Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تسعينيات الجزائر... كيف دافعت "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" عن العنف؟ (1 – 3)

قدم أنور هدام خطاباً تبريرياً للعنف في مؤتمر المجلس الإسلامي الأميركي عام 1994 وأظهر استعداداً لإدراج كل من يعتبر داعماً للنظام ضمن خانة "الأهداف المشروعة" للجبهة

شهدت الأزمة الجزائرية في التسعينيات تصعيداً دولياً بعد ظهور أنور هدام في واشنطن (اندبندنت عربية)

ملخص

في سياق التصعيد السياسي الذي رافق أعوام الأزمة الجزائرية خلال التسعينيات، شكّل ظهور أحد قياديي الجبهة الإسلامية للإنقاذ أنور هدام في نادي الصحافة الوطني بواشنطن حدثاً لافتاً، أثار ردود فعل واسعة في الأوساط الدبلوماسية والإعلامية. فماذا قال هدام؟ وكيف كانت ردود الفعل تجاه ما ذكره؟

مع بداية التسعينيات، شهدت الجزائر تصعيداً في الأزمة السياسية التي كانت انطلقت أواخر الثمانينيات، تحديداً بعد إلغاء الانتخابات التشريعية التي كانت "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" على وشك الفوز بها. وهذا القرار كان بمثابة الشرارة التي أدت إلى اندلاع صراع دموي عميق بين الجماعات الإسلامية المسلحة، أبرزها "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، والحكومة الجزائرية المدعومة من الجيش. في هذه المرحلة، كان الغرب يتابع الوضع عن كثب، محاولاً فهم التوجهات السياسية والأيديولوجية للجبهة من خلال قنوات غير رسمية، بعيداً من الأضواء الرسمية للدبلوماسية الغربية.

وتزايدت أهمية هذه التفاعلات الغربية مع "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" مع استمرار الأزمة وتفاقم العنف، وكان هناك سعي حثيث إلى فهم تأثير هذه الجماعات في استقرار المنطقة، بخاصة مع الوضع المعقد في الجزائر الذي أصبح يهدد مصالح الغرب الاقتصادية والأمنية في شمال أفريقيا.

"الجبهة الإسلامية للإنقاذ" تتحرك دولياً

في سياق التصعيد السياسي الذي رافق أعوام الأزمة الجزائرية خلال التسعينيات، شكّل ظهور أحد قياديي الجبهة أنور هدام في نادي الصحافة الوطني بواشنطن حدثاً لافتاً، أثار ردود فعل واسعة في الأوساط الدبلوماسية والإعلامية.

وفي الـ12 من يناير (كانون الثاني) عام 1994، نظم المجلس الإسلامي- الأميركي لقاء في العاصمة الأميركية، استضيف فيه أنور هدام، إذ ألقى بياناً حظي باهتمام خاص من قبل الأجهزة الدبلوماسية الغربية. البيان الذي جرى تداوله لاحقاً في برقية دبلوماسية صادرة من لندن، تضمن مواقف وصفت بالتحريضية، وأثارت مخاوف لدى بعض الحكومات.

ووفقاً لتقارير سرية وصلت لاحقاً إلى الجهات المعنية، أشار هدام إلى الجماعة الإسلامية المسلحة بوصفها "الفرع المسلح الرئيس للجبهة الإسلامية للإنقاذ"، مما اعتبر تأكيداً ضمنياً على صلات محتملة بين الجبهة والفصائل المسلحة.

 

كما نقلت التقارير أن هدام أعرب عن تأييده استخدام العنف، بما في ذلك العنف ضد الأجانب، مستثنياً من وصفهم بـ"الأبرياء"، في إشارة إلى من لم يدعموا النظام الجزائري، وبلغ التصعيد حدّ اعتبار الصحافيين أهدافاً مشروعة، نظراً إلى ما وصفه هدام بدعمهم الضمني للسلطة الحاكمة.

والأخطر من ذلك، ما ورد من تهديد مبطن للسفير الجزائري لدى واشنطن الذي وصفه هدام بأنه "عقيد في أجهزة الأمن"، في تلميح صريح إلى إمكان استهدافه أو تحميله مسؤوليات أمنية في سياق الصراع القائم.

وفي ضوء هذه التصريحات، قامت السفارة الفرنسية بمساعٍ لدى السلطات البريطانية من أجل منع هدام من دخول المملكة المتحدة، للمشاركة في ندوة "تشاتام هاوس" المقررة في الـ15 من يونيو (حزيران) عام 1994.

البرقية الختامية التي دوّنها "ماكوين" بتاريخ 30 يونيو 1994، شكلت جزءاً من شبكة متابعة دولية دقيقة، تعكس التوتر الذي ساد بين أطراف الأزمة الجزائرية وامتد إلى الساحات الدولية، إذ باتت تحركات وتصريحات قادة الجبهة محل رصد وملاحقة سياسية وإعلامية.

أنور هدام وتبرير العنف

بيان أنور هدام خلال المؤتمر الصحافي الذي عقد في الـ12 من يناير 1994 بنادي الصحافة الوطني في واشنطن، يكشف عن جوانب مهمة من خطاب جبهة الإنقاذ الإسلامية في لحظة كانت الجزائر تمر خلالها بمرحلة دموية من الحرب الأهلية، عقب إلغاء المسار الانتخابي عام 1992.

وتأتي أهمية هذا البيان لأنه صدى رسمي لموقف الجبهة في الخارج، ومحاولة لعرض خطابها السياسي والإعلامي أمام جمهور أميركي ودولي، على رغم أن فحوى البيان والخطاب المرافق له عبّرا بوضوح عن تبرير العنف السياسي، بل الدفاع عنه.

وخلال المؤتمر قدم أنور هدام نفسه باعتباره رئيس الوفد البرلماني لـ"الجبهة الإسلامية للإنقاذ" في الخارج، مشيراً إلى أنه يمثل القيادة الباقية داخل الجزائر، وركز في كلمته على توصيف الوضع في الجزائر بعد عامين من بداية الصراع، من دون أن يتضمن البيان أية مبادرات سياسية أو مقترحات لحل الأزمة، مما عكس الطابع التعبوي والإعلامي للحدث، لا السياسي أو التفاوضي.

والمواقف التي عبّر عنها هدام خلال النقاش العلني، وكذلك في الحوارات الجانبية، عكست خطاباً تبريرياً للعنف، بخاصة ضد الصحافيين، بل أظهر استعداداً لإدراج كل من يعتبر داعماً للنظام ضمن خانة "الأهداف المشروعة". وحين سئل عن مفهوم "الأبرياء"، فرّق بين المدنيين العاديين وبين من يقدّر بأنهم، من وجهة نظر الجبهة، يدعمون النظام، بمن فيهم الصحافيون والمثقفون.

وبصورة صريحة، لفت هدام إلى أن طاهر جعوط، الصحافي المستقل الذي اغتيل عام 1993، لم يكُن ضحية بريئة بل هدفاً مبرراً لأنه كما قال "كان داعماً للنظام"، مما قوبل بانتقاد حاد من أحد الصحافيين الجزائريين الحاضرين وعكس التوتر الأخلاقي والسياسي حول مسألة استهداف الصحافة في النزاع الجزائري.

 

كذلك، اتهم هدام النظام بارتكاب عمليات قتل مدبرة بهدف تشويه صورة "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، وهي تهمة شائعة آنذاك بين أنصار التيار الإسلامي، في إطار نظرية المؤامرة التي تقول إن السلطة تحاول إلصاق التهم بالحركات الإسلامية لتبرير القمع. وفي الوقت ذاته لم يُنكر صراحة مسؤولية الجبهة عن أعمال عنف ضد أهداف مدنية، بل بررها وفق منطق الحرب، إذ لا مجال للحياد وكل من يدعم النظام يصبح هدفاً.

ومن جهة السياسة الدولية، أبدى هدام امتعاضه من موقف إدارة كلينتون، معتبراً أن الولايات المتحدة ما زالت خاضعة للتأثير الفرنسي في ما يتعلق بالملف الجزائري. وقدم نفسه في حديث خاص على أنه "سفير الجبهة الإسلامية للإنقاذ" لدى الخارجية الأميركية، مشيراً إلى أنه يناقش مع المسؤولين الأميركيين ملامح "النظام الإسلامي المقبل في الجزائر"، مما يعكس قناعة قوية بأن الجبهة لا تزال ترى نفسها على أنها الطرف المؤهل لقيادة البلاد.

وفي لحظة لافتة، وجّه هدام تهديداً مبطناً للسفير الجزائري لدى واشنطن، عبر التلميح إلى أنه "عقيد في أجهزة الأمن"، في إطار ما يمكن تفسيره كمحاولة لتأطير كل ممثلي الدولة الجزائرية في الخارج ضمن صورة النظام الأمني القمعي، بالتالي نزع الشرعية عنهم وتحريض الرأي العام ضدهم.

ولم يتطرق هدام إلى مسألة الحوار بين "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" والنظام الجزائري، مما يعكس عدم استعداد، أو ربما عدم رغبة، الجناح الخارجي للجبهة آنذاك في الدخول في أية مبادرة سياسية في تلك المرحلة التي كانت تتسم بتصاعد العنف والتوتر.

في المجمل، عكس هذا البيان وتبعاته الخطابية موقفاً متصلباً من طرف "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" في الخارج، يقوم على شرعنة العنف تحت ذريعة "التحرر من النظام العسكري"، وتوسيع دائرة الاستهداف لتشمل المدنيين المؤيدين للسلطة، ورفض أية محاولة للمصالحة أو التفاوض. كما أظهر سعياً واضحاً إلى تحسين صورة الجبهة لدى الجمهور الدولي، من دون تقديم تنازلات سياسية أو مراجعات أخلاقية حقيقية لمسؤولياتها في تعميق الأزمة الجزائرية.

