ملخص
المسلسل الدنماركي "الأسرار التي نحتفظ بها" الذي تقدمه منصة "نتفليكس" يسائل الفكرة الأخلاقية التي يتقنع بها كثر، لكن الحقائق الصلبة في لحظات المواجهة والمكاشفة تفضح زيفهم.
يؤخذ على الفيلسوف الألماني نيتشه أن كتاباته وضعت الأسس التبريرية للأفكار الطبقية والتفوق العرقي، فما كان قبل نيتشه من أفكار عنصرية نشأ من ممارسات تلقائية أو نفسية محركها الضيق بالآخر، سعياً وراء الهيمنة عليه والاستحواذ على موارده وقواه العاملة، بيد أن هذا التصور لا يصمد طويلاً أمام النظر والتمحيص، إذ إن قراءة عميقة للفلسفة الغربية الحديثة بمختلف تياراتها واتجاهاتها، تكشف الوجه العنصري المعلن والمضمر في هذه الفلسفات.
وليس معنى ذلك التعميم المطلق ووصم الفلاسفة الغربيين كلهم بالانحياز، فثمة استثناءات لكنها شحيحة وقليلة الأثر، وثمة من يعد أن "العقد الاجتماعي" الذي توافق عليه فلاسفة نزهاء من عصر التنوير (توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو)، صمم على أنه عقد بين الجماعة البيضاء، أكثر من كونه اتفاقاً افتراضياً بين الدولة والأفراد من جميع الأصول والأعراق والمنابت.
الحرب على غزة المتواصلة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 كشفت الوجه الحقيقي لليبرالية الغربية، وأسقطت فلاسفة ومفكرين انحازوا إلى الهمجية والقتل والإبادة، تحت عنوان قبيح مفاده حق الاحتلال الأسرائيلي في الدفاع عن نفسه. وقلة قليلة انحازت إلى أفكارها "البراقة" المعلنة، فيما لاذ كثر بانفصاماتهم وانشدوا إلى لا وعيهم المكتظ بالتناقضات والآثام الأخلاقية.
وفي هذا الإطار يمكن النظر إلى المسلسل الدنماركي "الأسرار التي نحتفظ بها" (Secrets We Keep) الذي عرضته الشهر الماضي منصة "نتفليكس"، من تأليف إنغبورغ توبسو وإخراج بير فلاي في ست حلقات قصيرة نسبياً تراوح مدتها ما بين 34 و38 دقيقة.
يتحدث المسلسل عن اختفاء الخادمة الفيليبينية "روبي" التي تعمل لدى أسرة دنماركية في حي راق داخل كوبنهاغن، هذا الاختفاء يمثل التحدي الأكبر لـ"سيسلي" الجارة التي يشترك زوجها في عمل ومصلحة لدى رب الأسرة، التي تستخدم "روبي" كخادمة ومربية للابن المراهق الذي يعتدي عليها ويتسبب في حملها، بعدما صورها عارية، وتبادل اللقطات مع زملائه في المدرسة الذين أنشأوا "جروب" على الإنترنت لتبادل الصور والفيديوهات الساخنة.
"سيسلي" تقدم نفسها باعتبارها مثالية ذات أخلاق رفيعة، ويظهر في المسلسل حرصها الشديد على الاستقامة والنزاهة والتعاطف مع الآخرين، لذا تسارع إلى التحقيق في الجريمة التي أودت بحياة "روبي" غرقاً في مياه البحيرة التي تطل عليها المنازل الراقية، داخل ذلك الحي الذي يكشف الهوية الطبقية العالية لقاطنيه.
أوراق التين
ومع تصاعد الأحداث الدرامية تبدأ أوراق التين تتساقط عن الشجرة الأخلاقية، لتنهض الذرائعية في أقبح وجوهها، باعتبار المنفعة هي مقياس صحة الفكرة ودليل صدقها، كما ذهب إلى ذلك ويليام جيمس أحد أقطاب المذهب البراغماتي. لذا، فإن أحداث المسلسل وتداعيات موت "روبي" التي لا يُعرف إن كانت قتلت أو انتحرت، تسائل قلب الفكرة الأخلاقية التي يتقنع بها كثر، لكن الحقائق الصلبة في لحظات المواجهة والمكاشفة تفضح زيفهم.
واستطراداً، فإن شخصية "سيسلي" تفقد بريقها شيئاً فشيئاً، ويصمت صوت الضمير إلى درجة التلاشي حينما تتواطأ مع المبررات التي يسوقها عقلها النفعي، الذي يدفعها إلى الحفاظ على الامتيازات الطبقية وبقاء زوجها في الدائرة التي تحوز السطوة والمال، باعتباره محامياً لدى والد الصبي "أوسكار" الذي يكشف فحص الحمض النووي أنه المغتصب، بينما كانت تدور الشكوك حول أبيه شديد الثراء ومحاميه.
ويتفق الجميع على أن انحيازات الطبقة تعلو على قيم العدالة والإنصاف الإنساني. ولا تجد الخادمة الفيليبينية المتوفاة أحداً يؤازرها باستثناء عدد قليل من زميلاتها اللاتي يعملن خادمات في الدنمارك، أضف إلى هؤلاء محققة الشرطة عائشة بيترسن (سارة فانتا تراوري) وهي من أصول أفريقية يطلب إليها حين تزور أسرة الصبي المغتصب أن تخلع حذاءها قبل الولوج إلى الفيلا، بينما لا يُطلب ذلك من الآخرين.
محاولات إقناع
المحققة تتعرض إلى ضغوط في هيئة محاولات إقناع من مديرها للكف عن مواصلة التحقيق في ملف "روبي" وإغلاق القضية، في إشارة إلى أن غالبية القضايا المشابهة تؤول إلى النتائج ذاتها، فالعمالة الرخيصة تستقطب لخدمة هذه العائلات الثرية، وليس كما يزعم بعضهم أنها جزء من "التبادل الثقافي وبناء مشترك إنساني". وتبدو مدوية صرخة زميلة "روبي" بأن الجريمة لو كانت ضحيتها فتاة دنماركية لسارت الأحداث في مسار مختلف، ولجرى تناول الموضوع على نطاق واسع. أما الفيليبينيات فلا بواكي لهن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في حوار بين "سيسلي" وجارتها "كاترينا"، والدة الصبي المغتصب "أوسكار"، تقول الثانية إنهما نوعان مختلفان من الأمهات، بينما تعلم سيسلي أطفالها أهمية تنظيف الطاولة بعد العشاء، تعلم كاترينا ابنها النضال من أجل امتيازاته وكل ما يملكه. وهذا الأمر تجلى في اعتقاد "أوسكار" بأنه يسيطر على "روبي" ويتحكم بها، فهي لا تستطيع رفض طلباته لأنها تتقاضى أجراً لقاء عملها.
هذه العقلية المتعجرفة التي تربى عليها "أوسكار" تفاقمت إلى حد نقل "روبي" من كونها ضحية إلى مذنبة، كما تعتقد أسرة "أوسكار" الذين اتهموا الخادمة الفيليبينية بأنها مارست الجنس مع قاصر، أضف إلى ذلك إخفاء والدة "أوسكار" سائر الصور والفيديوهات وأركان الجريمة، مما قاد إلى الاعتقاد أن الملف ينبغي أن يغلق لعدم كفاية الأدلة.
كان أمام المحققة فرصة كبيرة لإدانة "أوسكار"، تتمثل في قبول ابن "سيسلي" بأن يشهد في المحكمة ضده، لأنه يمتلك الفيديو الذي يكشف وقائع الاغتصاب، لكن "سيسلي" التي تفرط بمثاليتها المزعومة وتنحاز إلى "ثقافة" طبقتها، تأبى تعريض ابنها إلى هذه التجربة الصعبة عليه نفسياً، بالتالي الصعبة على أبيه الذي يمكنه أن يخسر امتيازاته المالية وحظوته الاجتماعية.
وفي أحد المشاهد تدخل "سيسلي" في سجال مع خادمتها الفيليبينية أيضاً، عندما تعلم أن لديها طفلاً في الفيليبين، فتتخذ من ذلك ذريعة لإنهاء خدماتها، قائلة إنها لا يمكن أن تتقبل أخلاقياً أن تنفصل أم عن طفلها، وأنها خدعتها عندما زعمت في مقابلة العمل أنها "عزباء"، لكن الخادمة تواجهها بالاحتمالات المزرية التي يمكن أن يتعرض لها طفلها، إذا لم تذهب أمه للعمل من أجل إعالته وإعالة أسرتها. سؤال أخلاقي يكشف عمق التفاوت في الأحكام على مجريات الحياة، لكنه في أغواره يميط اللثام عن القشرة الهشة التي تخفي وراءها أنماط الصراع الطبقي والتمييز العنصري ونزعات التفوق العرقي، وأن "الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا"، كما قال الشاعر الإنجليزي "روديارد كبلنغ" خلال نهاية القرن الـ19.