ملخص
يمكن القول إن الصواريخ التي أطلقتها "حماس" باتجاه العمق الإسرائيلي، وتحديداً باتجاه ميناءي أشدود وحيفا وتعطيلهما، والصواريخ أو المسيرات التي بدأت جماعة الحوثي اليمينة في إطلاقها باتجاه ميناء إيلات في الـ18 من أكتوبر 2023، حوّلتا الممر البري الذي يربط بين ميناء الفجيرة الإماراتي والعمق الإسرائيلي عبر الأراضي السعودية والأردنية، إلى مجرد طريق لإيصال المساعدات الغذائية والاقتصادية للحكومة الإسرائيلية في مواجهة تعطل طرق التجارة البحرية.
عندما انطلقت صواريخ "حماس" باتجاه مستوطنات "غلاف غزة" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، سارعت طهران على لسان مرشدها الأعلى علي خامنئي لتأكيد عدم معرفتها بتوقيت العملية أو المشاركة في تحديد ساعة الصفر لانطلاقها، لكنها في الوقت ذاته، لم تنف وقوفها إلى جانب الفصائل الفلسطينية وتقديم الدعم المعنوي والإعلامي والسياسي والعسكري لها في إطار الصراع مع إسرائيل.
هذا الموقف النافي لأي دور في التوقيت، لا يعني أن طهران لم تكن تعمل لمثل هذه الساعة ولم تخطط لمثل هذه المعركة ضمن مشروعها الاستراتيجي في الإقليم، فهي وعلى مدى العقد الماضي، سعت لبناء درع صاروخية وعسكرية يحاصر عدوها الإقليمي المعلن إسرائيل، لكن بعيداً من حدودها، ليتكامل مع البرنامج الصاروخي الذي تمتلكه، بانتظار استكمال هذا الطوق من خلال رفع مستوى تسليح الفصائل الفلسطينية المتحالفة معها في الضفة الغربية، وعندما تتوفر أو تتهيأ الأمور والأوضاع المناسبة لإشعال حرب واسعة عند شعورها بأن المشروع الإقليمي الذي تقوده بات محاصراً أو في معرض التهديد الجدي والحقيقي.
وجدت طهران في عملية "حماس" التي أطلق عليها اسم "طوفان الأقصى"، فرصة ذهبية لإعادة خلط الأوراق الإقليمية التي بدأت تتفلت من أيديها نتيجة التوجهات الجديدة التي بدأت تتبلور في الإقليم مع التوقيع على معاهدة السلام "الأبراهامي" بين تل أبيب وكل من الإمارات والبحرين، وبعد الموقف السعودي عن إمكانية الوصول إلى تطبيع بين الرياض وتل أبيب مشروط بإحراز تقدم على مسار القضية الفلسطينية، قائم على حل الدولتين. وأضاف اغتيال رأس المشروع الإقليمي لإيران، المسؤول عن كل ساحات الصراع، قائد "قوة القدس" قاسم سليماني بمسيرة أميركية، مزيداً من الإرباك على هذا المشروع، فدخل في حالة من انعدام الوزن، مما أجبر النظام في طهران على إعادة ترتيب أولوياته واستيعاب الخسارة التي لحقت به والعمل على معالجة آثارها ومنع ارتدادها سلباً على مشروعها الإقليمي الذي أوصلته إلى مرحلة متقدمة.
ومع فشل طهران في التوصل إلى نقطة تفاهم مع الإدارة الأميركية الديمقراطية بقيادة الرئيس جو بايدن حول الملفات العالقة بينهما، خصوصاً ما يتعلق بالمفاوضات حول إعادة إحياء الاتفاق النووي، فضلاً عن صعوبة تحقيق مشروعها في إخراج القوات الأميركية من منطقة غرب آسيا الذي وضعته كاستراتيجية انتقام لاغتيال سليماني. وأن التفاهمات المرحلية التي توصل إليها بين الطرفين، بخاصة ما يتعلق بصفقة تبادل المعتقلين والإفراج عن جزء من الأموال الإيرانية المجمدة في البنوك الكورية الجنوبية وغض النظر عن عودتها إلى سوق الطاقة العالمية وزيادة مستويات تصدير النفط، لم تكن لتلبي الطموحات الإيرانية وتقلل من مستويات القلق لديها حول مستقبل دورها وموقعها في الإقليم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وزاد منسوب القلق لدى قيادة النظام بعد الإعلان عن المشروع الاقتصادي الدولي الطموح الذي تم التوقيع عليه على هامش قمة الـ20 الذي استضافته العاصمة الهندية نيودلهي المعروف باسم "الممر الهندي – العربي – الأوروبي" الذي يعني ضرب أحد أهم الخطط الجيواقتصادية التي تراهن طهران عليها والتي من المفترض أن تجعل منها عقدة المواصلات البرية بين الشمال والجنوب وبالعكس، وبين الشرق والغرب. لذلك كان رد الفعل الإيراني الرسمي والاقتصادي واضحاً في اليوم الأول لعملية "طوفان الأقصى"، إذ اعتبرت هذه المعركة بمثابة إعلان "وفاة" هذا الممر البحري – البري، مما يعني بالتالي بقاءها بقوة على الخريطة المستقبلية لطرق وممرات التجارة والنقل البري العالمية.
يمكن القول، إن الصواريخ التي أطلقتها "حماس" باتجاه العمق الإسرائيلي، وتحديداً باتجاه ميناءي أشدود وحيفا وتعطيلهما، والصواريخ أو المسيرات التي بدأت جماعة الحوثي اليمينة بإطلاقها في اتجاه ميناء إيلات في الـ18 من أكتوبر 2023، حوَّلتا الممر البري الذي يربط بين ميناء الفجيرة الإماراتي والعمق الإسرائيلي عبر الأراضي السعودية والأردنية، إلى مجرد طريق لإيصال المساعدات الغذائية والاقتصادية للحكومة الإسرائيلية في مواجهة تعطل طرق التجارة البحرية. أي إن هذه العملية لعبت دوراً مهماً في تعطيل مشروع بناء هذا الممر في الأقل في المدى المنظور وإلى حين التوصل إلى تسوية شاملة لملفات المنطقة بما فيها مستقبل الوضع الفلسطيني.
لم يقتصر دور الصواريخ الإيرانية ومسيراتها، على "جبهة القطاع – حماس والفصائل"، وتلتها "جبهة اليمن – الحوثي"، الهادفتين لفرض حصار اقتصادي على إسرائيل والضغط من أجل التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار ينهي هذه الحرب، بل شاركت "جبهة لبنان – حزب الله" التي انضمت إلى الحرب تحت عنوان إسناد "حماس" وغزة منذ اليوم التالي في الثامن من أكتوبر، ثم لحقتها "جبهة العراق – الحشد الشعبي"، التي تولت مهمة مزدوجة، الأولى باتجاه العمق الإسرائيلي، والثانية باتجاه القواعد الأميركية المنتشرة على الأراضي العراقية والسورية.
وكان العنوان الواضح لهذه الجبهات، باستثناء جبهة غزة، هو إيصال رسالة مباشرة للإدارة الأميركية التي بدأت بمسار سياسي يقوم على ترتيب أوراق المنطقة من خلال الدفع بعملية السلام والتطبيع بين إسرائيل ومحيطها العربي والإسلامي، بما يسمح لها بتقليل انغماسها المباشر في الشرق الأوسط ويساعدها في إعادة تركيز جهودها على جبهتي الحرب الروسية – الأوكرانية من جهة، والطموحات التوسعية للصين وأزمة تايوان من جهة أخرى.
ورأى النظام الإيراني ومنظومته الأمنية والعسكرية، في الانسحاب التكتيكي الأميركي، إذا جاز التعبير عنه بالانسحاب، يعني تفويضاً كاملاً لإسرائيل في رسم معادلات منطقة الشرق الأوسط على حساب مصالحه ودوره ونفوذه، وأنه قد يصبح في دائرة الحصار السياسي والأمني والاقتصادي، بخاصة في ظل عدم قدرته على التوصل إلى حلول عملية وفعلية لموضوع العقوبات الأميركية والبرنامج النووي. بالتالي فإن عودة الأميركي إلى الانغماس من جديد في الشرق الأوسط سيبقي الباب مفتوحاً أمام طهران للبقاء على طاولة التفاوض والتسوية مع الجهة التي تملك القرار النهائي.