Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماريو ميندوزا يرصد مجزرة كولومبيا الثمانينيات

القاتل في رواية "الشيطان" ضحاياه موزعون بين فيتنام وبوغوتا

مدينة بوغوتا حيث تدور أحداث رواية "الشيطان" (صفحة بوغوتا - فيسبوك)

تتكئ رواية "الشيطان"، للكاتب الكولومبي ماريو ميندوزا، على "أحداث وقعت بالفعل"، مرتبطة بجرائم قتل ارتكبها مدرس لغة انجليزية في بوغوتا، بعد سنوات عدة على اشتراكه جندياً مرتزقاً بين صفوف الأميركيين خلال حربهم ضد فيتنام الشيوعية، وارتكابه في أثناء ذلك جرائم قتل وتعذيب من دون أن يعاقب عليها. وتلك الحرب التي امتدت لنحو عقدين، كانت في نظر غالبية الأميركيين "غير أخلاقية وليس لها ما يبررها".

أما الجرائم التي ارتكبها ذلك الجندي السابق وعُرفت إعلامياً بـ "مذبحة بوتسيتو"، فلم تقتصر أضرارها على سقوط عدد كبير من القتلى، بل خلّفت ناجين، بعضهم ظلّ يعاني في ما تبقى من حياته من الشلل أو غير ذلك من العاهات الجسدية المستديمة، فيما سيق البعض الآخر فريسة لاكتئاب مزمن من هول ما رأى. ارتكب هذا القاتل المتسلسل جرائمه خلال بضع ساعات، في أماكن عدة داخل مدينة بوغوتا، في وضح نهار أحد أيام العام 1986. ومع ذلك فإن ميندوزا يصدر روايته هذه التي ترجمها أخيراً إلى العربية محمد أحمد حسين (دارالعربي - القاهرة) بـ "تحذير"، في ما يلي نصه: "مع أن العديد من الأحداث التي تظهر في هذا الكتاب يمكن التحقق منها بسهولة في الواقع، وتشكل أحد الفصول الأكثر مرارة في تاريخ بوغوتا، في العقود الأخيرة، فإن كلّاً من الشخصيات وحبكة الرواية دروب من الخيال.

لا يقصد المؤلف الإساءة إلى أي شخص يرتبط – بشكل مباشر أو غير مباشر – بهذه القصة، أو إلحاق الضرر به". وتلي ذلك مقدمة، كتبها المؤلف، وزعم فيها أن مرتكب تلك الجرائم التي أسماها الإعلام "مذبحة بوتسيتو"، ويدعى "كامبو إلياس ديلغادو"، كان زميله خلال سنوات دراسته الجامعية، وأنه لم يدرك تلك الحقيقة إلى بعد مرور سنوات عدة على المذبحة، ومن ثم كان ذلك دافعاً أساسياً له ليكتب رواية "الشيطان". ويبدو أن المقصود في العنوان هو "ديلغادو"، بحسب تفسير ديني شعبي لما سيطر عليه وعلى غيره من شخوص أساسية في الرواية اقترفت آثاماً تحت تأثير وقوعها ضحية لقوى ميتافيزيقية، وفقاً للتفسير ذاته، علماً أنها تشترك في الانتماء إلى طبقة متعلمة في وسط فاسد. ولكن لا يعني ذلك أن المؤلف أفقد هذه الشخصية المحورية ما يمكن أن تتكئ عليها تبريراً لجرائم ارتكبتها برباطة جأش مَن يؤمن بأنه إنما يؤدي عملاً يستحق عليه التقدير، لا الازدراء والاحتقار.

عنف وفساد

وما يؤكد ذلك هو أن ميندوزا، وهو أحد أكثر الكتاب انتشاراً في أميركا اللاتينية، وضع مذبحة "بوتسيتو" (هو اسم المطعم الذي سقط فيه العدد الأكبر من الضحايا) في سياق أوسع، من المعاناة من مظاهر شتى للعنف والفساد، بغرض محاولة تفهم تصرفات ذلك السفاح وأفكاره. فالعنف في كولومبيا: كما يقول ميندوزا في المقدمة: "هو من نوع آخر: تجارة المخدرات وحرب العصابات والجماعات شبه العسكرية". ويستدرك موضحاً: "لكن القاتل المتسلسل المتعلم والمتطور ذا الاهتمامات الإبداعية ليس هو القاعدة، بل الاستثناء".

والغريب هو أن "ديلغادو" لم يتلق أي إساءة من ضحاياه، ربما باستثناء أمه التي وجد نفسه يمقتها لاعتقاده بأنها خانت والده ومن ثم دفعته للانتحار. بعد أن قتلها أشعل النار في جثتها، داخل الشقة التي كانا يعيشان فيها. ولكنها لم تكن الضحية الأولى في تلك المجزرة، فقد قتل أولاً أماً وابنتها المراهقة بعد أن دخل شقتهما، في شكل طبيعي تماماً بحكم أنه اعتاد التردد على المكان لإعطاء البنت دروساً في اللغة الإنجليزية. سيقتل البنت أولاً، بعد أن يغتصبها، متعمداً تشويه جثتها، ثم سيعود إلى الأم التي كان قد أفقدها وعيها بلكمات عدة، فيما كانت ترحب به في صالة الشقة، فيعذبها كما عذب ابنتها قبل أن يجهز عليها. اغتسل ليزيل بقع الدم التي لطّخت يديه ووجهه، وخلع بدلته الملوثة بالدم، ثم ارتدى بدلة تخص رب الأسرة الغائب. عاد إلى شقته ليوجه إلى أمه التي لاحظت أنه يرتدي ملابس ليست له، كلمات نابية قبل أن يقتلها بعيار ناري ويسكب على جسدها النفط ويشعل فيه النار، ويخرج قاصداً شقتين في المبنى نفسه ليقتل من فيهما، ثم يقتل كل من يعترض طريقه، وفي الختام يتوجه إلى مطعم، وفي نيته أن يتناول فيه عشاءه الأخير. وبعد أن أكل وشرب ما لذ له وطاب، راح يطلق النار في شكل عشوائي على زبائن المكان، وقبل أن تتمكن الشرطة التي اقتحمت المكان من توقيفه، يطلق على رأسه عياراً نارياً يرديه قتيلاً في الحال.

قتل وتعذيب

هو جندي مرتزق سبق أن شارك في حرب فيتنام، وارتكب عمليات قتل وتعذيب بشعة، مما ترك في نفسه ندوباً غير قابلة لأن تندمل بمرور السنين. يؤجل ميندوزا ذكر تفاصيل المذبحة التي ارتكبها "كامبو إلياس" إلى الفصل الأخير من الرواية، فيضفي قدراً كبيراً من التشويق لدى القارئ الذي كان يعرف من الدعاية الخاصة بهذا العمل، أنه يقوم على واقعة حقيقية اهتزت لها بوغوتا من هول ما خلّفته من صدمة عنيفة ألمّت بكل من عايشها ونجا منها، وبمَن كان على صلة بالجاني وضحاياه على حد السواء، وبكل من بلغتْه تفاصيلها عبر وسائل الإعلام في حينه.

بين الضحايا، "ماريا" وهي فتاة اضطرت إلى العمل مع رجلين في استدراج الأثرياء وسرقتهم، لكنها توقفت عن ذلك وعزمت على طي تلك الصفحة لتبدأ من جديد بعد أن استدرجها شخصان واغتصباها في مكان موحش يقع على أطراف بوغوتا. أما "إرنستو" فهو قس أوشك على فقدان إيمانه، بعد أن شعر بالفشل في عمله عندما لم يتمكن من مساعدة شخص اعترف له أنه يريد قتل زوجته وابنتيه لأنه لا يجد عملاً يدر عليه دخلا يكفي لإطعامهن. ثم إنه قبل المجزرة استمع إلى اعتراف "كامبو إلياس" بأنه يجد في نفسه رغبة طاغية في ارتكاب جرائم قتل، ولم يتمكن كذلك من مساعدته بما هو أكثر من مجرد الاستماع إليه والدعاء له بالهداية. كما سيجد نفسه أخيراً في مواجهة فتاة تعتقد أمها أنها ممسوسة بقوى شيطانية طاغية، فترفض القيادة الكنسية الأعلى التدخل في الأمر بما أنه من اختصاص الطب النفسي وليس الكنيسة، فتقتل البنت أمها وخادمة كانت تساعدها في قضاء حاجاتها. يستقيل "إرنست" من عمله ولكن يُطلب منه مواصلة التواجد في كنيسته لحين قدوم من سيحل محله، لنجد أنها كان بين ضحايا مجزرة المطعم الذي تواجد فيه بالصدفة مع آخرين بينهم ابن شقيقه ويدعى "إندريس" وهو رسام يتمتع بموهبة خارقة تقلب حياته رأساً على عقب، إذ كان يتنبأ بكوارث ستلحق بمن يرسمهم وبينهم خطيبته التي أصيبت بالإيدز بعدما قطع علاقته بها. كل هؤلاء وغيرهم، يجدون أنفسهم متداخلين في حياة "كامبو" المهووس بمعضلة الخير والشر في نفوس البشر، والذي يقرر في لحظة أنه أفضل منهم جميعاً وعليه أن يقوم بدور المخلص ليطهر العالم، لكن على طريقته الخاصة.

إدراك الخلل

كان الأب "إرنستو" الذي قرر اعتزال العمل الكنسي، هو أكثر شخصيات الرواية إدراكا للواقع المأزوم بشدة، وللخلل الاجتماعي الذي كان البلد يعاني منه في تلك الحقبة الزمنية؛ بحكم ما يسمعه من اعترافات المذنبين، أو من يعتقدون أنهم مذنبون، وليس بينهم بالطبع أي من الأغنياء الذين عرف كثير منهم الثراء على حساب هؤلاء المتعبين. قال لكبير الأساقفة إنه يرغب في الزواج وإنجاب الأطفال وتكوين أسرة. كان على علاقة سرية مع خادمة في الكنيسة تدعى "إيريني"، قال لها: "سنرحل من هنا ونحصل على شقة ونتزوج، وننجب ثلاثة أطفال، وسنكون سعداء للغاية". أخبرها أنه وجد وظيفة في معهد للبحوث الاجتماعية براتب معقول.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قالت له إنها لم تشعر بسعادة أن يفعل شخصٌ شيئاً من أجلها ويعتقد أنها مهمة وتستحق ذلك. نظر إليها وهو على دراية بأنها تنتمي إلى ذلك البلد المقفر الذي يعيش على فطرته الأولى وحدسه ويحارب من دون دعم أو إعانة أو مساعدة أو تعليم وفي وسط بيئة مريضة تحرض الجميع ضد بعضهم البعض، بحسب ما بات مقتنعا به في النهاية... "بلد تخلت عنه الحكومة وتآكل بسبب الفوضى والفساد السياسي وينزلق أكثر فأكثر نحو هاوية الجوع والفقر" ص 277. بسبب الفقر لم تكمل "إيريني" دراستها الثانوية، مع أنها كانت متفوقة. لكنه لسبب غامض قال إنه سيذهب إلى بيت الفتاة التي يقول أهلها إنها ممسوسة، في محاولة أخيرة لإنقاذها، فقال له الجيران إن صوت الشيطان ينبعث من حجرتها كل ليلة، معلناً أنه سيقضي عليه، إن لم يتوقف عن محاولة مساعدتها. كان "إرنستو" مقتنعاً بأن قصة المس هذه ليست سوى "حماقة وبلاهة وغباء"، لكنها لم يجد مفراً من الاستسلام لعجزه عن تقديم أي عون سواء لتلك الفتاة أو لغيرها ممن يبوحون له بأسرارهم الدفينة وفق طقس كنسي عتيق.  

ولد الكاتب الكولومبي ماريو ميندوزا في بوغوتا عام 1964. بعد تخصصه في الأدب الإسباني الأميركي، عمل في التدريس، ثم قرر أن يبدأ مسيرته الأدبية في عام 1980 بالجمع بين الكتابة وتعليم الأدب والعمل الإعلامي. نشرت روايته الأولى "مدينة العتبات" في عام 1992. أما روايته "الشيطان" Satanás فتحولت إلى فيلم بالعنوان نفسه عام 2007 من إخراج آندي بايز.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة