ملخص
أحيا المسيحيون "أحد الشعانين" والحزن يملأ قلوبهم، فهم الآن يعيشون أجواء عيد الفصح من دون احتفالات، ومن داخل كنيسة الروم الأرثوذكس تقول مارا "ننتظر الفصح من السنة إلى السنة، لكن إسرائيل حرمتنا الاحتفال وتستهدف الوجود المسيحي هنا بكل عنف وبلا رحمة".
فجر يوم "أحد الشعانين" استيقظ المسيحيون في غزة على قصف إسرائيل المستشفى المعمداني الذي تديره الكنيسة الأسقفية الأنغليكانية، وبدلاً من الاحتفال والصلاة في هذه المناسبة تحول كل شيء إلى خراب وحزن ودموع، وكان إيهاب عياد، وهو مسيحي من غزة، ينام في كنيسة القديس بورفيريوس القريبة من المستشفى المعمداني بعد أن دمر الجيش الإسرائيلي منزله، وعندما شنت الطائرات المقاتلة غارتها على المرفق الطبي صحا الشاب من نومه مرعوباً، إذ "كان القصف عنيفاً كأنه زلزال"، كما يقول، مضيفاً "ظننت أن الصاروخ الإسرائيلي استهدف الكنيسة التي أحتمي بها فهي قريبة من المستشفى الإنجيلي".
قبل القداس الإلهي
يخاف إيهاب على حياته وعلى الوجود المسيحي في غزة، فـ "هذه الحرب لا تفرق بين إنسان وآخر، وأعتقد أن إحدى نتائجها هو اختفاء المسيحيين من غزة، وأظن أن الجيش قصف المستشفى المسيحي بالتزامن مع عيد أحد الشعانين بصورة متعمدة وكرسالة واضحة لنا بهذا المعنى".
وقبل الاحتفال بالقداس الإلهي لعيد الشعانين تجمع إيهاب مع عدد من المسيحيين النازحين في كنيسة القديس بورفيريوس التي تعرف محلياً باسم "كنيسة الروم الأرثوذكس"، ثم توجهوا لزيارة المستشفى المعمداني الإنجيلي لمعاينة الأضرار التي خلفتها الغارة الإسرائيلية، فصعق إيهاب من حجم الأضرار التي أخرجت المستشفى الوحيد في مدينة غزة عن الخدمة، وحزن كثيراً وسيطرت على وجهه ملامح العبوس ولم يتفوه بكلمة، وعندما عاد للصلاة والاحتفال بقداس أحد الشعانين ظل صامتاً وكئيباً.
وقد أحيا المسيحيون المناسبة والحزن يملأ قلوبهم، فهم الآن يعيشون أجواء عيد الفصح من دون أية احتفالات، ومن داخل كنيسة الروم الأرثوذكس تقول مارا "ننتظر عيد الفصح من السنة إلى السنة، لكن إسرائيل حرمتنا الاحتفال وتستهدف الوجود المسيحي بكل عنف وبلا رحمة".
ولم تلبس مارا أطفالها حلة العيد، وهي التي نزحت من بيتها مع الأولاد إلى الكنيسة بسبب أوضاع الحرب، وعندما حمل صغارها الشموع الطويلة لممارسة طقوس الفصح قالت لهم الأم "هذا العيد حزين بالنسبة إليّ، نحتفل به في كنيسة تعرضت للقصف وسقط داخلها ضحايا أبرياء، كما أفتقد أصدقائي المسيحيين الذين هاجروا خارج غزة، فوجودنا يتناقص باستمرار".
