوده، وصور نوافير سترابنسكي ومتاحف أخرى عدة كمتحف أورساي وهرم متحف اللوفر الزجاجي ومكتبة فرانسوا ميتران الوطنية الواقعة في الدائرة الـ13 ومبانيها الضخمة المطلة على ضفاف نهر السين التي صُممت أبراجها الأربعة لتبدو وكأنها كتاب مفتوح يضم بين دفتيه مئات آلاف الكتب والوثائق.
تجاور صور الأبنية الحديثة صور الجسور القديمة الجميلة التي تربط بين ضفتي نهر السين وأنوارها ومصابيحها، كما تجاور صور المحال التجارية ولوحات أرقام الأبنية والمنازل والمنحوتات المختلفة التي تزين الشوراع والجادات المختلفة.
الضواحي الضبايية
وفي النصف الثاني من القرن الـ20، خلد الأديب إيريك هازان ببراعة تحولات العاصمة الفرنسية في روايته "اختراع باريس" التي وصفت مشروع تدمير سوق "الهال"، وإقامة حي مشوّه مكانه عرف باسم "حي لورلوج" راسماً وجه الضواحي الضبابية وأحياء سان أنطوان وسان لازار وبلفيل وسواها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتوقف الكتاب أيضاً أمام التغيرات التي طرأت على المدينة في القرن الـ21، كظهور متاحف جديدة وقاعة حفلات موسيقية، فيعرض صورها، كما يعرض صور الاضطرابات العنيفة التي شهدتها ضواحي المدينة عام 2005 التي يسكنها إلى حد كبير الجيل الأول والثاني من المهاجرين من المستعمرات الفرنسية السابقة في المغرب العربي وأفريقيا.
ولا يتردد معدو الكتاب في الإشارة إلى تجميل المدينة التي أصبحت بعض أحيائها أكثر نظافة وأناقة، قبل أن تظهر أزمة المدمنين والعنف بين الشباب والمهاجرين، حتى مجيء آن هيدالغو عمدة باريس الحالية ومشاريعها كالتشجير الفاشل والاختناقات المرورية ومسارات الدراجات الغامضة، والأحياء المخصصة للمشاة، والازدحام في وسائل النقل وغلاء الإيجارات بحسب معدي الكتاب. فقد تمكنت برأيهم عمدة المدينة اليسارية من تحويل العاصمة الفرنسية إلى مدينة للأثرياء... وعلى رغم ذلك، ما زال السياح يتدفقون إلى المدينة الرومانسية التي لم تتوقف يوماً عن إبهار زائريها.
لم ينجح أي كتاب قبل "باريس بعيون أهلها" أن يلتقط روح "مدينة النور" وحركتها الثقافية بهذه الدقة والشاعرية. ولعله ليس مجرد مجموعة من الصور، بل رحلة حسية وتجربة أدبية وبصرية وطريقة جديدة للشعور بالمدينة وسكانها وعمارتها وأحلام أهلها وزوارها. هو أكثر من مجرد كتاب جميل. لعله دعوة إلى إعادة اكتشاف باريس اللوحة الفنية الممتدة على ضفاف السين، حيث يجتمع الماضي والحاضر في تناغم فريد.
من أقواس النصر إلى الأضواء المتلألئة التي تنعكس على سطح النهر، يفي كتاب "باريس بعيون أهلها" بوعود السحر والرومانسية.