Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الابنة قتلت أباها مريض ألزهايمر من غير وضوح

"استغماية" للمصرية كاميليا حسين فازت بجائزة رواية الجريمة

لعبة الإستغماية أو الغميضة (سوشيل ميديا)

ملخص

"استغماية" للمصرية كاميليا حسين فازت بجائزة رواية الجريمة

"استغماية" (الدار المصرية- اللبنانية، 2023) هي الرواية الأولى للمصرية كاميليا حسين والفائزة بجائزة "ورشة أصوات وخطوط لرواية الجريمة الأدبية" التي نظمتها شركة ستوريتل للكتب الصوتية ومقرها السويد. في مطلع 2022 تم الإعلان عن ورشة "أصوات وخطوط: رواية الجريمة الأدبية" تحت إشراف الكاتبة منصورة عز الدين. يبدأ الإعلان بجملة أتحفظ قليلاً على دقتها وجاء فيها "رواية الجريمة لم تترسخ في المشهد الأدبي العربي كما ترسخت في آداب أخرى"، وينبع تحفظي من وجود الجريمة وربما حتى الجريمة الأدبية في المشهد الروائي العربي في رواية "ميرامار" و"الطريق" و"بداية ونهاية" لنجيب محفوظ على سبيل المثال فقط. لكن ما يلفت الانتباه هو وعي الإعلان بصعوبة تصنيف مصطلح رواية الجريمة الأدبية، "فالمصطلح نفسه يعتبره بعضهم مفتوحاً على آفاق واحتمالات عدة، وهذا الانفتاح تحديداً هو ما يمنح رواية الجريمة الأدبية ثراء وما يجعلها أكثر إثارة للاهتمام. 

الكلام هنا ليس عن الرواية البوليسية المشغولة بالكشف عن لغز جريمة ما أو بالوصول إلى قاتل ما، بل عن نوع أدبي قد ينطوي على جريمة ما، لكنه يذهب أبعد منها ويتجاوزها إلى طرح انشغالات فكرية أو اجتماعية أو فلسفية بأسلوب أدبي مشوق سريع الإيقاع". على خلفية هذه الفكرة جاءت رواية "استغماية" كـ"نوفيلا" تضم سبعة فصول يغيب عنها أي فائض لغوي أو سردي.

موهبة الحذف

بقدر ما يعتبر التكثيف والجرأة على الحذف موهبة ومهارة، إلا أن خلفية كاميليا حسين ساعدتها على هذا الأمر. فهي كاتبة قصة قصيرة، بالتالي تعد "استغماية" هي أول عمل روائي تكتبه وهو ما يُحسب لها. فليس من السهل الخروج من عالم القصة القصيرة حيث الحدث المنفرد والتأثير المحدد للدخول في عالم الرواية الذي يتجول بحرية أكبر بين الشخصيات وعوالمها. وفي الحوار الذي أجرته معها "أخبار الأدب" الثلاثاء الماضي، تفسر حسين غياب الفائض اللغوي في روايتها بقولها "أعتقد بأن الأمر له علاقة بالطريقة التي أرى بها العالم، أحياناً أشعر بأني أراقبه من ثقب صغير في باب مغلق، أعاني أحياناً لرؤية صورة كلية للأشياء، بينما تشغلني لقطات مكثفة أو زوايا بسيطة للأمور قد لا تشكل فارقاً للآخرين".


ربما هي محقة في ذلك، لكن الأمر في الأصل يتعلق بالأسلوب الذي ينتهجه الكاتب، فكم من كتّاب قصص قصيرة طالت قصصهم قليلاً أو كثيراً.

"استغماية" هي الكلمة المصرية الدارجة للعبة "الغميضة" أو الاختباء، لعبة محببة لدى الأطفال لأنها تحمل كثيراً من الإثارة والترقب. لعبة يرتفع معها مستوى الأدرينالين وهو ما يحدث للقارئ الذي يترقب ما سيظهر خلف كل باب من أبواب الذاكرة. لكن أبواب الذاكرة ليست مرتبة طولياً، بل هي تنفتح بشكل غير متوقع، هي ذاكرة تشغلها "لقطات مكثفة أو زوايا بسيطة للأمور قد لا تشكل فارقاً للآخرين". لكن ما خلفها هو ما يشكل الفارق بأكمله. وكأن الذاكرة تراوغ نفسها تماماً كلعبة الاختباء، وبالتالي تأتي اللغة مراوغة تكشف ثم تُخفي. وهكذا في طريقة مشابهة للعبة التكرار التي أسسها فرويد في كتابه "ما خلف مبدأ اللذة" (1920) الذي أوضح فيه أن العقل اللاوعي يعيد اجترار التجربة المؤلمة وكأنها معاصرة وحية، وهو ما يُشعر المرء بأنه قادر على السيطرة على عالمه الحاضر نتيجة عدم قدرته على استيعاب أو قبول الماضي. ومن هنا تتحول الشرفة المقابلة لشرفة البطلة وكأنها شاشة تعكس ماضي البطلة وتجعله حيّاً أمامها.