مراجعة بريطانية للاتصال بالمعارضة الإسلامية

وُجهت وثيقة رسمية بتاريخ 27 مايو (أيار) 1994 عن الاتصال الرسمي مع جماعات المعارضة الإسلامية من قبل دبليو جيرمان، في وزارة الخارجية البريطانية وشؤون الكومنولث، إلى عواصم عربية عدة، من بينها الجزائر العاصمة والقاهرة وعمان والشارقة والرباط وتونس، وبيروت ومسقط وأبو ظبي والبحرين وقطر والكويت ودمشق والرياض عبر البريد الإلكتروني.

وفي مقدمة الوثيقة، أُعلن عن تنظيم مائدة مستديرة محدودة في معهد "تشاتام هاوس" بتاريخ الـ15 من يونيو 1994، حيث سيقدم أنور هدام، رئيس الوفد البرلماني لـ"الجبهة الإسلامية للإنقاذ" والمقيم في الولايات المتحدة، عرضاً حول الوضع في الجزائر، مع تلخيص لأهداف الجبهة، وقد جرى توجيه الدعوة إلى حضور هذه الجلسة.

وأشار معهد "تشاتام هاوس" إلى أن هدام نبذ العنف، كما أنه على اتصال مع مسؤول مكتب الجزائر في وزارة الخارجية البريطانية. وعلى رغم ذلك، قررت وزارة الخارجية البريطانية عدم إرسال أي ممثل رسمي للحضور، مبررة ذلك بأن الاتصال الرسمي مع "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" في لندن من الممكن أن يفسر كموافقة حكومية بريطانية، مما قد يستغل على هذا الأساس.

 

وهذا التطور دفع الوزارة إلى مراجعة سياستها حول الاتصال الرسمي مع جماعات المعارضة الإسلامية على نحو أوسع، وفي هذا السياق طلب دبليو جيرمان من المعنيين، خصوصاً في وزارة الخارجية، تقديم معلومات حول جماعات المعارضة الإسلامية، إن وجدت، وعلى أي مستوى يجري التواصل معها، وما إذا كانت هذه الجماعات نبذت العنف. وأوضح أن هناك نية لتقديم ورقة سياسات إلى الوزراء لتعزيز فهم السياسة الرسمية، بخاصة أن الموقف يبدو أنه يختلف عن موقف الولايات المتحدة.

وأكدت الوثيقة أن سفارات المملكة المتحدة ينبغي أن تتواصل عادة مع مجموعة واسعة من جماعات المعارضة، شرط ألا تكون هذه الجماعات متورطة في العنف أو تؤيده لتحقيق أهدافها. وجرى التمييز بين الاتصالات التي تجريها السفارات في الميدان التي يمكن تفسيرها على أنها لا تعبر عن موافقة رسمية، وبين الاتصالات التي تجري في لندن التي يصعب التخفيف من تفسيرها كموافقة، وكمثال على ذلك لا يشكل التواصل مع جبهة العمل الإسلامي في الأردن مشكلة، بينما يتطلب التواصل مع الجماعات في لندن دراسة دقيقة. وأشار فريق تخطيط السياسات إلى معارضته للموقف التقييدي الذي تتبناه القيادة بخصوص الاتصالات في لندن.

سياسة لندن تجاه الجماعات الإسلامية

بالانتقال إلى الحالات الخاصة، تناولت الوثيقة موقف الاتصالات مع حركة "حماس"، إذ جرى التأكيد أن الاتصالات علقت منذ رد "حماس" العنيف على مجزرة الخليل. ودعي المعنيون، ولا سيما في القدس، إلى إبداء الرأي حول إيجابيات وسلبيات استمرار سياسة عدم التواصل طويلة الأمد مع الحركة إذا لم تُبدِ نبذها للعنف، مما يُعتبر غير مرجح. وأعربت الوثيقة عن ميل الوزارة إلى عدم استئناف التواصل مع "حماس" إلا في حال نبذها العنف بصورة واضحة.

وفي ما يخص الجزائر، طلبت الوثيقة آراء السلطات الجزائرية حول إمكان التمييز بين فصيلين من جبهة الإنقاذ الإسلامية، السلمي وغير السلمي، وما إذا كان ينبغي إجراء اتصالات مع الفصيل السلمي في الجزائر بدلاً من لندن، كما أشارت إلى غياب أية اتصالات حالياً.

 

وناقشت الوثيقة مسألة التواصل مع الجماعات المحظورة، مثل جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر و"حركة النهضة" في تونس، بناءً على مدى اعتبار بعض أعضائها غير عنيفين، وطُلب توضيح الممارسات المتبعة في البلدين حول التواصل مع هذه الجماعات.

وأخيراً، طلبت الوثيقة تقارير موجزة عن ممارسات فرنسا والولايات المتحدة في العواصم المعنية، مشيرة إلى أن الفرنسيين يناقشون حالياً مزايا التواصل مع "جبهة الإنقاذ الإسلامية" على رغم استمرار انتقادهم للولايات المتحدة التي تبدو أكثر ارتياحاً للتواصل مع الجماعات المرتبطة بالعنف، شرط ألا تُستخدم هذه الاتصالات لتحقيق أهداف أجنبية.

المزيد من تقارير