الموت والجوع والنزوح
يشكل المسيحيون في غزة أقلية صغيرة جداً، إذ يبلغ عددهم 1100 فرد بحسب تعدادهم قبل الحرب، ويمثلون 0.05 في المئة من إجمال سكان القطاع، وينتمي 770 مسيحياً إلى طائفة الروم الأرثوذكس، والبقية إلى طائفتي اللاتين الكاثوليك والمعمدانيين الإنجيل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم تحم الحرب المسيحيين في غزة فقد كانوا مستهدفين مثل بقية السكان ولديهم نصيب من القصف اليومي، وتعاني هذه الأقلية أوضاعاً صعبة إذ يعيشون النزوح نفسه الذي يتعرض له الغزيون ويواجهون الموت والجوع، ويمرون الآن بأسوأ مرحلة في تاريخهم، ففي هذه الحرب وقعت سلسلة اعتداءات إسرائيلية على المسيحيين لعل أشهرها في أكتوبر (تشرين الأول) 2023 عندما أصاب صاروخ أحد المباني الخارجية لكنيسة الروم الأرثوذكس فقتل 18 مسيحياً وأصاب آخرين، وفي يوليو (تموز) 2024 تعرضت الكنيسة ذاتها لهجوم إسرائيلي عندما سقط صاروخان على الطابق الأول من المبنى فأصيب أربعة مسيحيين، ويقول عضو مجلس وكلاء الكنيسة الأرثوذكسية، إلياس الجلدة، إن " جميع المسيحيين تقريباً نازحون الآن ويختبئون في كنسية بورفيريوس وكنيسة العائلة المقدسة، فهذه المرافق آخر ملاذ آمن لهم ولأطفالهم"، مضيفاً أن "مسيحيي غزة يستعدون لأسوأ السيناريوهات والكنائس تواجه تحدياً في استيعاب جميع النازحين الوافدين إليها وتوفير ظروف معقولة لهم"، موضحاً أنهم يشعرون بالقهر والظلم ويفتقدون الحماية وكأنهم يعيشون في غابة، ويتكدسون في مكان غير مجهز بالحمامات والأغطية والفرش.
انتماء للأرض المقدسة
وتقاطع هذا الحديث سوزان لتسأل "ما الذي سيحصل في غزة؟ هل سنهجر؟ ما ذنبنا؟"، ثم تصمت قليلاً لتواصل "اعتدنا الموت والحرب لكنني أفكر بأولادي وأتمنى لو يخرجون من القطاع، فعددنا قليل في غزة ونريد لأولادنا أن ينفتحوا على المجتمع المسيحي وأن يعرفوا أهلهم ويعيشون حياة طبيعية".
وترى سوزان أن الحدود في غزة ضيقة للغاية والمسيحيون يموتون يوماً بعد آخر بسبب الحرب ونتائجها، ويعود عضو مجلس وكلاء الكنيسة الأرثوذكسية إلياس الجلدة ليكمل أن "هذه الحرب قضت على اثنين في المئة من المجتمع المسيحي، وهذا مؤلم جداً".
ولم تتناقص أعداد المسيحيين في غزة بسبب الموت في الحرب فقط، إذ اضطر بعضهم إلى الهجرة عندما كان معبر رفح يعمل، ولكن هذه الهجرة لا ترقى إلى مستوى الظاهرة داخل الوسط المسيحي، ويقول فؤاد حاكورة "نتمسك بغزة فالسر يتمثل في وجود إيمان مطلق بالانتماء للأرض المقدسة التي باركها الله، فالمسيحيون في غزة هم ملح المعادلة التاريخية منذ اندلاع الحرب، وجزء أساس وأصيل من الفسيفساء الفلسطينية، والوجود المسيحي هنا امتداد لوجود كنيسة المهد وكنيسة القيامة وجميع الكنائس والأديرة في القدس وبيت لحم وأنحاء فلسطين كافة".
حُب غزة هذا وتعلق المسيحيين بها جعل نائب رئيس راعي كنيسة العائلة المقدسة للطائفة الكاثوليكية، الأب يوسف أسعد، يعتقد بوجود مخطط إسرائيلي للقضاء على المسيحيين في القطاع، ويقول إن "إحدى النتائج الكارثية للقتال ربما يكون اندثار المسيحيين في غزة، فكل المؤشرات والأرقام والمعطيات على الأرض تؤكد ذلك"، مضيفاً "تتبنى إسرائيل إستراتيجية الأرض المحروقة في غزة حتى لا تكون صالحة للسكن مرة أخرى، ويخشى المجتمع المسيحي الصغير في القطاع من خطر الإبادة في ظل استمرار الحرب، وأعتقد أن المجتمع المسيحي لن ينجو من هذه الفظائع، فحتى أولئك الذين سيبقون على قيد الحياة بعد الحرب لست متأكداً من أنهم سيستطيعون العيش في مكان لا يمكن العيش فيه".
ويكشف راعي كنيسة الروم الكاثوليك الأب عبدالله يوليو عن ممارسة إسرائيل ضغوطاً ليخرج المسيحيون من غزة، وعن وجود مخطط لتحويل الوجود المسيحي إلى مجرد ذكريات والكنائس إلى مجرد متاحف، فيقول إن "عدد المسيحيين الذين قتلتهم إسرائيل في قطاع غزة بلغ 50 شخصاً، وعلى الأرجح تعمّد الجيش ذلك كما تعمّد استهداف الكنائس والمستشفى الإنجيلي بهدف تخويف المرجعيات المسيحية وممارسة الضغط عليهم، فثمة مخطط يستهدف فصل العرب المسيحيين عن الجسم العربي المسلم".