Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غذاء الأطفال بين الرضاعة الطبيعية وهيمنة الحليب المصنع

تقوم منظمة الصحة العالمية بتحرك مضاد بعد حملات التسويق المضللة لشركات هدفها التأثير في الأمهات المرضعات

هل تكون الكلمة العليا للحليب المصنع على حساب الإرضاع الطبيعي (بكسلز)

ملخص

مؤشرات الحليب المصنع صعوداً وهبوطاً في علاقة طردية مع الرضاعة الطبيعية، فما الأفضل والأبقى؟

"في أوائل التسعينيات كنت مع أبي في منطقة من محافظة البقاع اللبنانية حيث كان يمتلك مع عمي مشروعاً زراعياً، واتفقا مع عدد من رفقائهما على تناول الغداء على ضفة نهر العاصي. كان بين الحضور سيدة وعلى يدها طفل. بعد نحو الساعة، رأيت السيدة تخرج ثديها بكل بساطة لإرضاع الصغير من دون الاكتراث إلى جمع الرجال كأنها في كوكب وحدها مع رضيعها. قلت يومها لأبي "ألا تخجل هذه المرأة، ولماذا لم تخف ثديها بقطعة قماش في حضور الرجال"؟ رد يومها "هذه المرأة تقوم بأعظم وأرقى دور في الوجود وهو تغذية الحياة. ومن ينظر إليها من الرجال بشهوة فهو بلا أخلاق. وليست هي".

يوم كتبت هذا المنشور على "فيسبوك" عام 2018 بعد رحيل أبي لتدوين بعض من مواقفه، لم يكن يخطر ببالي أنني سأكلف بكتابة موضوع عن الرضاعة الطبيعية بمناسبة أسبوع الرضاعة العالمي من أول أغسطس (آب) حتى السابع منه.

للوهلة الأولى مر شريط لأثداء مكشوفة وأخرى مغطاة، وأفواه أطفال تلتهم منها الحياة، بنهم حيناً وبملل ولهو حيناً آخر، ثم طغى على المشهد آلاف زجاجات الحليب البديل، ليتلاشى أمام صخب الإطعام في حيز جسدي متلاصق، حيث الأم هي نبع الحياة، ليتحول إلى زجاجة ترج لمزج بودرة الحليب البديل.

 

وفي حين أنتجت بعض الشركات ما يشبه الثدي الصناعي يستطيع الأب أيضاً استخدامه بغياب الأم، للإبقاء على نمط طبيعي في حركة جسم الطفل، وطريقة استلقائه، إلا أن الزجاجات الطبية لإطعام الأطفال هي الأكثر انتشاراً. وهي لا تشكل حرجاً للأم التي تحاول أن تجد زاوية بعيدة عن تحديق الناس واستهجانهم أحياناً وهي ترضع وليدها، حتى لو غطت ثديها بما تيسر من قماش.

في تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية في أبريل (نيسان) عام 2022 وجد أن الشركات المصنعة لحليب الأطفال الرضع تدفع أموالاً لمنصات التواصل الاجتماعي والمؤثرين للوصول إلى الحوامل والمرضعات للتأثير في قرارهن في الرضاعة الطبيعية. ويظهر التقرير الذي اعتبر ما تقوم به دوائر صناعة الحليب التي تقدر بنحو 55 مليار دولار أميركي تسويقاً استغلالياً، واستهدافاً للوالدين على نحو ماكر ومتواصل عبر شبكة الإنترنت، وتسويقاً لمعلومات مضللة لأهداف تجارية.

ومن المتوقع أن يصل حجم سوق حليب الأطفال إلى 125.2 مليار دولار أميركي بحلول عام 2030 أي بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ نحو 8.75 في المئة من عام 2022 إلى عام 2030 بحسب أبحاث Precedence Research.

ويمكن العودة إلى عدد من المواضيع والتقارير التي تظهر أهمية الإرضاع الطبيعي جسدياً ونفسياً، وطرق لاستدرار الحليب، وتقنيات وأساليب، تجعل الرضاعة الطبيعة رحلة لا تنسى. إلا أننا سنتحدث هنا عن الرضاعة كتجربة طبيعية رافقت الخلق منذ ملايين السنين، ومرت في العصور البشرية بصعود وهبوط وانتكاسات لأسباب عديدة. وقد شهد عام 1990 إعلان إينوتشنتي (مركز أبحاث متخصص تابع لليونيسف) تخصيص أسبوع عالمي بدل يوم للرضاعة الطبيعية في العالم.

المرضعات

كانت النساء في المجتمعات القديمة يعملن كمرضعات ليوفرن التغذية الطبيعية للأطفال الذين فقدوا أمهاتهم أو لديهن صعوبات في الإرضاع، وتطورت مهنة المرضعة على مراحل. وإذا أرضعت أم طفلاً غير طفلها، يسمى "أخ أو أخت في الرضاعة" بالنسبة لأولادها. وكان الأمر شائعاً قبل أن يصبح الحليب الصناعي المركب بمثابة المرضعة، ويصبح أكثر من نصف سكان العالم أخوة! وكان يعتقد أن للمرضعة عند الإغريق والرومان قدرة شفائية، ولها تقديرها. ومن أشهر المرضعات في التاريخ العربي سيدة تدعى حليمة السعدية، واشتهرت كونها أرضعت النبي محمد. وفي مجتمعات العصور الوسطى اعتبرت المرضعة جزءاً لا يتجزأ من المجتمع. ولها دور مهم في تربية الأطفال. وتوظف في بعض الأحيان لتربية الأطفال النبلاء أو لتوفير التغذية للأطفال الأيتام. بخاصة بعد تجارب باستخدام حليب الماشية للرضع، لم يكتب لها النجاح. في بعض القبائل الأفريقية في كوتونو تقوم بعض الأمهات بإرضاع أطفال القبيلة من دون أي تمييز. ولا بد لأي مولود جديد أن يحظى بمرضعات غير أمه التي ولدته.

الترويج التجاري

في العصر الحديث بدأت تسود بعض النظرات الاستعلائية والنمطية المتعلقة بالرضاعة الطبيعية، نتيجة عوامل وتحديات شهدها القرن 20 من تغيرات كبيرة في هياكل المجتمع والقيم الثقافية. أدت إلى تجاهل بعض الناس للممارسات التقليدية، بما في ذلك الرضاعة الطبيعية.

وجاء الترويج الشرس للحليب الصناعي الذي كرس الاعتقاد أنه البديل الأفضل للرضاعة الطبيعية، وربما أفضل منها ليزيد الطين بلة. ونشرت لاحقاً منظمة War On Want تقريراً عن أسرار صناعة الحليب وتسويقه للفقراء لإقناعهم بالعدول عن الرضاعة الطبيعة في تماه مع الأسلوب الحضاري وربط الوضع الاجتماعي للمرأة بالعمل وكسب المال بدل قضاء الوقت في الإرضاع.

 وأثرت قيود العمل والجدول الزمني المزدحم على قدرة الأمهات على الإرضاع الطبيعي بشكل كامل. إضافة إلى النظرة السلبية للرضاعة في الأماكن العامة في بعض الثقافات أو المجتمعات بسبب الخجل والإحراج.

اليوم، وفي تحرك مضاد تقوم منظمة الصحة العالمية، وجمعيات متخصصة بالتوعية حول الرضاعة الطبيعية وأهميتها بالنسبة إلى الأم والطفل، حتى إن بعض الممرضات أصبحن متخصصات في مجال الرضاعة والمساعدة في تقديم الدعم والإرشاد للأمهات لتحقيق تجربة رضاعة ناجحة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إلى العلن

قد يكون من أبرز من أرضع طفلاً بشكل علني في مكان عام هي الليدي ديانا التي كانت تعد من أشد المدافعات عن الرضاعة الطبيعية، فأرضعت الأميرين ويليام وهاري أكثر من مرة في مكان عام. وأعلنت كنتها ميغان مركل زوجة الأمير هاري أنها أرضعت طفلها آرتشي طبيعياً. ومثلها فعلت العارضتان جيجي وبيلا حديد، والممثلة كيت ونسلت.

في عام 2019 نشرت الفنانة اللبنانية نانسي عجرم صورة ترضع فيها ابنتها الثالثة "ليا"، وكتبت بالعربية والإنجليزية لتشجيع الأمهات "الرضاعة الطبيعية كانت دائماً من أجمل التجارب في حياتي، وبالنسبة إلي هي الطريقة الأقوى للتواصل مع "ليا". تجعلها تشعر بالأمان والحب والاهتمام. ليس هناك شيء طبيعي وصحيح أكثر مما خططت الطبيعة الأم لأن نقوم به".

وما لبثت أن أعادت منظمة اليونيسف في إيطاليا نشر الصورة على صفحتها على "إنستغرام" مع ترجمة للمنشور باللغة الإيطالية للتشجيع على الرضاعة الطبيعية من خلال تجربة نانسي التي تحمل لقب سفيرة النوايا الحسنة في لبنان.

تحت قبة البرلمان

تعاني الأم العاملة في البلدان التي تكون إجازة الأمومة فيها غير عادلة، فتلجأ إلى استخدام شفاطات يدوية أو كهربائية لسحب الحليب لطفلها. وفي بلدان أخرى قد تستطيع اصطحاب الطفل إلى مكان عملها، بخاصة في الشركات التي تخصص حضانات لأطفال الموظفين والموظفات، وبحيث تستطيع الأم إرضاع طفلها مرات عدة أثناء العمل. وقد تختار الأم اصطحاب طفلها إلى العمل وإرضاعه أمام زملائها وعدسات الكاميرات!

ففي إيطاليا أرضعت النائبة في مجلس النواب جيلدا سبورتييلو طفلها تحت قبة المجلس، وذلك أثناء حضورها للتصويت على الإدارة العامة في يونيو (حزيران) الماضي. وسبقتها عام 2018 كل من النائبة الأسترالية لاريسا واترز التي أرضعت ابنتها التي لم تكن تبلغ الشهرين بعد، وتحتاج إلى الرضاعة بفترات متقاربة. ووزيرة الصحة الكندية كارينا غولد التي حضرت للتصويت على سن قانون ضد المخدرات في البرلمان الكندي. وعرفت الجميع على طفلها بمن فيهم رئيس الوزراء جاستين ترودو. وكتبت تغريدة قالت فيها "الرضاعة الطبيعية ليست عاراً! الطفل يريد أن يأكل وأنا أريد أن أصوت..." مشيرة إلى دعم زملائها.

مع أو ضد

لا تنسى مايا عواد عيني طفلها "ملكار" المثبتة بعينيها وهو يرضع، تقول إن تلك النظرة محفورة في وجدانها وإن شعورها لا يوصف، رغم أنها لم تستطع إرضاعه إلا لشهرين مع الاستعانة بالحليب البديل، وتقول "إنه مثل كل الأطفال يكون جائعاً فيمسك بثديي ويحدق في عيني، وما إن يشبع حتى يبدأ وقت اللهو، وتصبح أي محاولة لإيقاف الأمر حافزاً ليعود إلى الرضاعة إلى أن يغفو كلياً".

عانت "ربى" الأمرين في محاولة إرضاع أطفالها، وتقول "رغم أنني حاولت مراراً وتحملت الألم المبرح، ولكن كان الحليب ممزوجاً بالدماء بسبب تشققات لم أستطع معالجتها، فطلب الطبيب مني إيقاف هذه المعاناة، والاكتفاء بحضنهم أثناء إرضاعهم من الزجاجات المعقمة".

وجهة نظر أخرى، "إينا" سألت طبيبها في باريس هل عليها إرضاع طفلها، ليجيبها "أنت لست بقرة، والأمر يعود إليك". ولم ترضع طفليها!

أما "مي" فلقد اختارت بعد محاولة صغيرة ألا ترضع أطفالها "الأمر متعب جداً ومحصور بالأم، ولم أحاول حتى أن أضع نفسي تحت هذا الضغط".

 

في حين اعتبرت "ندى" أن حليب "الفورميلا" فيه مواد مغذية وأفضل للطفل، كما أن الأم تكون متعبة بعد فترة الحمل، ومن حقها أن تقرر إذا كانت قادرة بعد على الإرضاع، أو تجربة هذا الشعور والالتزام به. وتقول إنها عادت للعمل بعد أقل من شهر من الولادة، فكان شعور الانفصال مرهقاً، عاطفياً وجسدياً. فقررت بعد أيام أن تتوقف عن سحب الحليب لإرضاع ابنتها.

وتخبر فاطمة مرعي التي انتظرت طفلها الأول 13 عاماً، وكان تركيزها منصباً على إرضاعه. "ولد ابني حسن مع متلازمة داون، وعلمت أن أطفال هذه المتلازمة لا يعرفون كيفية التقام الثدي بسبب حجم لسانهم الكبير، ولكن الحمد لله، استطاع حسن التقامه ورضع بشكل طبيعي. وكنت أسحب له الحليب أثناء العمل ليتغذى عليه أثناء غيابي واستمر الأمر لسنة كاملة، مع مساعدة الحليب الصناعي".

وتعرضت فاطمة بعد وضع مولودها الثاني "علي" لأوجاع وتشققات خلال الرضاعة، "صارت الرضاعة مؤلمة. فلجأت إلى اختصاصية رضاعة طبيعية لتساعدني على معالجة المشكلة، ولكن بعد شهر من الولادة ولأسباب صحية اضطررت لدخول المستشفى لمدة 20 يوماً، وأصبح طفلي يعتمد على الحليب المصنع كلياً. وبعد عودتي عدت للرضاعة الطبيعية، وبعد أقل من شهر اضطررت لدخول المستشفى للمرة الثانية وما زلت. وأحاول سحب الحليب أربع أو خمس مرات للحفاظ على استدراره، رغم أن طفلي لا يستفيد منه بسبب العلاج الذي أتلقاه، وعلى أمل أن أعود لإرضاعه بعد خروجي".

وتضيف "الرضاعة الطبيعية ليست فقط مهمة للطفل والأم من الناحية الصحية، هي لحظات مقدسة، يكون فيها الطفل قريباً إلى قلب أمه ونفسها، إنه تواصل بصري وجسدي وروحي، ولحظات مفعمة بالحب ومشاعر لا تترجم إلى كلمات. وعندما حملت بطفلي الثاني قلت لزوجي إن أكثر ما أشتاق إليه هو الرضاعة الطبيعية".

وعن الإرضاع في الأماكن العامة تقول، إنها شخصياً تنزوي في مكان خاص للحفاظ على كثافة هذه اللحظات التي لا تتكرر بين الأم وطفلها. وتجد في الأمر حرية شخصية ولكل أم أن تختار.

أمهات أخريات حرمن من الإرضاع لأسباب مختلفة منها ما يتعلق بكآبة ما بعد الولادة، أو بسبب مرض ما. أو لأنهن فقدن أطفالهن بعد الولادة. وكتبت مرة إحدى السيدات التي ولدت توأماً وفقدت الأول بعد يومين، والثاني بعد أسبوع، منشوراً مؤثراً بما معناه، إن حليبها يتدفق، وإنها جاهزة لإمداد أي أم غير قادرة على إرضاع طفلها، أو لدور الأيتام والمؤسسات بحال وجود أطفال يحتاجون إلى لحليب.

حتى للحيوانات

تتبرع الحيوانات لإرضاع صغار بعضها البعض. ففي إحدى حدائق الحيوانات في تركيا أرضعت عنزة برية غزالاً صغيراً بعدما امتنعت أمه عن إرضاعه بعد موت توأمه.

ولطالما شاهدنا فيديوهات وصوراً لكلبات ترضع قططاً أو العكس. ونشعر أن هذه الثدييات الأمهات لا تمانع من إرضاع صغار الحيوانات وحتى البشر. وقد أظهرت صور عديدة أطفالاً يرضعون من الأبقار، بخاصة أولئك الذين يعيشون في المزارع والأرياف فيكونون أقرب إلى فطرة الطبيعة.

واشتهرت في التاريخ الإيطالي أسطورة التوأمين "رومولوس ورموس" اللذين أمرهما والدهما بالقفز في نهر التيبر بعد أن أزيح عن العرش، فأنقذتهما ذئبة اسمها "لوبا". وخلدت القصة في تمثال برونزي اسمه "ذئبة كابيتولينا" ترضع طفلين. وتكرر نموذج هذا التمثال في دول عدة مثل إسبانيا، وليبيا، والسويد، واليابان.

وانتشرت على وسائل التواصل صور تظهر سيدات يرضعن أطفالهن من ثدي ويرضعن وليد حيوان من الثدي الآخر. أو يرضعن الحيوان وحده في مشهد غير مألوف كصغار الغزلان والقردة والعجول، والسناجب، والكلاب، والقطط. وترضع نساء قبيلة بيشنوي الهندية صغار الحيوانات الأليفة ويحمونها من الحيوانات البرية. تعكس هذه الصور انسجام كائنات الطبيعة بين مختلف أشكال الحياة، ويسمو شعور الأمومة فوق أي اعتبار، وكأن الطبيعة الأم توقظ غريزة الأمهات اللاتي لم تقولبهن بعد الشرائع والمجتمعات الحديثة.

المزيد من صحة