عبارات كثيرة ما إن تُنطق أو تُقرأ حتى تستدعي شعوراً بالإيجابية والأمان والسعادة الخفية لأسباب ربما لا يعرفها السامع أو القارئ نفسه. وعبارات أخرى تستدعي مشاعر معاكسة بل استنفاراً وغضباً بل وحتى قرفاً. "الرضاعة الطبيعية" إحدى هذه العبارات. فما إن تُذكر في جملة مفيدة أو غيرها حتى ترتسم ابتسامة رضا واطمئنان على أغلب الوجوه، رجالاً ونساءً، فقراء وأغنياء، متعلمين أو غيرهم.
رمز الأمان
وإذا كانت مليارات البشر تطمئن وتهفو إلى فكرة "الرضاعة الطبيعية" ولو على سبيل الرمز للأمان والحب من دون مقابل أو رجاء، فهناك آخرون لا يطمئنون ولا يهفون إليها. منهم من يحتفظ بمشاعره لنفسه اتقاءً لشرور الهجوم ودرءاً لمغبة السير عكس الاتجاه الرائج، ومنهم من يعتبر التعبير عن رفضه لها أو يوضح موقفه منها حقاً أصيلاً وتعبيراً مشروعاً.
وحين شرعت الفنانة المصرية بسمة قبل أيام في شرح وجهة نظرها فيما يختص بالرضاعة الطبيعية بقولها "إنها وقت الحمل كانت تقول لنفسها إنها لن ترضع مولودها لأنها ليست بقرة ولن تمارس دور البقرة"، انقلبت دنيا الأمهات والآباء ومنصات التواصل الاجتماعي والمجموعات الرافعة راية الدين، ومجموعات النساء اللاتي أرضعن وأولئك ممن لم يفعلن رأساً على عقب.
ترند البقرة
عقب كلمات بسمة عن الرضاعة والبقرة، التي كانت ضمن حديث تلفزيوني، تلقفت الملايين الربط بين الرضاعة والبقرة وتحولت بسمة والبقرة إلى ترند مشتعل خلال ساعات. بالطبع شكل الهبد والرزع وتكييل الاتهامات سابقة التعليب للفنانة بأنها تتحدث ضد الطبيعة وتتشبه بالغرب غير العابئ بفطرة الإنسان وتعاليم الإسلام والتفرقة بين الإنسان والحيوان، إلى آخر قائمة الهبد المعنوي والاغتيال الأخلاقي والقيمي اللذين باتا سلاحين شديدي الفتك والتدمير في زمن شعبوية السوشيال ميديا. لكن ما حدث كذلك هو أن كلمات بسمة أعادت فتح ملف الرضاعة الطبيعية المغلق منذ زمن، تارة باعتباره تحصيل حاصل حتى لو لم يكن كذلك، وأخرى تحت وطأة تخمة قائمة الأولويات والانشغالات الرسمية والشعبية.
شعبياً، الرضاعة الطبيعية في مصر منظومة سائدة عابرة للطبقات. لكن مصر ليست منفصلة عن العالم الخارجي وما يدور فيه من حملات وتوجهات ودعوات على مر العصور. وإذا كانت أعراف الغالبية المطلقة تمثل نوعاً من الضغط على اختيارات الأقلية فتختار أن تحتفظ باختياراتها لنفسها ترشيداً لحملات الهجوم واتقاءً لشرور عقوبات الخارجين على التنميط، فإن هذا لا يعني أن كل أمهات مصر يعشقن الرضاعة الطبيعية ولا يهدرن دقيقة في التفكير في رفضها أو نبذها.
اجتزاء واختيار
نبذ الفنانة بسمة وحملة الهجوم الشعبي والطبي عليها لم تتوقف كثيراً عند محتوى ما قالته في البرنامج من دون اجتزاء. اجتزاء الصحافة ومعها السوشيال ميديا للكلمات واختيار "لست بقرة ولن أمارس دور البقرة" وليس ما قبلها وما بعدها من كلمات "لكن في النهاية رضعت ابنتي طبيعي لمدة سنتين ومن دون تنظيم مواعيد الرضاعة فكلما كانت تجوع كنت أرضعها"، أسفر عن "حملة مكاشفة مصغرة" على غرار "مي تو" (أنا أيضاً)؛ أي حملة متناهية الصغر لأمهات جاهرن باختيارهن الرضاعة الصناعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من ضآلة حجم المجاهرات باختيار الرضاعة الصناعية لأسباب مختلفة في مقابل ضخامة المهاجمات والمهاجمين لكل من تسول له أو لها نفسها مجرد التفكير في نبذ الرضاعة الطبيعية طالما لا توجد موانع صحية، فإن الملف انفتح ولا مجال لغلقه قريباً.
وحتى سنوات قريبة مضت، ناصبت حركات نسوية عدة الرضاعة الطبيعية العداء، وذلك ضمن قائمة من دعوات التحرر من كل ما من شأنه أن يحصر المرأة في أدوار تضعها في مكانة غير مساوية للرجل، بدءاً بفرص العمل التي كانت حكراً على الرجال مروراً بحدود العلاقات الجنسية حيث للرجل حق ممارستها أينما وكيفما شاء وانتهاء بالرضاعة الطبيعية التي تجعل من المرأة "بقرة".
الرضاعة لا تليق بالأرستقراطية
ملكة بريطانيا في القرن الـ19 الملكة فيكتوريا كانت ضمن النساء اللاتي لم يمتثلن لنصائح فوائد الرضاعة الطبيعية، ووظفت مرضعة لصغارها. ليس هذا فقط، بل كانت من أشد المعارضات للرضاعة الطبيعية معتبرة إياها ممارسة لا تليق بالأرستقراطيات. وحين قررت ابنتاها أن ترضعا صغارهما طبيعياً، انتابها غضب شديد وقالت لهما إن الرضاعة وظيفة حيوانية.
"الوظيفة الحيوانية"، كانت النهج نفسه الذي سارت عليه جماعات النسوية الأصولية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من أن الحركات النسوية الغربية لم يكن لها منهج واحد أو أهداف متطابقة، فإن العديد منها اتخذ من الرضاعة الطبيعية منظومة يجب محاربتها من أجل إشهار المساواة بين الرجل والمرأة وتحرير المرأة من خانة "الحيوان" وفي أقوال أخرى "البقرة".
موجات من النسوية الأصولية الغربية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي اعتبرت تحلل المرأة من الرضاعة ضمن شروط أو تسهيلات تحررها من قيود عدم المساواة. نظرة المجتمع إلى المرأة باعتبار دورها الرئيس محصوراً في أدوارها البيولوجية أقلق مضاجع الكثيرين، وبدلاً من توسيع مفهوم دور المرأة انحاز البعض إلى "إلغاء" الدور البيولوجي ومن ضمنه الرضاعة.
لكن سنوات ما بعد الستينيات والسبعينيات أتت برياح نسوية أيضاً لكن تعتبر الرضاعة اختيار المرأة نوعاً من التمكين وهيمنة المرأة على جسدها من دون تدخل من أحد. فإن اختارت الرضاعة الطبيعية، فليكن، وإن اختارت الصناعية، فلها هذا.
احترام الاختيار
وفي عام 2018 أصدرت الجمعية الملكية للقابلات في بريطانيا بياناً قالت فيه إن "قرار المرأة لترضع أو لا ترضع طفلها طبيعياً هو اختيارها ويجب أن يُحترم".
احترام قرار المرأة لا ينفي أن المنظمات الأممية المعنية بالصحة ومعها العديد من الجمعيات والجماعات حول العالم التي تعمل في مجال صحة المرأة والطفل لا تألو جهداً في التوعية وتأكيد أهمية الرضاعة الطبيعية وفوائدها للأم والمولود.
منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونسيف" تؤكد دوماً "أن لبن الأم هو أفضل مصدر للغذاء السليم للطفل، الذي يمنحه أفضل بداية لحياته، وأن بعض الأمهات يتوقفن عن الرضاعة الطبيعية مبكراً بسبب تحديات الحياة اليومية والاستماع لبعض المقولات الخاطئة. ولأن "يونسيف" لن تتدخل في "التحديات اليومية" فهي تركز جهدها على تفنيد المقولات الخاطئة. أبرز تلك المقولات هي أن الرضاعة الطبيعية لا تحتاج إلى أي تدريب أو توعية، وأن لبن السرسوب (أول لبن بعد الولادة) مضر للرضيع، وأن لون لبن الأم الخفيف يعني أنه ليس مغذياً بالقدر الكافي، وأنه لا يجب وضع المولود إلى جوار الأم عقب الولادة، وأن الرضاعة الطبيعية تتطلب تناول الأم أغذية عالية السعرات حتى تتمكن من إرضاع صغيرها، وأن الرضاعة تسبب ألماً رهيباً في الثدي وتشققات في الحلمة، وأن كثرة الرضاعة وإرضاع الطفل وقتما يحب هو تدليل له، وأن الرضاعة وراثية؛ أي إن الأم التي لا ترضع صغيرتها لم تتمكن صغيرتها من إرضاع صغارها طبيعياً".
طبقية الرضاعة
إرضاع الصغار في مصر طبيعياً هو السائد. لكن هناك، لا سيما في الطبقات الاجتماعية الأعلى، من يفضل أو يود أو يميل إلى غيره، والأسباب معروفة ولا تخرج في أغلبها عن: متطلبات العمل والعودة السريعة بعد إجازة الوضع، صعوبة عملية التشفيط والاحتفاظ بلبن الأم في زجاجات معقمة لتعويض ساعات غيابها، الوزن الزائد وتغير شكل الجسم، الخوف من ألم قضمات الصغير، والصورة الذهنية التي تربط بين إرضاع الأم صغيرها وإرضاع البقرة عجلها، وهو ما يستحضر ما قالته الفنانة بسمة التي اعتقدت أنه لا ضرر من الحديث عما كان يجول في خاطرها.
خاطر بسمة، الذي تبدد بعد ولادة ابنتها، هو المهيمن حالياً. طبيب القلب جمال شعبان كتب على صفحته على "فيسبوك"، "والله ظلمنا البقرة. من تخشى أن ترضع طفلها لأنها ليست بقرة عليها أن تعرف فوائد الرضاعة الطبيعية للبقرة، إذ تساعد على التخلص من الوزن الزائد دون جهد وانقباض الرحم وعودتها إلى حجمها الطبيعي".
هوى الكثيرين
جاءت كلمات شعبان على هوى كثيرين، لا سيما أنه فتح باب إلقاء البقرة في ملعب بسمة. الصخب الدائر حالياً كرد فعل على بقرة بسمة منقسم إلى نصفين؛ المتضررون، أو بالأحرى المتضررات، من تشبيه الأمهات اللاتي أرضعن ويرضعن وسيرضعن صغارهن طبيعياً بالبقرة، ولو كان التشبيه ذُكر في سياق الحكي لما كان قبل ولادة طفلة بسمة. والثاني هو جموع المتربصين بكل ما يصدر عن أهل الفن، لا سيما النساء، استجابة وانعكاساً للهوى الديني المتشدد في المجتمع.
اختار البعض أن ينشر صوراً فوتوغرافية لبسمة وهي ترتدي فساتين سهرة اعتبرها البعض كاشفة وصنفها آخرون بـ"الفاضحة" مع تعليقات ترفع من شأن البقرة وتقلل من قيمة الفنانة مع مسحات دينية حيث فتاوى مفادها أن من ترفض أو تهمل الرضاعة الطبيعية آثمة.
إثم الدين وفرض المجتمع
وبين الإثم الذي يستصدره البعض من رجال دين والاختيار الذي يرتكن إليه الآخر مسافات ثقافية وفجوات اجتماعية وهوّات مجتمعية تجعل الرضاعة الطبيعية في حيرة من أمرها بين كونها فرضاً من الفروض أو اختياراً من الاختيارات.
يشار إلى أن المصريين القدماء هم أول من استعان بـ"المرضعة" التي كانت وظيفتها الإرضاع، وكانت امرأة ولدت حديثاً وتعمل بإرضاع أبناء وبنات الآخرين. ويشرح الباحثان في علم الأنثروبولوجيا في جامعة القاهرة سامح الحبشي والشيماء عبد الجواد في دراسة عنوانها "مهنة المرضعة في مجتمع مصر القديمة" والمنشور في الدورية الدولية لعلوم التمريض الأفريقية أن "المكانة الاجتماعية للمرضعة في مصر القديمة كانت تحددها هوية ومكانة الرضيع، بمعنى أنها لو كانت ترضع أبناء وبنات الملوك والملكات وكبار المسؤولين في الدولة فهي مرضعة رفيعة الشأن والعكس صحيح. بل إن أقارب المرضعة التي ترضع أبناء وبنات الكبار كانوا يحظون بامتيازات عديدة".