مشاهد متقطعة

في انفتاح الذاكرة تأتي مشاهد متقطعة تدور حول علاقات وأدوار حتمية، العلاقة بالأب والعلاقة بالأم والعلاقة بالأبناء. فالبطلة هي ابنة فقدت أمها مبكراً وهي أيضاً ابنة لم تعرف من أبيها سوى صوت الحزام الجلدي الذي ينهال به على جسد الأم. لكنه في مشاهد أخرى يكون نموذج الأب المعتاد في الطبقة الوسطى الذي يخاف على ابنته من اللعب في الشارع. ثم تزداد الأدوار بحيث تتحول البطلة إلى أم غير قادرة على مواكبة فرط نشاط ابنتها الطفلة التي تعشق لعبة الاختباء، حتى إن الأم خدعتها مرة وتركت المنزل أو لعلها كانت الأم في الشرفة المقابلة. تجاهد ذاكرة البطلة للإمساك بطرف خيط واحد، لكن الخيوط تتشابك وتشكل كرة متداخلة وتنسج مزيداً من الخيوط عبر التنقل من أمومة مشروخة، غير قادرة على مزيد من اللعب، وفاقدة للطاقة المطلوبة للتواصل مع طفلتها، وغير قادرة على الكتابة إلى أب مريض ولا بد من أن ترعاه، وهو غالباً مصاب بمرض ألزهايمر، مما يزيد من محورية الذاكرة والتذكر في النص.

في اعتناء الابنة/ البطلة/ الساردة بأبيها ما يكشف عن أزمة عمل الرعاية الذي يؤول إلى النساء دائماً، اعتقاداً من المجتمع بأن الأمر يتعلق بالغريزة. تتجلى الأزمة عندما تفقد البطلة قدرتها على الاحتمال فتزيد من جرعات المسكن في المحلول حتى يرحل الأب من هذا العالم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 لا يمكن للقارئ أن يحدد ما إذا كانت البطلة فعلت هذا بوعي وقصداً أو في لحظة انهيار نفسي، ولكن هل هذه هي الجريمة أم أن هناك جريمة أخرى استدعت حرمان هذه البطلة من ابنتها؟ هل كانت الخدعة في أثناء اللعب هي الجريمة؟ أم أن الجريمة هي عدم قدرة البطلة على مواجهة الماضي، بما جعلها تحول الشرفة أمامها إلى شاشة عاكسة؟ أم أن الجريمة هي عدم قدرة البطلة على تلبية الصورة المثالية للأمومة، تلك الصورة السائدة في المتن الثقافي الرئيس؟ وهو ما فعلته إيلينا فيرانتي في روايتها "الابنة المفقودة". ربما تكون كل هذه الأشياء مجتمعة، هي الجريمة، جريمة عدم الانصياع للقوالب النمطية المعدة سلفاً. 

تلقت رواية "استغماية" كثيراً من الثناء مع الإشارة دائماً إلى التكثيف الشديد، وهو ما يجب أن أضيف إليه نتائج التكثيف. تنبع قوة النص من المناطق الغائمة فيه، فهو قائم على لعبة الاختباء التي تسمح للقارئ بالاشتباك فعلياً مع المسكوت عنه. في هذا الاشتباك يتحول القارئ إلى طرف في لعبة الاختباء، فكلما شعر بأن الصورة اكتملت تستدعي ذاكرة البطلة مشهداً يقوض ما قبله، وكأن اللعبة لا نهائية، يشترك فيها القارئ والابنة والأم ولا يجمعهم سوى الترقب والانتظار حتى نهاية العد، 10- 20- 30، لمنح الأم/ الابنة فرصة للاختباء أو الهروب أو حتى النوم. تنام الطفلة عندما لا تجدها الأم قصداً وتنام الأم عندما لا تتمكن الطفلة من العثور عليها. وكما يبدأ النص بباب مغلق دائماً درءاً لصوت العصافير الذي قد يوقظ الابنة، ينتهي بباب مفتوح لكنه ليس مثل باب لطيفة الزيات، بل هو باب الهروب من العالم الذي تورطت فيه البطلة الأمومة. فالباب الذي فتحته البطلة صفعته خلفها، وهو ما تلاحظ منصورة عز الدين أنه باب نورا في مسرحية "بيت الدمية" لهنريك إبسن. صفعت نورا الباب نعم، لكنها كانت تعلن استعادة ذاتها وقدرتها على المواجهة، في حين أن بطلة كاميليا حسين كانت تصفع الباب هروباً من ذاتها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة