ملخص
يرى الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن مشروع "ريفييرا غزة" ليس مجرد وجهة سياحية فقط، لكنه أيضاً جاذب لرؤوس الأموال العربية والأميركية. ويلفت مقترحه إلى تعقيدات الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط والتحديات الكامنة في معالجة الصراعات الإقليمية طويلة الأمد.
قبل أن يكمل الشهر الأول من تنصيبه اقترح الرئيس الأميركي دونالد ترمب إخلاء قطاع غزة من سكانه الفلسطينيين البالغ عددهم نحو مليوني نسمة وإعادة توطينهم في دول مجاورة مثل مصر والأردن ليطرق بذلك على أكثر القضايا حساسية وتعقيداً في المنطقة العربية والشرق الأوسط. بعد ذلك سيتم تحويل المنطقة إلى منتجع سياحي عالمي تحت السيطرة الأميركية بتحويلها إلى "ريفييرا الشرق الأوسط".
ويأتي هذا المقترح الذي كشف عنه الثلاثاء الماضي في مؤتمر صحافي مشترك بواشنطن مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو متفوقاً على سلسلة من القرارات المثيرة للجدل التي اتسمت بها بداية فترة ترمب الجديدة، وكان قد أعلن خلال حفل تنصيبه عن توقيع سلسلة من الأوامر التنفيذية "التاريخية"، من ضمنها إعلان حال الطوارئ على حدود الولايات المتحدة الجنوبية مع المكسيك وتسمية خليج المكسيك "خليج أميركا" واستعادة قناة بنما ووضعها تحت سيطرة الولايات المتحدة وفرض رسوم وضرائب على دول أجنبية بهدف إثراء المواطنين الأميركيين، وغيرها.
وفي حين أعرب سكان غزة عن رفضهم الشديد للمقترح مؤكدين أن تحويل منطقتهم إلى منتجع سياحي لا يعالج معاناتهم الحقيقية، وعدوها محاولة لمحو هويتهم وحقوقهم في أرضهم أشاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بترمب بوصف خطته بـ"التفكير خارج الصندوق". كما أعرب وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس عن دعمه للمقترح، مشيراً إلى أن الجيش الإسرائيلي بدأ في إعداد خطط لإعادة توطين الفلسطينيين في دول أوروبية مثل إسبانيا وإيرلندا والنرويج.
موقف رافض
قوبل المقترح بانتقادات إقليمية ودولية واسعة، إذ سارعت القوى الدولية إلى إدانة الخطوة التي تسببت في صدمة لأطراف دولية وإقليمية، فقد أعربت مصر والأردن عن تحفظاتهما في شأن إعادة توطين الفلسطينيين بصورة دائمة داخل حدودهما، خشية انعكاس ذلك على الاستقرار الوطني وحقوق السكان اللاجئين. ورفضت السعودية الخطة بصورة قاطعة، ووصفت تركيا الاقتراح بأنه "غير مقبول"، وقالت فرنسا إنه يخاطر بزعزعة استقرار الشرق الأوسط، كما ذكرت كل من روسيا والصين وإسبانيا وإيرلندا والمملكة المتحدة أنها بذلت مجهوداً خلال وقت طويل لدعم حل الدولتين.
وأعربت الأمم المتحدة عن مخاوفها، مشيرة إلى أن النزوح القسري يتعارض مع القانون الدولي ويمكن أن يؤدي إلى تفاقم التوترات الإقليمية. ووصفته المقررة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية فرانشيسكا ألبانيز بأنه "غير قانوني وغير أخلاقي وغير مسؤول"، معتبرة إياه خطة لـ"تطهير عرقي" وتهجير قسري جماعي.
من جانبها نقلت صحيفة "ذا صن" البريطانية أن وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس رفض اقتراح كاتس بأن تقبل إسبانيا الفلسطينيين النازحين، قائلاً "أرض سكان غزة هي غزة، ويجب أن تكون غزة جزءاً من فلسطين المستقبلية".
أما العقيد في الجيش البريطاني ريتشارد كيمب فقد قال للصحيفة ذاتها "من المحتمل أن يستغرق تحويل غزة إلى مكان يمكن للناس العيش فيه مرة أخرى عقداً من الزمان في الأقل. ومن المحتمل أن يكلف المشروع مليارات الدولارات، ولكن هناك مليارات الدولارات في الشرق الأوسط، لذا يمكنهم المساهمة في المشروع".
وفي الولايات المتحدة في حين أثار بعض المشرعين مخاوف في شأن "الآثار الأخلاقية والعواقب الجيوسياسية المحتملة لمثل هذه الخطة" أعرب السيناتور جون فيترمان من ولاية بنسلفانيا عن دعمه الكامل لمقترح ترمب، مؤكداً ضرورة مشاركة الولايات المتحدة في إعادة إعمار غزة لتعزيز التنمية الاقتصادية والاستقرار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صورة وردية
وعزا عديدون هذا المقترح إلى تعليق كان وصف به صهر ترمب ومساعده السابق جاريد كوشنر، غزة، العام الماضي بأنها ملكية "قيمة" على الواجهة البحرية. وتتلخص الخطة، بحسب ترمب، بأن الخطوة التالية بعد تسليم إسرائيل قطاع غزة للولايات المتحدة عند انتهاء القتال ستكون إعادة هيكلتها في محاولة لتحويلها إلى "التطور الأكثر إثارة للإعجاب على وجه الأرض". وأضاف "ستكون لديهم فرصة حقيقية ليكونوا سعداء وآمنين وأحراراً"، و"ستبدأ الولايات المتحدة، بالتعاون مع فرق التنمية العظيمة من جميع أنحاء العالم ببطء وعناية في بناء ما سيصبح أحد أعظم وأروع التطورات من نوعه على وجه الأرض". وأكد أنه "لن تكون هناك حاجة إلى جنود أميركيين. سيسود الاستقرار في المنطقة".
وتبدو الفكرة المنطلقة من مخيلة رجل أعمال ومطور عقاري استثمارية تنافسية، لا سيما أن الوجهات السياحية في المناطق الآمنة بمنطقة الشرق الأوسط تتصاعد جاذبيتها باستمرار. فمشروع "ريفييرا غزة" من ناحية جدوى اقتصادية فهو جاذب للمستثمرين لإسهامه في تحفيز النمو الاقتصادي المحلي وزيادة الإيرادات السياحية وتحسين البنية التحتية. وهنا قد يرى ترمب أن المشروع ليس مجرد وجهة سياحية فقط، لكنه أيضاً جاذب لرؤوس الأموال العربية والأميركية. وعلى رغم فكرة ترمب التي ظل يؤكد عليها "أميركا أولاً"، فإن انفتاحه على الشرق الأوسط سيتحقق من أجل تعزيز النفوذ الأميركي في الاقتصاد الإقليمي.
أما مقومات تشكُّل الصورة الوردية التي نبع منها هذا المقترح فقد انطلقت من تخيل "الريفييرا" الفرنسية المتميزة بموقعها على البحر المتوسط في جنوب شرقي فرنسا واشتهارها بشواطئها الجميلة ومناخها المعتدل نموذجاً لقطاع غزة. أما مقاربات التشبيه فنبعت من واقع أن قطاع غزة على البحر المتوسط يتميز أيضاً بشواطئ رملية وساحل مفتوح يمتد على نحو 40 كيلومتراً، كما يتمتع القطاع بمناخ متوسطي معتدل. وفي مقترح "ريفييرا غزة" يتوقع أن يكون التركيز على تشييد بنية تحتية سياحية جديدة تشمل منتجعات سياحية فاخرة وموانئ حديثة لليخوت، موجهة بصورة رئيسة للمستثمرين العرب والأميركيين الذين يمكن جذبهم من خلال الطابع والتاريخ المختلف عن الطابع الأوروبي لـ"الريفييرا" الفرنسية.
ديموغرافيا ناعمة
يندرج مقترح ترمب ضمن سياسات الهندسة الديموغرافية التي شهدها العالم في سياقات نزاعات مختلفة. ويأتي التحكم في حجم السكان والتغيرات الإقليمية ومصادرة الممتلكات بتسليط الضوء على مسألة الإبادة الجماعية وارتباطاتها بالبناء الديموغرافي والإثني بمواجهة صور صلبة وناعمة من هذه الهندسة الديموغرافية. في شكلها الصلب تكون تعديلاً متعمداً للتركيبة السكانية لإقليم ما من خلال زيادة أو تقليل عدد سكانه، أما النهج الناعم غير المباشر فهو يغير هويات الجماعات الإثنية أو يغير الحدود الإقليمية. ولم تكن خطة الرئيس الأميركي "تقنية لتنظيم الصراع" فحسب، بل كانت أيضاً وسيلة لإحداث تحولات هوية جيوسياسية وإثنية.
ويرى كثر أن ترمب يعود بالعالم إلى تاريخ الدول القومية الناشئة في أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20، حينما طردت الجماعات الإثنية الدينية غير المرغوب فيها وأسقطت رؤيتها الوطنية التي اكتسبتها حديثاً، وأن غزة لم تكن الأولى، وإنما لترمب سوابق أخرى. وقد خلق أزمة مع أوروبا عندما أعلن رغبته في الاستيلاء على جزيرة غرينلاند التابعة للدنمارك، العضو في الاتحاد الأوروبي وحلف "الناتو"، وذلك عام 2019، عندما اقترح شراء الجزيرة التي تتمتع بموقع استراتيجي مهم وثروات معدنية ونفطية لتكون جزءاً من الولايات المتحدة، وقوبل الطلب برفض قاطع، ووصفته رئيسة الوزراء الدنماركية بأنه "فكرة سخيفة".
وفي حادثة أخرى هدد الرئيس الأميركي باحتلال قناة بنما، مما فاقم التوترات بين واشنطن ودول أميركا الجنوبية. وحدث ذلك في أواخر عام 2024، حينما أدلى بتصريحات مثيرة للجدل تتعلق بالقناة، معرباً عن قلقه من زيادة نفوذ الصين في إدارتها، وأن القناة "لم تمنح للصين، لكنها تخضع لسيطرتها". هذه التصريحات أثارت ردود فعل قوية من حكومة بنما، فقد أكد الرئيس البنمي خوسيه راوول مولينو أن القناة تمثل سيادة بلاده الكاملة، مشدداً على أن "كل متر مربع من بنما ملك لنا، وسيظل لنا"، وأن سيادة قناة بنما غير قابلة للتفاوض.
تحديات محيطة
وعلى رغم الجوانب الاقتصادية والاستثمارية للمشروع، فإنه يواجه تحديات كبيرة، الأول المعارضة الفلسطينية والإقليمية والدولية لما عد خرقاً للقوانين الدولية، أو التزامات الولايات المتحدة نفسها بالاتفاقات الدولية التي تجرم التطهير العرقي، ومن الصعب التوافق عليه. والثاني العقبات الأمنية، فالمنطقة وما حولها غير مستقرة أمنياً وسياسياً، وهذا المقترح الذي لا يمكن فصله عن هذا الواقع، من شأنه أن يحرك جماعات معينة من ضمنها الفصائل المسلحة ضد المشروع والوجود الأميركي. أما التحدي الثالث فإن فكرة تفريغ غزة من سكانها يؤدي إلى إنهاء فكرة الدولة الفلسطينية، ويتناقض ذلك مع مبدأ حل الدولتين إلى حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، الذي وجد توافقاً دولياً كبيراً. كما قد تخدم مشروع مبادرة "صفقة القرن" بهدف إعادة ترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط وفق رؤية أميركية - إسرائيلية. والرابع فقد ذكرت صحيفة "ذا ميونيخ آي" الألمانية أنه "من ضمن التحديات تأمين تعاون الدول المجاورة لقبول الفلسطينيين النازحين وضمان الطبيعة الطوعية لأي جهود إعادة التوطين ومعالجة الاعتبارات القانونية والأخلاقية المرتبطة بتغيير المشهد الديموغرافي في غزة. إضافة إلى ذلك فإن العبء المالي لإعادة التطوير المقترحة، والذي من المتوقع أن يستغرق أكثر من عقد من الزمان ويكلف مليارات الدولارات، يشكل عقبة كبيرة".
وعلى رغم أن ترمب ذكر أمس الجمعة أنه "لا داعي للعجلة" في تنفيذ مقترحه المثير للجدل في شأن قطاع غزة، بقوله "لسنا في عجلة من أمرنا في شأن ذلك"، لكن مقترحه يلفت إلى تعقيدات الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط والتحديات الكامنة في معالجة الصراعات الإقليمية طويلة الأمد، كما يسلط الضوء على إمكانية الموازنة بين الفوائد المحتملة والتحديات الأخلاقية والعملية لمثل هذا المشروع.