Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحرب السودانية تباعد بين الضحايا وحلم "العدالة الانتقالية"

"تحقيقها في ظل القتال وعدم وجود مؤسسات دولة وتشريعات تقنّن لها وعدم وجود آليات لتحقيق ذلك يظل ضرباً من الحديث المرسل"

منذ اندلاع الانتفاضة السودانية كان مفهوم العدالة الانتقالية شاغلاً بال السودانيين وتفكيرهم (اندبندنت عربية - حسن حامد)

ملخص

ما بين النظام السابق وحكومة الفترة الانتقالية، سجل كثير من انتهاكات حقوق الإنسان ضد السودانيين

منذ اندلاع الانتفاضة السودانية، في ديسمبر (كانون الأول) 2018، كان مفهوم العدالة الانتقالية شاغلاً بال السودانيين وتفكيرهم، خصوصاً من اكتوى منهم بنار الحرب الأهلية في جنوب السودان وحرب دارفور، ومن طاوله القمع والملاحقة في فترة النظام السابق الذي امتد ثلاثة عقود، لا سيما في فترات الاحتجاجات التي كان يتم قمعها باستمرار، وأصبحت المطالبة بتحقيق العدالة محاطة بكثير من العقبات ابتداء من حاجة السودان إلى نظام تشريعي، لأن الدستور المعمول به حتى بعد إسقاط النظام هو بالأساس مستقى من دستور عام 2005، ومع أن هناك محاولات ظهرت في تعديل الدستور مرات عدة، ثم التجديد بصياغة "الوثيقة الدستورية" كاتفاق بين المجلس العسكري والمدنيين يمثلهم "ائتلاف قوى إعلان الحرية والتغيير، في أغسطس (آب) 2019، لكن مختصين قالوا إنها تشوبها ثقوب كثيرة، ولذلك كانت من أكثر الوثائق التي اختُلف حولها. وبعد انقلاب رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبدالفتاح البرهان على الوثيقة، في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، أصبح السودان يعيش حالة فراغ دستوري مستمرة حتى الآن.

 

وخلقت الحرب التي تدور، منذ أبريل (نيسان) الماضي، تحديات أخرى في سبيل تحقيق العدالة الانتقالية، بل وضعت الدولة في امتحان صعب في ما يتعلق بحقوق الإنسان، كل ذلك فاقم حالة الاحتقان والغبن الاجتماعي، وأدى إلى حالات استقطاب سياسي، وزيادة القضايا المعلقة تعقيداً كل ما زاد طول المدة التي يجب الوفاء فيها باستحقاقات المظلومين ومعالجة ماضي الانتهاكات.

ما بين النظام السابق وحكومة الفترة الانتقالية، سجل كثير من انتهاكات حقوق الإنسان ضد السودانيين، في ظل الحروب، وأثناء الاحتجاجات المتفرقة خلال العقد الماضي لإسقاط النظام السابق، وبعد أن تحقق ذلك في أبريل 2019، وضريبتها كانت ضحايا وجرحى ومفقودين وحالات اختفاء قسري في أحداث القيادة العامة للقوات المسلحة، واستمر العنف السياسي إلى أن انتهى إلى الحرب.

عنف ممنهج

لدى توقيع اتفاقية السلام "نيفاشا"، عام 2005، كان المجتمع الدولي والإقليمي الذي رعى الاتفاق، لا يركز على حجم الضرر الذي يمكن إصلاحه بسبب ضخامته، ولكن انصبّ التركيز على تحقيق سلام من دون أساس عدلي، ما أفضى إلى انفصال الجنوب، وحرمت هذه النتيجة الضحايا من إجراء تحقيقات في ما بعد بخصوص الانتهاكات المرتكبة.

 

وذكر المنسق السابق لبرنامج جنيف لحقوق الإنسان رفعت الميرغني في دراسة بهذا الخصوص "لم تتطرق اتفاقية السلام إلى الانتهاكات الجسيمة التي وقعت خلال عقود من الزمن، واستمرت فيها الحرب بوحشية لا هوادة فيها تسببت في مقتل ما يزيد على مليوني شخص وتشريد ما يزيد على أربعة ملايين شخص. وفي حرق وإتلاف ممتلكات عشرات الآلاف من المواطنين، فضلاً عن آلاف لا يزالون مجهولي المصير على إثر تعرضهم للاختفاء القسري، وغيرهم آلاف تعرضوا لانتهاكات جسيمة من قبيل الاغتصاب والتعذيب والانتقام الجماعي من قبل القوات المتصارعة، كل هؤلاء لم تنظر إليهم اتفاقية سلام نيفاشا ولم تعرهم اهتماماً".

أضاف الميرغني "كما أن السلطة الحاكمة آنذاك قابلت احتجاج أهل دارفور، على خلفية مطالب مشروعة تمثلت في رفع التهميش والتوزيع العادل للثروة والسلطة وحقهم في التنمية بعنف ممنهج، فقُصفت المناطق المأهولة بالسكان بقنابل تقليدية عشوائية"، ونوّه إلى أنه "تم تجييش القبائل العربية ضد القبائل الأفريقية بصورة أسهمت في هتك النسيج الاجتماعي السوداني، ومورست عمليات تعذيب وانتقام جماعي في مواجهة قبائل بعينها، فضلاً عن عمليات الاغتصاب واسعة النطاق، وحُرقت قرى بأكملها وشُرّد سكانها داخل وخارج السودان، الأمر الذي خلق مأساة إنسانية، كذلك مارست قوات الأمن عمليات إخفاء قسري بحق العديد من ناشطي وناشطات الإقليم". وتابع أن "قوات النظام السابق مارست تهجيراً قسرياً بحق مواطنين ينتمون عرقياً لقبائل المساليت والزغاوة والفور، ووضعت سكان المناطق التي تقيم بها هذه القبائل في ظروف معيشية قاسية مع حرمانهم من الوصول إلى المواد الضرورية لبقائهم على قيد الحياة".

جبر الضرر

وفي الوقت الذي كانت تتسارع خطى المجتمع المدني أملاً في لفت نظر المجتمع الدولي لتحقيق العدالة الانتقالية، اشتعلت الحرب، وتطلبت مجهوداً مضاعفاً لتحقيق العدالة مع السلام وإنهائها والإعلان عن قرب الوصول إلى تسويات وتفاهمات سياسية بين الأطراف المتحاربة، بعد أكثر من خمسة أشهر من الحرب، وقال المحامي السموأل إبراهيم الدسوقي "العدالة الانتقالية في جوهرها لا تسعى إلى العقاب وإنما إلى تحديد المسؤوليات وجبر الضرر، كما أنها تتمحور في كيفية تجديد الثقة بين المواطن والدولة"، مضيفاً "كما تعدّ العدالة الانتقالية خريطة طريق للوصول لسلام دائم قد يستلزم تنفيذها واتباعها سنوات طويلة، ويمكن في ظل الحرب أخذ سلسلة إجراءات لتحقيقها مثل رصد الانتهاكات وتحديد المسؤولين عبر جهات قضائية أو غير قضائية، إذ سيدرك المسؤولون أن انتهاكاتهم يتم رصدها وسوف تعرضهم للمساءلة القانونية سواء على المستوى المحلي أو الاقليمي أو الدولي"، وتابع "تتميز العدالة الانتقالية بخصائص مهمة إذ تستند إلى مقاربة شمولية ومتكاملة في معالجة إرث الانتهاكات الجسيمة، ولا تقف فقط عند حد التقصي في الجرائم وتحديد المسؤولين ومعاقبتهم، بل تعمل أيضاً على جبر الضرر ورد الاعتبار للضحايا وإنصافهم، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بعدم تكرار الانتهاكات، وتعزيز السلم والأمن والديمقراطية، ويمكن وضع خطة لجبر الضرر، ما يجنّب الجميع من الرضوخ لنزعة الانتقام إذا فقد المواطن الأمل في استرداد حقوقه المنتهكة، ما يقود إلى حرب لا نهائية حيث تكون الانتماءات محلية وليست انتماءات للوطن".

