ملخص
بالتزامن مع العرض الأول للفيلم القصير "القصة الرائعة لـهنري شوغر" للمخرج ويس أندرسون الذي يجسد فيه رالف فاينز دور الكاتب البريطاني المحبوب راولد دال، نغوص في جوانب المؤلف المظلمة، ونكشف عن أسباب استمرار صناع الأفلام في الانجذاب لقصصه التي لا يمكن محوها من الذاكرة.
قبل بضعة أسابيع، دان الموقع الإلكتروني للمتحف الخاص براولد دال الكاتب نفسه بسبب العنصرية "التي لا يمكن إنكارها أو محوها من الذاكرة" و"تصريحاته المعادية للسامية". وفي فبراير (شباط) الماضي، تم العبث بقصصه عبر إزالة اللغة المسيئة منها. لو كان هو ذاته شخصية في إحدى قصص الأطفال التي ألفها، يمكنكم تخيل كيف كان سيتم تصويره: رجل عجوز غاضب ذو مزاج سيئ ورائحة فم كريهة، ينمو الشعر الكثيف من منخريه، وتكسو بقع حمراء كبيرة قدميه. لربما اكتسب رسام صور القصص كوينتين بليك شهرته من ورائه.
عندما يوصم الكتاب بفضيحة، بالطريقة التي تعرض لها دال خلال الأشهر الأخيرة، فإنهم غالباً ما يصبحون موضع ازدراء على الفور، وتستبعد أسماؤهم من الأوساط الثقافية. لكن ما حدث مع دال كان العكس، على كل حال، فببساطة لا يمكن لهوليوود حالياً أن تشبع نهمها تجاه أعمال مؤلف قصص "الساحرات" The Witches و"العملاق الودود الضخم" The BFG و"تشارلي ومصنع الشوكولاتة" Charlie and the Chocolate Factory. بعد نحو 33 عاماً على رحيله عن عمر 74 سنة في 1990، يحظى الكاتب الأكثر مبيعاً بشعبية أوسع من أي وقت مضى وسط صناع الأفلام.
يستضيف مهرجان البندقية السينمائي لاحقاً هذا الشهر العرض العالمي الأول للفيلم القصير "القصة الرائعة لـهنري شوغر" The Wonderful Story of Henry Sugar، المدعوم من "نتفليكس" للمخرج ويس أندرسون الذي يجسد فيه رالف فاينز دور دال، ويلعب فيه بينديكت كومبرباتش دور هنري، وهو مقامر ثري يمتلك قوى سحرية تمكنه من الرؤية من دون استخدام عينيه والقدرة على استشراف المستقبل.
يأتي الفيلم الجديد بعد "ماتيلدا: فيلم غنائي" Matilda the Musical العام الماضي، وهو عمل سينمائي آخر مقتبس من قصة لـدال، اشتهر بأداء إيما تومسون العبقري لشخصية مديرة المدرسة المرعبة "الآنسة ترانشبول".
عجت صحف المملكة المتحدة خلال الأسابيع الأخيرة بقصص عن قيام هيو غرانت بدور الراقص وعازف الناي "أومبا" لومبا، وهو أحد الأبطال صغار الحجم في الفيلم الجديد الضخم (من المقرر أن ينتهى إنتاجه مع موسم أعياد الميلاد المقبل) ""وونكا" Wonka لـبول كينغ مخرج فيلم "بادينغتون" Paddington. تعرض غرانت لانتقاد لاذع لتجسيده دور "قزم"، لكن ذلك لم يكبح جماح الآمال المعلقة على الفيلم المتوقع أن يحقق أرباحاً توازي مستويات فيلمي "باربي" Barbie و"أوبنهايمر" Oppenheimer في شباك التذاكر البريطاني الذي يمر بأوقات عصيبة. يلعب الممثل المحبوب تيموثي شالاميت دور البطولة في شخصية "ويلي وونكا" التي يمكن القول إنها أكثر شخصيات دال شهرة، ويقدَّم هنا كرجل أعمال شاب ماكر ومراوغ يعيش أحلام اليقظة، ولديه طموح شغوف بأن يفتتح محلاً لبيع الشوكولاتة.
لطالما انجذبت الأسماء الكبيرة في عالم الإخراج إلى أعمال دال. من بين عمالقة المخرجين الذين صنعوا أفلاماً أو دراما تلفزيونية مبنية على قصص دال: ألفريد هيتشكوك وتيم بيرتون ونيكولاس روغ وستيفين سبيلبرغ وويندي توي وداني دي فيتو وكوينتين تارانتينو وماثيو وركس وروبرت زيميكيس.
دفعت "نتفليكس" عام 2021 مبلغاً طائلاً للحصول على حقوق أعمال دال الكاملة، وأعلنت عن خطط لأفلام ومسلسلات تلفزيونية وعروض مسرحية عدة، مما يثبت أن الزوبعة المثارة أخيراً حول وجهات نظر دال السياسية لم تتمكن من إيقاف تدفق المشاريع الجديدة المخطط لها المستوحاة من قصصه.
كانت إحدى مقولات دال الشهيرة: "الوالدان والمعلمون هم الأعداء". يحب الأطفال الفكاهة والقسوة الفوضوية وشطحات أدبه الخيالي. ينجذب البالغون إلى ظلامية أعماله وقوتها التخريبية الخفية، ولا يبدو أن أحداً، حتى وقت قريب، يتحدث عن تلك اللحظات التي زل بها الكاتب وتفوه بأشياء ما كان عليه قولها ببساطة.
اعترف دال ذات مرة: "أُطلق العنان لمخيلتي أبعد مما يجرؤ عليه كثير من الناس"، ملمحاً إلى السبب الذي يحدو به دائماً إلى تجاوز حدود الذوق والأدب والصواب السياسي.
ليس من السهل دائماً استيعاب أفكار دال في فيلم سينمائي. ولهذا لم تكن بعض الأفلام المقتبسة من أعماله مرضية حقاً. بعضها كان مشوهاً إلى حد الانحراف، بينما كان البعض الآخر إما مغرقاً في الغرائبية أو فاقداً للهوية بشكل محبط.
كان فيلم الإثارة "36 ساعة" 36 Hours (الصادر عام 1965) أول فيلم روائي مقتبس من قصص دال، وتدور أحداثه حول محاولات النازيين خداع ضابط في الجيش الأميركي (يجسده جيمس غارنر) لإفشاء تفاصيل سرية عن إنزال النورماندي. يغسل الألمان دماغ الضابط المُستهدَف ويحاولون إقناعه بأنه ضحية لفقدان الذاكرة. يخبرونه أن الزمن الآن هو عام 1950 وليس 1944 وأن الحرب انتهت منذ وقت طويل. يصرح الإعلان الترويجي للفيلم بأنه: "أكثر حبكات المغامرات الجاسوسية غرابة التي يمكن تخيلها على الإطلاق".
كشف دونالد ستاروك في كتابه "القاص" Storyteller، الصادر عام 2010 الذي يتناول سيرة دال الذاتية، عن أن شركة "مترو غولدوين ماير" حاولت في البداية إخفاء حقيقة أن الفيلم مبني على قصة دال "حذار من الكلب" Beware of the Dog. هدد وكيل أعمال دال بملاحقة الشركة قضائياً وحصل الكاتب في نهاية المطاف على مبلغ 30 ألف دولار أميركي وتم ذكر اسمه في اعتمادات الفيلم.
كان ذلك بعد فترة طويلة من محاولة الكاتب الأولى اقتحام عالم السينما قبل هذا بـ20 عاماً، حيث تعاون مع "والت ديزني" في اقتباس متفق عليه من قصته الصادرة عام 1941 "غريملين لور" Gremlin Lore التي كتبها دال وهو طيار حربي سابق، عندما كان ملحقاً عسكرياً في السفارة البريطانية في واشنطن. تروي القصة حكاية مخلوقات صغيرة ذات قرون تلحق الأذى باستمرار بمنشورات سلاح الجو الملكي البريطاني وآلياته.
عندما استدعته ديزني، منح دال الذي كان حينها في سن الـ26 إجازة من عمله في واشنطن لثلاثة أسابيع، و"نقل على عجل" إلى كاليفورنيا ووضع في جناح فاره في فندق بيفرلي هيلز، ودُعي إلى العمل يومياً في استوديوهات ديزني في بيربانك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يتم على الإطلاق إنجاز الفيلم الذي كان من المفترض أن يجمع بين التمثيل الحقيقي والرسوم المتحركة، لكن كتاباً نُشر عام 1943 يحوي رسوماً مصورة نفذها كبار رسامي ديزني. قال دال لبرنامج "ديزرت آيلاند ديسكس" على "بي بي سي" عام 1979: "لم يتحقق الفيلم إلى حد بعيد، أنفقوا عليه، لا أدري، نحو مليون دولار، ثم ألغوه". ومع ذلك، ساعدته تلك التجربة المبكرة مع هوليوود في اتخاذ طريقه ككاتب.
من الغرابة بمكان أن ينجذب كل من ديزني وألفريد هيتشكوك بشدة إلى أعمال دال في بداية مسيرته المهنية. إنه الروائي الوحيد الذي يقفز بأريحية بين عالمين مختلفين جداً، النور والظلمة اللذين سيطر عليهما هذان الاسمان الكبيران في الثقافة الشعبية في القرن الـ20.
في دراما هيتشكوك التلفزيونية "حمل للذبح" Lamb to the Slaughter (1958)، المقتبسة من قصة دال المنشورة عام 1953، تقتل زوجة غيورة (تلعب دورها باربرا بيل غيديس) زوجها بواسطة ساق حمل. حينما يخبرها أنه يخطط لهجرها، تخرج اللحم المجمد من الثلاجة، وتهوي على رأسه بضربة قاتلة. تطهو الحمل، وتطعمه بعدها لرجال الشرطة الذين يمشطون منزلها بحثاً عن سلاح الجريمة. يتناولون اللحم الطري، غير مدركين أنهم يأكلون الدليل.
كانت تلك الدراما إحدى الأعمال الكثيرة التي اقتبسها هيتشكوك من قصص دال في المسلسل التلفزيوني "ألفريد هيتشكوك يقدّم"Alfred Hitchcock Presents. كانت مدة الحلقة أقل من نصف ساعة لكنها احتوت على جميع عناصر أفضل الأعمال المقتبسة من قصص دال: الحبكة العبقرية والكوميديا، مع لمسة خفية من العنف والغيرة الجنسية، وبعض التشخيص الحي للغاية.
على كل حال، الغريب في الأمر أنه، وكما حدث في فيلم "36 ساعة"، لم يُعزَ كثير من الفضل إلى الكاتب. كان هذا عملاً منسوباً لهيتشكوك. قدم الحلقات، وظهر في الختام ليعطي انطباعاً حاسماً بأنه هو المبدع العبقري الذي يقف وراء العمل.
تكرر أمر مشابه عندما عهد كابي بروكلي لـدال بكتابة سيناريو فيلم مغامرات جيمس بوند "أنت تعيش مرتين فقط" You Only Live Twice (الصادر عام 1967). لم ينظر أحد إلى العمل على أنه فيلم لـرولد دال. وُجد هناك ببساطة لخدمة العلامة التجارية لـ"بوند". كتب لاحقاً قصة هزلية حول تجربته في صناعة الفيلم لمجلة "بلاي بوي"، حلل من خلالها صيغة "العميل 007".
قال: "أخبروني أنه ’بإمكاني ابتكار أي شيء يحلو لي مع تكشف أحداث القصة... لكن هناك شيئان لا يجب المساس بهما. الأول هو شخصية بوند، فهذا أمر ثابت. والثاني صيغة الفتاة [المرافقة لـبوند]، وهو أمر ثابت كذلك‘".
طُلب من الكاتب أن يضمّن "ثلاث فتيات مختلفات" في القصة. الأولى ينبغي أن تكون مؤيدة لـبوند، ويجب أن يقضي عليها الأعداء في بداية الفيلم. الثانية يجب أن تكون معادية لـبوند. "يجب أن تلقي القبض على بوند، وهو عليه أن يخلّص نفسه من خلال الاستحواذ عليها بجاذبية جنسية محضة. ينبغي أن يُقضى على هذه الفتاة أيضاً. يفضل أن يتم ذلك بطريقة أصلية". الثالثة يجب أن تكون "داعمة لـبوند بعنف"، لكن من غير المسموح أن يُقدِم "على أي إيحاءات فاسقة" تجاهها حتى الجزء الأخير من الفيلم.
كان فيلم "أنت تعيش مرتين فقط" إلى حد بعيد التجربة الأكثر متعة التي عاشها دال في السينما. قال لمقدم البرامج في "بي بي سي" روي بلوملي: "كان ذلك الأمر الوحيد الذي استمتعت به حقاً". كان الطيران بواسطة طائرة مروحية في اليابان، ومشاهدة شون كونري يستعرض قدراته أمراً مختلفاً جداً عن تجاربه التعيسة في فيلم "تشيتي تشيتي بانغ بانغ" Chitty Chitty Bang Bang (1968) والذي أنتجه بروكلي أيضاً وشارك دال في كتابته، أو فيلم "ويلي وونكا ومصنع الشوكولاتة" Willy Wonka & the Chocolate Factory (صدر عام 1971 وهو من بطولة جين وايلدر بدور وونكا). كشف دال لاحقاً: "أنا لا أحب المخرجين السينمائيين، دعونا نعبر عن الأمر بهذه الطريقة ببساطة".
هذه إحدى المفارقات المتعلقة بالكاتب. فقد كان متزوجاً من النجمة السينمائية باتريشا نيل (الحائزة على جائزة أوسكار أفضل ممثلة عن دورها في فيلم "هود" Hud عام 1963)، وتزاحم منتجو الأفلام على أعماله بمجرد شروعه في كتابتها – ومع ذلك لا يبدو مهتماً كثيراً بالسينما. تحدث كاتب سيرته الذاتية دونالد ستاروك عن كيف كان دال يشعر "بالملل" عند متابعة هيتشكوك وهو يصور إحدى قصصه، وادعى أن دال "فكر في العمل في السينما والتلفزيون عند حاجته للمال فحسب".
ما زاد الطينة بلة هو أن أفلامه كانت في الغالب توقعه في المشكلات على ما يبدو. كشف ستاروك عن أن دال حصل على مبلغ كبير وصل إلى 300 ألف دولار أميركي مقابل كتابة سيناريو فيلم "ويلي وونكا ومصنع الشوكولاتة"، لكنه شعر بالهلع عندما اعتبرت الجمعية الوطنية الأميركية لتقدُّم الأشخاص الملونين أن الرواية الأصلية عنصرية بسبب عمال الـ "أومبا لومبا" في المصنع. كانوا في النسخة الأولى من الكتاب أقزاماً سوداً، لكن مع حلول وقت وصولهم إلى شاشة السينما في الفيلم الصادر عام 1971 تحلوا ببشرة برتقالية وشعر أخضر. شعر دال بالعجز. لم يحب التغييرات التي طرأت على نصه أو حقيقة أن المنتجين اختاروا وايلدر لدور البطولة بينما كان يرغب في اختيار إما بيتر سيلرز أو سبايك ميليغان.
منذ ذلك الحين فصاعداً، اقتبست كل أنواع الأعمال من قصص دال. أخرج تارانتينو فيلم "رجل من هوليوود" The Man from Hollywood المبني على قصة دال "رجل من الجنوب" Man from the South، كجزء من الفيلم المكون من قصص مختلفة "أربع غرف" Four Rooms الصادر عام 1995. لعب جيريمي آيرنز دور البطولة في النسخة السينمائية الخفيفة من قصة "داني، بطل العالم" Danny, Champion of the World (1999)، وهناك الاقتباس الفني المبتذل والممتع وغريب الأطوار للمخرج تيم بيرتون لقصة "تشارلي ومصنع الشوكولاتة" Charlie and the Chocolate Factory (2005) من بطولة جوني ديب، ونسخة المخرج داني دي فيتو التي لقيت استحساناً من قصة "ماتيلدا" Matilda (1996)، وفيلم الرسوم المتحركة لـويس أندرسون المذهل بأناقة، "السيد ثعلب الرائع" Fantastic Mr. Fox (2009)، وفيلم المخرج هنري سيليك "جيمس والدراقة العملاقة" James and The Giant Peach (1996) الذي جمع بين التمثيل الحقيقي والرسوم المتحركة، ونسختان مقتبستان من "الساحرات"، الأولى أخرجها روغ عام 1990، والثانية لزيميكيس عام 2020، وفيلم سبيلبيرغ اللطيف لكن عديم النكهة بشكل يبعث على الدهشة "العملاق الودود الضخم" عام 2016.
تحظى كل تلك الأفلام بمعجبين، لكن لم يتحول أي منها إلى فيلم من كلاسيكيات السينما. ينجذب صناع الأفلام إلى دال لأنه كان كاتباً غريب الأطوار ومتوحشاً – لكن هذا بالضبط ما يجعل الاقتباس من أعماله صعباً للغاية.
وفقاً للموقع الخاص بالكاتب، فإن نسخة جديدة من كتب دال تباع كل ثانيتين ونصف. لم تضعف تعليقاته المعادية للسامية شغف المشترين ولم تؤد إلى ابتعاد صناع الأفلام. كان "ماتيلدا: فيلم غنائي" أحد الأفلام الجديدة الأكثر مشاهدة على منصة "نتفليكس" خلال الأسابيع الأخيرة، وترى المنصات ودور العرض أن فيلم "وونكا" من بطولة تيموثي شالاميت من المحتمل أن يكون أحد أكثر الأفلام نجاحاً خلال هذا العام.
أسرّ دال لـبلوملي في برنامج "ديزرت آيلاند ديسكس": "هناك أشياء تحدث للأفلام... لذلك من الأفضل بكثير أن تكون كاتباً عادياً وتلتزم بكتابة الكتب والقصص – ولا يمكن لأحد أن يتلاعب بها، أليس كذلك؟".
لكن المخرجين لا يدعونه وشأنه ببساطة – وكلما سلطوا ضوءاً أشد سطوعاً على أعماله كلما بدت أقل روعة في معظم الأحيان.
يُعرض فيلم "القصة الرائعة لـهنري شوغر" في منافسات مهرجان البندقية السينمائي بين الـ 30 من أغسطس (آب) الجاري والتاسع من سبتمبر (أيلول)، فيما سيصدر فيلم "وونكا" في الـ 15 من ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
© The Independent