Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف يمكن لترمب أن يطيح الدولار عن عرشه؟

قد لا تنجو العملة الرئيسة في النظام المالي العالمي بسبب استخدام أميركا قوتها الاقتصادية كسلاح

خارج مكتب لصرف العملات في موسكو، روسيا، في مارس (آذار) 2025 (رويترز)

ملخص

استمر الدولار الأميركي كعملة الاحتياط العالمية بفضل السيولة، وقوة الأسواق الأميركية، وغياب بدائل موثوقة. لكن سياسات دونالد ترمب، وخاصة استخدامه للاقتصاد كسلاح، تهدد هذه الهيمنة من خلال تقويض الثقة الدولية بالولايات المتحدة ومؤسساتها.

هيمن الدولار الأميركي على التجارة والتمويل العالميين أكثر من سبعة عقود. وخلال هذه المدة، ما من شيء شكل تهديداً حقيقياً لمكانته. فالأنظمة الاقتصادية العالمية تعمل بثبات كبير، واللاعبون الرئيسون، من الحكومات إلى المصارف إلى الشركات المتعددة الجنسيات، يفضلون الآليات المجربة والمأمونة لإجراء العمليات التجارية والتمويلية. كثيراً ما تعلن عناوين إخبارية رئيسة متحمسة أن دولاً تبحث عن بدائل للدولار، وأن ائتلافاً جديداً يحاول إنشاء عملة منافسة، أو أن الأزمة السياسية الأخيرة في واشنطن ستنهي أخيراً وضع الدولار كعملة رئيسة في احتياطات البنوك المركزية. لكن على مدى عقود من تغيرات النمو الاقتصادي حول العالم، وفترات الاضطراب في الأسواق العالمية، والتساؤلات حول مستقبل السياسات الاقتصادية الأميركية، ظلت هيمنة الدولار راسخة.

هو في أمان حتى الآن. في الثاني من أبريل (نيسان) الجاري، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب فرض رسوم جمركية جديدة مرتفعة على معظم شركاء الولايات المتحدة التجاريين. وقد تسببت خططه – التي أدت إلى تراجع حاد في أسواق الأسهم الأميركية والعالمية - في تقديم مثال جديد على نمط متكرر في أسلوبه في الحكم: استخدام القوة الاقتصادية الأميركية كسلاح. فقد فرض ترمب رسوماً على البضائع الواردة من كندا والمكسيك رداً على مجموعة متنوعة من المشكلات المزعومة وأعاد تنشيط حملة الضغوط القصوى على إيران التي بدأت في ولايته الأولى. وبالاقتران مع هجماته على سيادة القانون، فإن محاولاته العشوائية والمتخبطة لتسليح مزايا واشنطن الاقتصادية تشكّل التهديد الأكبر حتى الآن لوضع الدولار كعملة رئيسة.

إذا تحقق هذا التهديد الذي يحيق بالدولار، ستكون الولايات المتحدة والعالم أسوأ حالاً. ذلك أن غياب دور الدولار في تسهيل التجارة والتدفقات المالية، سيجعل معدلات النمو أبطأ وسيصبح الناس في كل مكان أكثر فقراً. ولن تؤدي عزلة الولايات المتحدة إلى إحياء التصنيع الذي تزعم إدارة ترمب أنها تستهدفه، إذ ستزداد كلفة المواد الخام المستوردة وستجف أسواق رأس المال. ستكون النتيجة الحقيقية لتراجع الدولار زوال القوة الاقتصادية ذاتها التي يحاول ترمب استخدامها كسلاح.

عملة مشتركة

على رغم تجاوز الدولار الجنيه الإسترليني في منتصف عشرينيات القرن الماضي كعملة مفضلة في احتياطات النقد الأجنبي العالمية، فلم تحظ مكانته كعملة احتياطية رئيسة في العالم بأمان إلا في مؤتمر بريتون وودز الذي عُقِد نهاية الحرب العالمية الثانية. نتجت من ذلك المؤتمر مؤسستان جديدتان، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ونظام جديد رُبِطت فيه العملات بالدولار الأميركي، الذي كان قابلاً للتحويل إلى ذهب بسعر ثابت. وقد جعل كلٌّ من هذه المؤسسات ونظام الربط بالدولار من استقرار العملة محوراً للاقتصاد العالمي. منذ ذلك الحين، احتفظ الدولار بموقعه القيادي خلال اضطرابات عدة، ونجا حتى من الاضطرابات التي أعقبت قرار الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1971 فك الربط الثابت بين الدولار والذهب.

تعتمد مكانة الدولار على خصائص عدة يجب أن تتوافر في أية عملة تأمل أن تشكل الحصة الكبرى من احتياطات النقد الأجنبي لدى معظم الدول. في أبسط المستويات، يجب أن تكون تلك العملة سائلة – أي يسهل شراؤها وبيعها – ويجب أن يوافق معظم الناس والمصارف والشركات على استخدامها في تعاملاتهم. وكثيراً ما هيمن الدولار في هذين الجانبين  فترة طويلة. فمنذ أكثر من ثلاثة عقود، انطوى ما بين 85 و90 في المئة من التداولات بين العملات في أسواق الصرف الأجنبي على الدولار. وفي ما يتعلق بنظام المراسلة المالية المعروف باسم نظام "جمعية الاتصالات المالية العالمية بين المصارف" (سويفت)، الذي تستخدمه المصارف الدولية لتبادل عشرات تريليونات الدولارات يومياً، يجري ما يقارب 50 في المئة من التعاملات بالدولار، مقارنة بنحو 35 في المئة قبل عقد.

لا تقتصر العملة الاحتياطية العالمية على السيولة والاستخدام الواسع فقط، بل يجب أن تعمل أيضاً كوحدة حسابية مشتركة للمنتجات المتداولة عالمياً. ففي جميع أنحاء العالم، تُصنف مبيعات السلع، من النفط إلى المعادن إلى المحاصيل، في شكل شبه شامل بالدولار. ويستخدم نحو 54 في المئة من فواتير التجارة العالمية مبالغ بالدولار، على رغم أن الولايات المتحدة لا تمثل سوى نحو 10 في المئة من التجارة العالمية.

ويتلخص الشرط الأخير لأية عملة احتياطية ناجحة في أن يعتبرها الناس والشركات والمصارف المركزية موئلاً للقيمة موثوقاً به. لذلك، تحتاج الدولة الأم للعملة إلى أسواق مالية كبيرة ومنفتحة مع فرص استثمارية جذابة تحكمها سيادة القانون. لمعدلات التضخم المنخفضة والمستقرة دور مساعد أيضاً، فهي تمكن حاملي العملة من الاطمئنان إلى أن قيمة أصولهم لن تتبخر بين عشية وضحاها. سوق الأسهم الأميركية هي السوق الكبرى في العالم، بقيمة إجمالية بلغت 63 تريليون دولار نهاية عام 2024 – أي ما يقارب نصف القيمة الإجمالية للأسهم العالمية، حتى بعد تراجع مؤشرات السوق هذا العام. والاقتصاد الأميركي منفتح للاستثمار الأجنبي: ثمة قيود قليلة على جلب رأس المال إلى البلاد وإخراجها منها. ويُعتبَر مجلس الاحتياط الفيدرالي على نطاق واسع مؤسسة مستقلة وذات صدقية. كذلك تُعَد المحاكم والهيئات التنظيمية الأميركية مؤسسات موثوقاً بها في أنحاء العالم كله على صعيد حل النزاعات التجارية، وإدارة الاقتصاد كما هو متوقع، ومنع الفساد الكبير.

ويُضاف إلى هذه العوامل أن سوق السندات الحكومية الأميركية هي الكبرى عالمياً، بقيمة تقارب 28 تريليون دولار، ما يشكل أكثر من ربع سوق الدين الحكومي العالمي. وتُعد سندات الخزانة الأميركية، وهي الصيغة الشائعة للدين الحكومي، الأكثر سيولة في العالم، إذ يبلغ متوسط حجم التداول اليومي فيها نحو 900 مليار دولار. وتمنح سهولة البيع والشراء هذه البنوك المركزية شعوراً بالثقة في أن سندات الخزانة تمثل ملاذاً آمناً للاحتفاظ بالسيولة النقدية. وعند جمع كل هذه العوامل – السيولة، والاستخدام الواسع، والأمان – لا يكون مستغرباً أن يحتفظ الدولار بالحصة الكبرى من الاحتياطات الدولية عقوداً طويلة.

عملة فريدة من نوعها

الميزة الكبرى الأخرى للدولار كعملة مرجعية في العالم هي غياب أية عملات منافسة موثوق بها. فـالرينمينبي الصيني (اليوان) يلوح في الأفق، لكن الصين تفتقر إلى أسواق مالية منفتحة وذات سيولة، وهي من الشروط الأساس لأية عملة طامحة للعب هذا الدور. فالرينمينبي لا يُتداول بحرية في أسواق الصرف الأجنبية، والحكومة الصينية تفرض قيوداً على تدفق رؤوس الأموال، مثل التحكم في الاستثمارات الواردة والصادرة، وتقييد التحويلات المصرفية الدولية. كذلك يواجه المستثمرون الأجانب عوائق تنظيمية عند الاستثمار في الأسواق المالية الصينية، بما فيها سوق السندات المحلية، التي تفتقر بدورها إلى السيولة والعمق الموجودَين في الأسواق المالية المتقدمة. وعلى رغم أن الصين حاولت الترويج لنظام بديل لنظام "سويفت"، والمتمثل في "نظام الدفع بين المصارف عبر الحدود" CIPS (سيبس)، ولا سيما بعدما استبعدت عقوبات غربية بعضاً من كبرى المصارف الروسية من "سويفت" عام 2022. لكن حتى الآن، اجتذب "سيبس" 0.2 في المئة فقط من حجم تعاملات "سويفت".

أقرب منافس للدولار هو اليورو، الذي يفي بكثير من شروط استخدامه كعملة احتياط عالمية. تتمتع منطقة اليورو بأسواق مالية منفتحة وذات سيولة، واليورو هو ثاني أكثر العملات تداولاً على نطاق واسع في العالم وثاني أكثر العملات الاحتياطية شيوعاً. لكن منطقة اليورو لا تمتلك اتحاداً مالياً موحداً، كذلك فإن ألمانيا - أكبر اقتصاد في المنطقة - كانت حتى وقت قريب مترددة في إصدار كميات كبيرة من سندات الدين الحكومي، وقد أدى غياب سياسة مالية موحدة إلى أزمة ديون منطقة اليورو بين 2010 و2012، التي أدت بدورها إلى تراجع حاد في حجم تداول اليورو في أسواق الصرف، وانخفاض في التعاملات المعتمدة على اليورو عبر نظام "سويفت"، وتراجع حصته من احتياطات البنوك المركزية. وتعمقت هذه المشكلات مع حقيقة أن أسواق الأسهم الأميركية قد حققت عوائد تعادل خمسة أضعاف نظيراتها الأوروبية خلال الـ15 عاماً الماضية، مما دفع المستثمرين إلى تركيز استثماراتهم في الولايات المتحدة. وزادت الأمور سوءاً بالنسبة إلى اليورو بعدما شكلت التهديدات الجيوسياسية الروسية لأوروبا عاملاً إضافياً ينفّر البنوك المركزية من الاحتفاظ به.

أما المحاولات الأخرى للترويج لعملات مرجعية جديدة، فلم تحقق تقدماً يُذكر حتى الآن. فقد طرح تحالف "بريكس"  BRICS  وهو مجموعة من الاقتصادات الكبرى غير الغربية – فكرة إنشاء عملة جديدة لمنافسة الدولار. لكن في المدى القريب، لا تُشكل هذه العملة المفترضة تهديداً حقيقياً. فليس هناك خطة واضحة لإنشاء اتحاد نقدي أو مالي بين دول البريكس، كذلك فإن الدول الأعضاء تختلف اختلافاً واسعاً في أولوياتها الداخلية والدولية. ومن ثم فإن عملة ينشئها تكتل أكثر تشرذماً حتى من منطقة اليورو، لا تملك أية فرصة جدية لتصبح خياراً افتراضياً للأعمال التجارية العالمية - لا سيما في ظل غياب أي تصور عملي لكيفية عملها.

أما البدائل البراقة الأخرى، مثل البيتكوين والذهب، فلم تحقق نجاحاً كبيراً. فالعملات المشفرة تفتقر إلى كثير من الخصائص الضرورية لتعمل كعملات احتياط، مثل السيولة، واستقرار الأسعار، والدعم من قبل حكومة أو مصدر واضح آخر للقيمة. أما الذهب، فقد استُخدم كعملة لآلاف الأعوام وشكل أساساً لكثير من الأنظمة النقدية حتى وقت قريب نسبياً، لكن نقاط ضعفه باتت واضحة اليوم. على سبيل المثال، لا تستطيع الحكومات التحكم في عرضه، مما يقيد قدرتها على الاستجابة للأزمات الاقتصادية عند الاعتماد عليه.

هذه المرة الوضع مختلف

على رغم الهيمنة التي يتمتع بها الدولار، فإن عودة ترمب إلى السلطة تمثل تهديداً حقيقياً لوضعه للمرة الأولى منذ أجيال. وبالنظر إلى غياب بدائل جاهزة، فإن الضرر قد لا يكون فورياً أو قاتلاً، لكن وتيرة الانحدار المحتمل، والخطر المصاحب له، قد ازدادت. في أقل تقدير، ستقوض تصرفات ترمب العوامل التي تدعم هيمنة الدولار.

في الأسابيع الأولى من ولايته، اتبع ترمب سياسات أدت إلى تعزيز قوة الدولار، لكن منذ ذلك الحين، بدأ الدولار في الانخفاض مقابل العملات الأخرى. في البداية، انتعش الدولار مع ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة نتيجة سياسات ترمب التي رفعت من التضخم، بما في ذلك فرض التعريفات الجمركية، وعمليات الترحيل، وخطط خفض الضرائب. لكن هذه السياسات نفسها، وما تسببت فيه من حال عدم يقين اقتصادي، أصبحت الآن تشكل عبئاً على الدولار، إذ تتوقع الأسواق أن تلحق ضرراً كبيراً بالنمو في الولايات المتحدة، خصوصاً بعد إعلان ترمب عن تعريفات جمركية عالمية صارمة وواسعة النطاق. فالاضطرابات في سلاسل التوريد الناتجة من الحرب التجارية، ونقص العمالة بسبب الترحيل، وحال عدم اليقين العامة في السياسات، كلها تؤثر سلباً في ثقة الشركات والمستهلكين، مما يؤدي إلى انخفاض في الإنفاق، والنمو، وأسعار الفائدة.

ونتيجة سياسات ترمب إلى حد كبير، تفوقت الأسهم الأوروبية على المؤشر الرئيس للأسهم الأميركية بنسبة 20 في المئة تقريباً خلال الربع الأول من عام 2025، في أكبر هامش من نوعه منذ أكثر من ثلاثة عقود.

وعند النظر إلى المدى الأبعد، تصبح أخطار سياسات ترمب أكثر وضوحاً. فإلى جانب زعزعة استقرار الاقتصاد الأميركي، ستؤدي تعريفاته الجمركية العالمية المثيرة إلى إلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه بصدقية الولايات المتحدة كشريك تجاري. وهذا بدوره سيقوض الحاجة إلى الدولار واستخدامه. وسيتحمل حلفاء الولايات المتحدة الأذى الأكبر، إذ سيواجه كثير منهم تعريفات أعلى من تلك المفروضة على خصوم أميركا. فعلى سبيل المثال، تخضع كل من إسرائيل واليابان والاتحاد الأوروبي لمعدلات أعلى من تلك المفروضة على إيران أو روسيا.

وقد أظهر الاقتصاديون أن الدول تميل إلى الاحتفاظ باحتياطات من عملات شركائها الجيوسياسيين. ومن خلال تنفير أقرب حلفاء الولايات المتحدة، يدفع ترمب الدول الأكثر اعتماداً على التجارة بالدولار إلى الابتعاد عنه. كذلك فإن قراره بالتخلي عن دعم أوكرانيا في صراعها مع روسيا، وتشكيكه العلني في التزام المادة الخامسة من ميثاق الـ"ناتو" الخاصة بالدفاع المشترك، يعززان القلق في شأن مدى التزام الولايات المتحدة وعودها. وبينما تسعى الدول إلى تقليل تأثرها بنزوات ترمب، قد لا تتخلى عن الدولار بسرعة، لكن مع مرور الوقت، يمكن أن تدفعها العلاقات التجارية المتنامية مع الصين واقتصادات كبرى أخرى إلى استبداله في بعض التعاملات.

تشكل العقوبات سبباً آخر يدفع الدول للبحث عن بدائل. فحملة "الضغط الأقصى" التي تشنها إدارة ترمب على إيران، والإجراءات القسرية التي اتخذتها ضد فنزويلا، تشير إلى أن الاستخدام الواسع للعقوبات قد يتزايد بصورة كبرى في ولايته الثانية. وكلما خضعت دول أخرى لعقوبات أميركية، زاد دافعها إلى أن تحذو حذو روسيا بعد عام 2018، وتقلل اعتمادها على الدولار في التجارة العابرة للحدود واحتياطات العملات. حتى وإن لم تتخل هذه الدول تماماً عن الدولار أو تستبدل به عملة مهيمنة واحدة، فإن أنظمة دفع بديلة مثل "سيبس" الصينية قد تصبح أكثر جاذبية. فالصين هي الشريك التجاري الأكبر لنحو ثلثي دول العالم، وإذا أصبح CIPS الوسيلة الوحيدة للتعامل مع الشركات الصينية، فإن المؤسسات المالية في تلك الدول سيكون لديها حافز قوي للانضمام إليه. وبدلاً من إعادة تشكيل أنماط تجارتها لتتماشى مع تفضيلات الولايات المتحدة، ستعيد الدول تشكيل بنيتها التحتية المالية لضمان استمرار تدفق التجارة.

ستوفر العقوبات سبباً آخر للبحث عن بدائل. تشير حملة الضغط القصوى التي تشنها الإدارة الأميركية ضد إيران والإجراءات القوية التي تستخدمها ضد فنزويلا إلى أن الاستخدام الواسع النطاق بالفعل للعقوبات يمكن أن يتصاعد أكثر في ولاية ترمب الثانية. ومع خضوع مزيد من الدول إلى عقوبات أميركية، سيكون لدى هذه الدول الدافع لفعل ما فعلته روسيا بعد عام 2018 وتقليل اعتمادها على الدولار في التجارة العابرة للحدود والاحتياطات النقدية. وحتى لو لم تبتعد هذه الدول عن الدولار تماماً أو تستبدل به بديلاً واحداً مهيمناً، قد تبدأ أنظمة دفع أخرى مثل "سيبس" في الظهور بمظهر أكثر جاذبية. إن الصين كبرى الدول الشريكة تجارياً لما يقارب ثلثي دول العالم. إذا أصبح "سيبس" الطريقة الوحيدة للتعامل مع الشركات الصينية، ستملك المؤسسات المالية في تلك الأماكن حافزاً قوياً للانضمام إلى النظام. وبدلاً من إعادة تشكيل أنماط التجارة الخاصة بها لتناسب تفضيلات الولايات المتحدة، ستعيد الدول تشكيل بنيتها التحتية المالية للحفاظ على تدفق التجارة.

تصرفات ترمب ستؤدي إلى تقويض العوامل الداعمة لهيمنة الدولار

 

ربما يكمن الخطر الأكبر على هيمنة الدولار في تهديدات ترمب لسيادة القانون، وهو ما من شأنه أن يزعزع الأساس الذي تقوم عليه مكانة الدولار العالمية. ولا يقتصر الخطر على احتمال أن تؤدي الإدارة إلى أزمة دستورية عبر تحدي سلطة القضاء، بل أيضاً في أن شكلاً أكثر فساداً وشخصانية من أشكال الحكم قد يتجذر في ظل رئيس يميل إلى إبرام صفقات مع أصدقائه ومعاقبة أعدائه.

ومن المثير للاهتمام أن أحد العوائق الرئيسة  التي تحول دون اعتماد الرينمينبي الصيني (اليوان) هو غياب سيادة القانون، فالشركات حول العالم تفضّل أن تُعرض قضاياها في المحاكم الأميركية على أن تواجه النظام القضائي الصيني. وإذا ما تآكل هذا التفوق الأميركي، فإن النتائج قد تكون كارثية.

كذلك تشكل الديون الحكومية الأميركية خطراً إضافياً. فقد توقع "مكتب الموازنة في الكونغرس" CBO أن ترتفع هذه الديون من نحو 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي إلى قرابة 150 في المئة بحلول عام 2050. وإذا أقر الكونغرس تخفيضات ضريبية جديدة من دون الحد من الإنفاق (بغض النظر عن الحيل المحاسبية المستخدمة) فإن العجز الناتج سيؤدي إلى تحويل حصة كبرى من الإيرادات الحكومية نحو خدمة فوائد الدين، بدلاً من توجيهها إلى أولويات إنفاقية أخرى، مما يضر بالنمو الاقتصادي الطويل الأجل ويضعف جاذبية الأصول الأميركية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقد تداول بعض المقربين من الإدارة أفكاراً، تُطرح أحياناً تحت مسمى "اتفاق مارالاغو"، من شأنها أن تفاقم هذه المشكلة بصورة كبيرة، مثل إجبار المستثمرين الأجانب على استبدال بسنداتهم الأميركية سندات لأجل 100 عام من دون فائدة. هذه الخطوة ستضر بصدقية الولايات المتحدة كمُقترض، ومن ثم ستقوّض مكانة الدولار. وإذا أُجبرت الدول على تحمل خسائر في حيازاتها من السندات الأميركية، فإن ذلك سينفر المشترين في المستقبل، وقد يُصنّف على أنه تخلّف عن السداد من قبل وكالات التصنيف الائتماني، إذا تم هذا الاستبدال بصورة غير طوعية.

وأخيراً، إذا تراجع أداء الاقتصاد - كذلك تتوقع كثير من بنوك وول ستريت -  فقد يجد ترمب نفسه في صدام مع الاحتياط الفيدرالي، كما حدث في ولايته الأولى. وقد أشار "الفيدرالي" إلى حاجته إلى مزيد من الوضوح حول التأثير التضخمي لتعريفات ترمب قبل الإقدام على خفض إضافي في أسعار الفائدة، بينما يضغط ترمب بالفعل من أجل سياسة نقدية أكثر تيسيراً لتحفيز الاقتصاد المتباطئ - وهي ضغوط من المرجح أن تتزايد. وإذا نجح ترمب في ممارسة هذا الضغط، فسيؤدي ذلك إلى إضعاف استقلالية وصدقية الاحتياط الفيدرالي، مما سيقوّض مكانة الدولار عالمياً، مع تزايد مخاوف الدول من أن السياسة النقدية الأميركية باتت تُدار بدوافع سياسية، لا اقتصادية.

ويُعد الاحتياط الفيدرالي ركيزة أساسية في النظام المالي القائم على الدولار، وإذا سُيس مرة واحدة، فسيكون من السهل استخدامه لأغراض سياسية أخرى. فالبنوك المركزية في دول مثل كندا واليابان وأوروبا ستقلق - وهي على حق في هذا - من احتمال أن يمنعها مجلس فيدرالي مسيّس من الوصول إلى خطوط مبادلة الدولار [اتفاقات بين الفيدرالي الأميركي وبنوك مركزية أخرى تسمح للأخيرة بالحصول على الدولار بصورة سريعة لتغطية حاجاتها المحلية] في أوقات الأزمات، كوسيلة لابتزازها أو لانتزاع تنازلات منها.

وحتى لو لم تؤد هذه التهديدات إلى إنهاء هيمنة الدولار تماماً، فإن أي تراجع في مكانته سيحمل عواقب جسيمة على الولايات المتحدة والعالم. فمكانة الدولار كعملة احتياط تمنح الولايات المتحدة فوائد هائلة، مثل أسعار فائدة منخفضة على الديون الحكومية، والقدرة على فرض عقوبات اقتصادية فعالة. أما الدول الأخرى فتستفيد من وجود عملة عالمية ذات سيولة عالية، قابلة للتحويل بسهولة، وموثوقة، تُستخدم على نطاق واسع. أما تراجع مكانة الدولار، فستكون نتيجته كلفاً أعلى، وتجارة أكثر تعقيداً، وانخفاضاً في مستويات المعيشة، في الأقل إلى أن تحل عملة بديلة محل الدولار.

لم يكن الدولار دائماً العملة الاحتياط في العالم أو العملة المفضلة للتجارة الدولية. في القرن الـ19، كان الجنيه الإسترليني هو العملة التي تتمتع بهذه المكانة، وكان الممولون البريطانيون يشعرون بالأمان في ظله. وتوفرت للمملكة المتحدة أسواق مالية مرنة وذات سيولة، وكانت الإمبراطورية البريطانية أكبر اقتصاد في العالم وطرفاً فاعلاً مركزياً في التجارة العالمية. ومع ذلك، بعد حربين عالميتين وعقود من التدهور السياسي والاقتصادي، شهدت لندن انحسار مكانة الجنيه الإسترليني العالمية. لم يكن ثمة شيء حتمي بخصوص تراجع الجنيه الإسترليني أو ظهور الدولار، تماماً كما لا يوجد شيء حتمي في شأن الزوال المحتمل للدولار اليوم. تحدد الاختيارات، وليس القدر، العملات الرئيسة. وإذا ما أطيح بالدولار في النهاية، فسيكون ذلك كارثة من صنع إدارة ترمب نفسها.

 

مترجم عن "فورين أفيرز" 8 أبريل (نيسان) 2025

إدوارد فيشمان باحث أول في مركز سياسات الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا. هو مؤلف كتاب "نقاط الاختناق: القوة الأميركية في عصر الحرب الاقتصادية". خلال إدارة أوباما، شغل منصب منسق العقوبات في الساحة الروسية الأوروبية وعضو طاقم التخطيط للسياسات في وزارة الخارجية الأميركية.

غوتام جاين باحث أول في مركز سياسات الطاقة العالمية.

ريتشارد نيفيو باحث أول في مركز سياسات الطاقة العالمية وزميل مساعد في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. شغل مناصب مختلفة في مجلس الأمن القومي الأميركي ووزارة الخارجية الأميركية.

المزيد من آراء