الإفلات من العقاب

ولأن السودان من البلدان التي عرفت انتهاكات جسيمة في حقوق الإنسان خلال تاريخه القديم والحديث، فإن اللجوء للعدالة الانتقالية يتطلب معالجة ما جرى في فترات من الماضي بالتوازي مع مواجهة تحديات الحاضر والتي على علاقة وثيقة بضرورة إرساء الاستقرار ودولة القانون، ونظراً لتدهور الوضع الحالي، وهشاشة الفترة الانتقالية التي يتوقع العودة إليها بعد توقف الحرب، إذا لم يتم التوافق على الشروع في إجراء انتخابات وصولاً إلى حكم مدني، فإن ذلك يستلزم تحديد الأولويات لتحقيق الانتقال الديمقراطي مع معالجة إرث الماضي وضغوط الحاضر مع ضمان السلم والأمن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وذكر عضو اللجنة القانونية لـ"قوى إعلان الحرية والتغيير" عمر سيد أحمد أن "تحقيق العدالة الانتقالية في ظل الحرب وعدم وجود مؤسسات دولة، وتشريعات تقنّن لها، وعدم وجود آليات لتحقيق ذلك، يظل ضرباً من الحديث المرسل، كما أنه يعدّ أحد المطالب الأساسية من برنامج (الثورة)، وهذا المطلب ترسّخ وازداد بعد تداعيات الحرب وأكدته الانتهاكات التي طاولت حقوق الإنسان السوداني"، وبيّن عضو اللجنة القانونية أن "أي شكل يطرح للتعامل معه خلال هذه الحرب يعنى التأكيد على الإفلات من العقاب، إذ إن الإجراءات التي تتطلبها العدالة الانتقالية تكون منقوصة، إضافة للإجابة على السؤال المحوري، وهو، مَن الذى سيطبقها ويقوم بإنزالها على أرض الواقع، ففي كثير من الأحيان، وبحسب التجارب السابقة، فهي تنبئ بخروج مرتكبي الانتهاكات، كما حدث، في حرب الجنوب ودارفور من دائرة الاتهام الأولية، لم يُقبض عليهم أو تتم محاكمتهم، وإن ذلك سيجرّ إلى ارتكاب مزيد من الجرائم خصوصاً إذا لم يتم إخماد الحرب".

"لجان الحقيقة"

وأكد عضو لجان المقاومة بالخرطوم مجدي سنهوري أن "لجان المقاومة تسعى إلى التقصي عن ضحايا انتهاكات الحرب لأخذ شهادات الأحياء منهم بغرض الكشف عن الحقيقة بجمعها وتوثيقها وعرضها على المهتمين، إذ إنه، إضافة إلى دور الصحافة والإعلام، هناك دور ثقافي يمكن أن ينتج من هذه المآسي أعمالاً هادفة"، وكشف سنهوري عن عزم لجان المقاومة على تأسيس "لجان الحقيقة" بسلطة محددة يكفلها القانون، ودعا إلى الإسهام في دعمها وتوسعتها حتى تستطيع القيام بمهامها، ولكنه أكد أيضاً أن "ظروف الحرب، إضافة إلى أنها تزيد حجم الانتهاكات، فإنها تعيق عمل هذه اللجان وغيرها من الآليات لتحقيق العدالة". وتابع أن "هناك مطالبة مستمرة بالتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في السودان، منذ عام 2003، وزادت عليها فظائع الحرب الحالية، ولكن ما ينقص هذا المشروع هو عملية التوثيق غير المنظمة، إذ إن جلّ ما تم الحصول عليها من شهادات تتم بطريقة عشوائية ومن دون أي إشراف من جهة رسمية أو عدلية أو حقوقية، ما يطعن في موثوقيتها وقوتها أمام المحكمة". وتابع عضو لجان المقاومة "مع عدم الاستقرار وانعدام سلطة حكومية فعالة، انعدم أيضاً نشاط النظام القضائي، كما أنه ليست هناك إجراءات فعالة من قبل المجتمع الدولي للاستجابة لإيقاف الحرب، والدور يقع على عاتق بعض منظمات المجتمع المدني التي تعمل في ظروف قاسية، كما أن أعداداً كبيرة من لجان المقاومة رفضت الخروج من الخرطوم".

وعلى رغم التحديات التي تحول دون الوصول إلى عدالة سريعة، ثم فقدان الأمل في الإنصاف نتيجة طول مدة التقاضي نسبة لانتظار الوصول إلى وضع تشريعي يضمن تحقيق العدالة، فإنه لا بدّ من الشروع في الآليات الأولية مثل شهادات الضحايا أو الشهود، ومع جسامة التحديات التي تواجه تفعيل مبدأ المحاسبة في ظروف الحرب، إلا أن هذا لا يعني تأجيل العدالة بانتظار تحقق السلام، بل ينبغي مواصلة إدراجها ضمن استراتيجية حصر الانتهاكات، حتى إذا توقفت الحرب يصبح الإصلاح المؤسساتي المعزز للانتقال هو ما يكفل تحقيق العدالة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل